فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (3)

ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال : { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } قال الفراء : بسطها طولاً وعرضاً . وقال الأصمّ : إن المدّ : هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه ، وهذا المدّ الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } أي : جبالاً ثوابت ، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها ، أي : تثبت . والإرساء : الثبوت . قال عنترة :

فصرت عارفة لذلك حرّة *** ترسو إذا نفس الجبانِ تطلع

وقال جميل :

أُحبها والذي أرسى قواعِده *** حتى إذا ظَهرت آياتُه بطنا

{ وأنهارا } أي : مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق ، أو المراد جعل فيها مجاري الماء { وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده ، أي : جعل فيها من كل الثمرات { زوجين اثنين } ، الزوج يطلق على الاثنين ، وعلى الواحد المزاوج لآخر ، والمراد هنا بالزوج الواحد ، ولهذا أكد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين ، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفى ، أي : جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين ، إما في اللونية : كالبياض والسواد ونحوهما ، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما ، أو في القدر كالصغر والكبر ، أو في الكيفية كالحر والبرد . قال الفراء : يعني بالزوجين هنا : الذكر والأنثى . والأول أولى { يغشى الليل النهار } أي : يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً ، شبه إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها ، وقد سبق تفسير هذه في الأعراف { إِنَّ فِي ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيما ذكر من مدّ الأرض وإثباتها بالجبال ، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة . وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين .

/خ4