فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (3)

{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 3 ) }

ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ } على وجه الماء ، قال الفراء : بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ، وقال الأصم : إن المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه زاد الكرخي : فقوله مد الأرض يشعر بأنه تعالى جعل الأرض حجما عظيما لا يقع البصر على منتهاه . انتهى .

قيل وهذا المد الظاهر للبصر لا ينافي كرويتها في نفسها لتباعد أطرافها ، وبه قال أهل الهيئة{[984]} ، والله أخبر أنه مد الأرض وأنه دحاها وبسطها وأنه جعلها فراشا وكل ذلك يدل على كونها مسطحة كالأكف ، وهو أصدق قيلا وأبين دليلا من أصحاب الهيئة .

وفي الجامع الصغير حديث رواه البيهقي عن ابن عباس ولفظه : أول بقعة وضعت من الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض ، وأن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال{[985]} .

وعن ابن عمرو قال : الدنيا مسيرة خمسمائة عام ، أربعمائة عام خراب ومائة عمران ، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة ، وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقريرات لم يأت عليها دليل يصح .

وعن علي بن أبي طالب قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : أي رب تجعل علي بني آدم يعملون علي الخطايا ويجعلون علي الخبث فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون فكان إقرارها كاللحم ترجرج .

{ وَجَعَلَ فِيهَا } جبالا { رَوَاسِيَ } أي ثوابت تمسكها عن الاضطراب واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها أي تثبت والرسو الثبوت { وَأَنْهَارًا } أي مياها جارية في الأرض فيها منافع الخلق ، أو المراد جعل فيها مجاري الماء .

{ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } متعلق بجعل في قوله { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر ، وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع ، ولكن اثنينية ذلك اثنينية اعتبارية ، أي جعل من كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين ، إما في اللونية كالبياض والسواد ونحوهما أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما أو في القدر كالصغر والكبر أو في الكيفية كالحر والبرد وما أشبه ذلك ، ويجوز أن يتعلق بجعل الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية ذلك الجعل ، قاله أبو السعود .

قال الفراء : يعني بالزوجين هنا الذكر والأنثى من كل صنف ، ومثله عن مجاهد والأول أولى .

{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي يلبسه مكانه فيصير أسودا مظلما بعدما كان أبيضا منيرا أشبه إزالة نور الجو بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها أي يستر النهار بالليل ، والتركيب وإن احتمل العكس أيضا بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضا ساتر لظلمة الليل إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي .

وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض فإن الليل إنما هو ظلها وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلا ، ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والانضاج على أنهما أيضا زوجان متقابلان مثلها ، وقرئ يغشى من التغشية ، وقد سبق تفسير هذا في الأعراف .

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } المذكور من مد الأرض وإثباتها بالجبال وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة وتعاقب النور والظلمة { لَآيَاتٍ } بينة { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي للناظرين المتفكرين المعتبرين فيستدلون بالصنعة على الصانع وبالسبب على المسبب والفكر وهو تصرف القلب في طلب الأشياء .

وقال صاحب المفردات : الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان ولا يقال إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب ، ولهذا روى تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله إذ الله منزه عن أن يوصف بصورة .


[984]:ضعيف الجامع الصغير / 2131.
[985]:ضعيف الجامع الصغير / 2131.