3- وهو سبحانه الذي بسط لكم الأرض ، وجعلها ذلولاً تسيرون فيها شرقاً وغرباً ، وجعل في هذه الأرض جبالا ثابتة وأنهاراً تجرى فيها المياه العذبة ، وجعل من ماء هذه الأنهار الثمرات المختلفة التي تتوالد ، والأصناف المتقابلة ، منها الحلو والحامض ، ومنها الأبيض والأسود ، وأنه سبحانه يستر النهار بالليل ، وأن في هذا الكون وعجائبه لعلامات بينة تثبت قدرة الله ووحدانيته لمن يتفكر ويتدبر .
قوله تعالى : { وهو الذي مد الأرض } ، بسطها ، { وجعل فيها رواسي } ، جبالا ثابتة ، واحدتها : راسية ، قال ابن عباس : كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض ، { وأنهاراً } ، وجعل فيها أنهارا . { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } ، أي : صنفين اثنين أحمر وأصفر ، وحلوا وحامضا ، { يغشي الليل النهار } ، أي : يلبس النهار بظلمة الليل ، ويلبس الليل بضوء النهار ، { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ، فيستدلون . والتفكر : تصرف القلب في طلب معاني الأشياء .
وبعد ذلك يهبط الخط التصويري الهائل من السماء إلى الأرض فيرسم لوحتها العريضة الأولى :
( وهو الذي مد الأرض ، وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين . يغشي الليل النهار . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .
والخطوط العريضة في لوحة الأرض هي مد الأرض وبسطها أمام النظر وانفساحها على مداه . لا يهم ما يكون شكلها الكلي في حقيقته . إنما هي مع هذا ممدودة مبسوطة فسيحة . هذه هي اللمسة الأولى في اللوحة . ثم يرسم خط الرواسي الثوابت من الجبال ، وخط الأنهار الجارية في الأرض . فتتم الخطوط العريضة الأولى في المشهد الأرضي ، متناسقة متقابلة .
ومما يناسب هذه الخطوط الكلية ما تحتويه الأرض من الكليات ، وما يلابس الحياة فيها من كليات كذلك .
وتتمثل الأولى فيما تنبت الأرض : ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ) . وتتمثل الثانية في ظاهرتي الليل والنهار : يغشي الليل النهار .
والمشهد الأول يتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم إلا قريبا . هي أن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى ، حتى النباتات التي كان مظنونا أن ليس لها من جنسها ذكور ، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر ، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة ، أو متفرقة في العود . وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في إثارة الفكر إلى تدبر أسرار الخلق بعد تملي ظواهره .
والمشهدالثاني مشهد الليل والنهار متعاقبين ، هذا يغشى ذاك ، في انتظام عجيب . هو ذاته مثار تأمل في مشاهد الطبيعة ، فقدوم ليل وإدبار نهار أو إشراق فجر وانقشاع ليل ، حادث تهون الألفة من وقعه في الحس ، ولكنه في ذاته عجب من العجب ، لمن ينفض عنه موات الألفة وخمودها ، ويتلقاه بحس الشاعر المتجدد ، الذي لم يجمده التكرار . . والنظام الدقيق الذي لا تتخلف معه دورة الفلك هو بذاته كذلك مثار تأمل في ناموس هذا الكون ، وتفكير في القدرة المبدعة التي تدبره وترعاه : ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )
ونقف كذلك هنا وقفة قصيرة أمام التقابلات الفنية في المشهد قبل أن نجاوزه إلى ما وراءه . . التقابلات بين الرواسي الثابتة والأنهار الجارية . وبين الزوج والزوج في كل الثمرات . وبين الليل والنهار . ثم بين مشهد الأرض كله ومشهد السماء السابق . وهما متكاملان في المشهد الكوني الكبير الذي يضمهما ويتألف منهما جميعا .
لما ذكر تعالى العالم العلوي ، شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم السفلي ، فقال : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ } أي : جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض ، وأرساها بجبال راسيات شامخات ، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون لسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، من كل زوجين اثنين ، أي : من كل شكل صنفان .
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي : جعل كلا منهما{[15430]} يطلب الآخر طلبا حثيثا ، فإذا ذهب هذا غَشيه هذا ، وإذا انقضى هذا جاء الآخر ، فيتصرف أيضا في الزمان كما تصرف في المكان والسكان .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في آلاء الله وحكمته{[15431]} ودلائله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي مَدّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الْلّيْلَ النّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي مدّ الأرض ، فبسطها طولاً وعرضا . وقوله : وَجَعَلَ فِيها رَوَاسِيَ يقول جلّ ثناؤه : وجعل في الأرض جبالاً ثابتة والرواسي : جمع راسية ، وهي الثابتة ، يقال منه : أرسيت الوتد في الأرض : إذا أثبته ، كما قال الشاعر :
بِهِ خالِدَاتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ *** وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدَةُ بالفِهْرِ
وقوله : وأنهارا يقول : وجعل في الأرض أنهارا من ماء . وقوله : وَمِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجيْنِ اثْنَينِ ف «مِنْ » في قوله وَمِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ من صلة «جعل » الثاني لا الأول . ومعنى الكلام : وجعل فيها زوجين اثنين من كلّ الثمرات . وعنى بزوجين اثنين : من كل ذَكَرٍ اثنان ، ومن كل أنثى اثنان ، فذلك أربعة من الذكور اثنان ومن الإناث اثنان في قول بعضهم . وقد بيّنا فيما مضى أن العرب تسمي الاثنين زوجين ، والواحد من الذكور زوجا لأنثاه ، وكذلك الأنثى الواحدة زوجا وزوجة لذكرها ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ويزيد ذلك إيضاحا قول الله عزّ وجلّ : وأنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْن الذّكَرَ والأُنْثَى فسمى الاثنين الذكر والأنثى زوجين . وإنما عنى بقوله : مِنْ كُلّ زَوْجَيْن اثْنَيْن : نوعين وضربين . )
وقوله : يُغْشى اللّيْلَ النّهارَ يقول : يجلل الليل النهار فيلبسه ظلمته ، والنهار الليل بضيائه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ : أي يلبس الليلَ النهار .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ يقول تعالى ذكره : إن فيما وصفت وذكرت من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء ، لدلالات وحججا وعظات ، لقوم يتفكرون فيها فيستدلون ويعتبرون بها ، فيعلمون أن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلاّ لمن خلقها ودبّرها دون غيره من الاَلهة والأصنام التي لا تقدر على ضرّ ولا نفع ولا لشيء غيرها ، إلاّ لمن أنشأ ذلك فأحدثه من غير شيء تبارك وتعالى ، وأن القدرة التي أبدع بها ذلك هي القدرة التي لا يتعذّر عليه إحياء من هلك من خلقه وإعادة ما فني منه وابتداع ما شاء ابتداعه بها .
لما فرغت الآيات من ذكر السماوات ، ذكرت آيات الأرض .
وقوله : { مد الأرض } يقتضي أنها بسيطة لا كرة - وهذا هو ظاهر الشريعة وقد تترتب لفظة المد والبسط مع التكوير والله أعلم . و «الرواسي » الجبال الثابتة ، يقال : رسا يرسو ، إذا ثبت ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
به خالدات ما يرمن وهامد***وأشعث أرسته الوليدة بالفهر{[6887]}
و «الزوج » - في هذه الآية - الصنف والنوع ، وليس بالزوج المعروف بالمتلازمين الفردين من الحيوان وغيره ، ومنه قوله تعالى : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون }{[6888]} [ يس : 36 ] ومثل هذه الآية : { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج }{[6889]} [ ق : 7 ] .
وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة فموجود منها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد في ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم «يغْشي » بسكون الغين وتخفيف الشين ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم - في رواية أبي بكر - بفتح الغين وتشديد الشين ، وكفى ذكر الواحد ذكر الآخر ، وباقي الآية بين .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن الأزواج التي يراد بها الأنواع والأصناف والأجناس إنما سميت بذلك من حيث هي اثنان ، اثنان ، ويقال : إن في كل ثمرة ذكر وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء عند المهدوي ، وحكى عنه غيره ما يقتضي أن المعنى تم في قوله : { الثمرات } ثم ابتدأ أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى زوجين .