السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (3)

ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد وأحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية بقوله تعالى : { وهو الذي مدّ الأرض } ، أي : بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ولو شاء لجعلها كالجدار والأزج لا يستطاع القرار عليها هذا إذا قلنا أنّ الأرض مسطحة لا كرة ، وعند أصحاب الهيئة أنها كرة فكيف يقولون بذلك ومدّ الأرض ينافي كونها كرة ، كما ثبت بالدليل ؟ أجيب : بأنّ الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح كما أنّ الله تعالى جعل الجبال أوتاداً مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها ، فكذلك ومع هذا فالله تعالى قد أخبر أنه مدّ الأرض ودحاها وبسطها ، وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة هذا هو الدليل الأوّل من الدلائل الأرضية .

الثاني منها قوله : { وجعل } ، أي : وخلق { فيها } ، أي : الأرض { رواسي } ، أي : جبالاً ثوابت واحدها راسية ، أي : ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس : أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف ، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان .

الثالث منها قوله تعالى : { وأنهاراً } ، أي : وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق ، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء ، وأصله الاتساع ، ومنه النهار لاتساع ضيائه .

الرابع منها : قوله تعالى : { ومن كل الثمرات } وهو متعلق بقوله تعالى : { جعل فيها } ، أي : الأرض { زوجين اثنين } ، أي : وجعل فيها من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين ، والاختلاف إمّا من حيث الطعم كالحلو والحامض أو اللون كالأسود والأبيض ، أو الحجم كالصغير والكبير ، أو الطبيعة كالحارّ والبارد .

فإن قيل : الزوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين فما الفائدة في اثنين ؟ أجيب : بأنه قيل : إنه تعالى أوّل ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال : خلق زوجين لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علم أنه تعالى أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد ، فكما أنّ الناس وإن كان فيهم الآن كثرة فابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص آدم وحوّاء ، فكذا القول في جميع الأشجار والزروع .

الخامس منها : قوله تعالى : { يغشي } ، أي : يغطي { الليل } بظلمته { النهار } ، أي : والنهار الليل بضوئه فيعتدل فعلهما على ما قدّره الله تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان ، وذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهرة لكل ذي عقل أنها تدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره . وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين ، والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين . ولما ذكر تعالى هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة جمعها وناطها بالفكر فقال تعالى : { إن في ذلك } ، أي : الذي وقع التحدّث عنه من الآيات { لآيات } ، أي : دلالات { لقوم يتفكرون } ، أي : يجتهدون في الفكر فيستدلون بالصنعة على الصانع ، وبالسبب على المسبب . والتفكر والتدبر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء .