اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (3)

{ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } [ الآية : 3 ] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال : { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } بسطها ، قال الأصم : المد : البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله : { مَدَّ الأرض } ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً ، لا يقع البصر على منتهاه ، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها ، ودحاها من مكَّة من تحت البيت ، فذهبت كذا وكذا وقال آخرون : كانت مجتمعة عند بيت المقدس ، فقال لها : اذهبي كذا ، وكذا .

قال ابن الخطيب : وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا : الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول ، احتجوا عليه بقوله تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] وهو مشكل من وجهين :

الأول : أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ ، فإن قالوا : قوله تعالى : مد الأرض ينافي كونها كرة .

قلنا : لا نسلم ؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح ، والتَّفاوت الحاصل بينه ، وبين السَّطح ، لايحصلُ إلاَّ في علم الله تبارك وتعالى . كما في قوله تعالى { والجبال أَوْتَاداً } [ النبأ : 7 ] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه ، فكذلك هنا .

والثاني : أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع ؛ والشروط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً ، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه ، ومقداره ، صار ذلك الحجم ، وذلك المقدار عبرة ؛ فثبت أنَّ قوله : { مَدَّ الأرض } إشارة إلى أنه تعالى هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص ، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن ، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه ، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ ، وتقدير مقدِّرٍ .

قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي الجبالُ الثَّوابت ، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث ، وأيضاً كثرة استعماله الجوامد ، فجمع حائط حوائط وكاهل كواهل . وقيل : هو جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، والرسوُّ : الثبوت ، قال الشاعر : [ الطويل ]

3164 بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرمْنَ وهَامِدٌ *** وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ

فصل

قال بان عباس رضي الله عنه : كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض .

واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه :

أولها : أنَّ طبيعة الارض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم .

قالت الفلاسفة : الجبال إنّما تولّدت من البخارات ؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً ، ثم يقوى فيه تأثير الشمس ؛ فينقلب حجراً كما نشاهده ، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ ؛ فلهذا السببت تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالم لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال ، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض ، فكان التسخين أقوى ، والشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الرطوبات ، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ ، كان البخارُ في جانب الشمال ، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال ، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال ، وهذا ضعيفٌ من وجوه :

الأول : أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام ، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون العبضِ ؟ .

الثاني : أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه .

الثالث : أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان ، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تعسة آلاف سنة ، وبهذا التقدير : أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت ، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ ، لكن ليس الأمرُ كذلك ؛ فعلمنا أنَّ السبب بالذي ذكروه ضعيف .

الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع : ما يحصلُ فيها من المعادن ، ومواضع الجواهر النفيسة ، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط ، والكبريت ، فتكون طبيعة الأرض واحدة ، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتدقير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات .

الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال : وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض ؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض ، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك ، فلا تزال تتكامل ، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها ، وقوتها تثقب ، وتخرج ، وتسيل على وجه الأرض ، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه ، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في أكثر الأمر كهذه الآية ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } [ المرسلات : 27 ] .

فصل

قال القرطبي : في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله : { مَدَّ الأرض } ، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها ، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ : أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة ، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي ، والصعَّادي في الجرم والقوة فتوافقا .

وزعم آخرون : أن الأرض مركبة من جسمين .

أحدهما : منحدرٌ ، والآخر : مصدع فاعتدلا ، فلذلك وقفت ، والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض ، وسكونها ، ومدِّها ، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم .

قوله : { وَمِن كُلِّ الثمرات } يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب " جَعَلَ " [ بعده ] ، أي : وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات ، وهو ظاهرٌ .

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من : " اثْنَيْنِ " ؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ .

الثالث : أن يتمَّ الكلام على قوله : { وَمِن كُلِّ الثمرات } فيتعلق ب " جَعَلَ " الأولى على أنه من باب عطف المفردات ، يعني عطف على معمول " جعل " الأولى تقديره : أنه جعل في الأرض كذا ، وكذا ومن كل الثمرات .

قال أبو البقاء : ويكون " جَعل " الثاني مستأنفاً ، و " يُغْشِي اللَّيْلَ " تقدَّم الكلام فيه ، وهو إمَّا مستأنفٌ ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال .

فصل

المعنى : ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين ، أي : صنفين اثنين : أصفر ، وأحمر ، وحلواً ، وحامضاً .

وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات .

واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت ؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها ، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة ، ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في الأرض ، وهذا من العجائب ؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب فيها واحد ، ثم إنه يخرد من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء ، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض ، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع ، والخاصة ، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً ، وبعضها يكون نوراً ، وبعضها يكون ثمرة ، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور ، فالقشرة الأعلى ، وتحته القشرة الخشبية ، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً : فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترجد قشرهُ جارّ يابس ولحمه وماؤه حارّان رطبان ؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع ، وتأثيرات الأنجم ، والأفلاك على زعم من يدعيه لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير .

فإن قيل : الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين ، فما الفائدة في قوله : " زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ " ؟ .

فالجواب : أنه تعالى أوَّل ما خلق العالم ، وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط ، فلو قال : " زَوْجَيْنِ " لم يعلم أنَّ المراد النوع ، أو الشخص فلما قال : " اثْنَيْنِ " علمنا أنه تعالى أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [ لا أقل ولا أزيد ، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة ، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين ] بالشَّخص وهما : آدم وحواء عليهما السلام وكذلك القول في جميع الأشجار ، والزروع ، والله أعلم .

النوع الرابع : الاستدلال بأحوال الليل ، والنهار ، وإليه الإشارة بقوله : { يُغْشِي الليل النهار } وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة .

ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيستدلون ، والتَّفكر : تصرف القلب في طلب المعاني .