قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم } ، أي : فبنقضهم ، وما صلة كقوله تعالى : { فبما رحمة من الله } [ آل عمران :159 ] ، ونحوها .
قوله تعالى : { وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم } ، أي : ختم عليها .
قوله تعالى : { فلا يؤمنون إلا قليلاً } ، يعني : ممن كذب الرسل ، لا ممن طبع على قلبه ، لأن من طبع الله على قلبه لا يؤمن أبداً ، وأراد بالقليل : عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقيل معناه : لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً .
ولكن ماذا كان ؟ إنهم بمجرد ذهاب الخوف عنهم ؛ وغياب القهر لهم ، تملصوا من الميثاق الغليظ فنقضوه ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا أنبياءه بغير حق . وتبجحوا فقالوا : إن قلوبنا لا تقبل موعظة ، ولا يصل إليها قول ، لأنها مغلفة دون كل قول ! وفعلوا كل الأفاعيل الأخرى التي يقصها الله سبحانه على رسوله وعلى المسلمين - في مواجهة اليهود - في سياق هذه الآيات . .
( فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف )
وعند قولهم : ( قلوبنا غلف ) . . وهي القولة التي كانوا يجيبون بها على دعوة الرسول [ ص ] إما تيئيسا له من إيمانهم واستجابتهم ، وإما استهزاء بتوجيه الدعوة إليهم ، وتبجحا بالتكذيب وعدم الإصغاء ، وإما هذا وذلك معا . . عند قولهم هذا ينقطع السياق للرد عليهم :
( بل طبع الله عليها - بكفرهم - فلا يؤمنون إلا قليلا - )
فهي ليست مغلفة بطبعها . إنما هم كفرهم جر عليهم أن يطبع الله على قلوبهم ، فإذا هي صلدة جامدة مغطاة ، لا تستشعر نداوة الإيمان ولا تتذوق حلاوته ، فلا يقع منه الإيمان ، إلا قليلا ، ممن لم يستحق بفعله ، أن يطبع الله على قلبه . أي أولئك الذين فتحوا قلوبهم للحق واستشرفوه ، فهداهم الله إليه ورزقهم إياه . وهم قلة قليلة من اليهود . كعبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن سعية ، وأسد بن عبيدالله . .
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها ، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى ، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم ، وكفرهم بآيات الله ، أي : حججه وبراهينه ، والمعجزات التي شاهدوها على أيدي الأنبياء ، عليهم السلام .
قوله{[8549]} { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله ، فإنهم قتلوا جمّا غفيرًا من الأنبياء [ بغير حق ]{[8550]} عليهم السلام .
وقولهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة ، والسّدّي ، وقتادة ، وغير واحد : أي في غطاء . وهذا كقول المشركين : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ]{[8551]} } [ فصلت : 5 ] . وقيل : معناه أنهم ادعَوْا أن قلوبهم غُلُف للعلم ، أي : أوعية للعلم قد حوته وحصلته . رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس . وقد تقدم نظيره{[8552]} في سورة البقرة .
قال الله تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول ؛ لأنها في غلف وفي أكنة ، قال الله [ تعالى ]{[8553]} بل هو مطبوع عليها بكفرهم . وعلى القول الثاني عكس عليهم ما ادَّعَوْه من كل وجه ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة .
{ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } أي : مَرَدت قلوبهم على الكفر والطغيان وقلة الإيمان .
{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه : فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب ميثاقهم ، يعني عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة . وكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّهِ يقول : وجحودهم بآيات الله ، يعني : بأعلام الله وأدلته التي احتجّ بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله ، وحقية ما جاءوهم به من عنده . وَقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بغيرِ حَقَ يقول : وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوّتهم بغير حقّ ، يعني : بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها . وقولهم : قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني : وبقولهم : قلوبنا غلف ، يعني يقولون : عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه ، فلا نَفْقَهُ ما تقول ، ولا نعقله . وقد بينا معنى الغلف ، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل . بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ يقول جلّ ثناؤه : كذبوا في قولهم قلوبنا غلف ، ما هي بغلف ولا عليها أغطية ولكن الله جلّ ثناؤه جعل عليها طابعا بكفرهم بالله . وقد بينا صفة الطبع على القلب فيما مضى بما أغنى عن إعادته . فَلا يُؤْمِنونَ إلاّ قَلِيلاً يقول : فلا يؤمن هؤلاء الذين وصف الله صفتهم لطبعه على قلوبهم ، فيصدّقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله إلا إيمانا قليلاً ، يعني : تصديقا قليلاً . وإنما صار قليلاً لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به ، ولكن صدّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب وكذّبوا ببعض ، فكان تصديقهم بما صدّقوا به قليلاً ، لأنهم وإن صدّقوا به من وجه ، فهم به مكذّبون من وجه آخر . وذلك من وجه تكذيبهم من كذّبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله ورسل الله يصدّق بعضهم بعضا ، وبذلك أمر كلّ نبيّ أمته ، وكذلك كتب الله يصدّق بعضها بعضا ويحقق بعض بعضا ، فالمكذّب ببعضها مكذّب بجميعها من جهة جحوده ما صدّقه الكتاب الذي يقرّ بصحته ، فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلاً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يقول : فبنقضهم ميثاقَهم لعناهم وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ : أي لا نفقه ، بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم حين فعلوا ذلك .
واختلف في معنى قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ . . . الاَية ، هل هو مواصل لما قبله من الكلام ، أو هو منفصل منه ؟ فقال بعضهم : هو منفصل مما قبله ، ومعناه : فبنقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بكُفْرِهِمْ ولعنهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً لما ترك القوم أمر الله ، وقتلوا رسله ، وكفروا بآياته ، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم . طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم .
وقال آخرون : بل هو مواصل لما قبله قالوا : ومعنى الكلام : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، فبنقضهم ميثاقَهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم الأنبياء بغير حقّ وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة . قالوا : فتبع الكلام بعضه بعضا ، ومعناه مردود إلى أوّله . وتفسير ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما فسر به تعالى ذكره مِن نقضهم الميثاق ، وقتلهم الأنبياء ، وسائر ما بين من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم .
والصواب من القول في ذلك أن قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وما بعده منفصل معناه من معنى ما قبله وأنّ معنى الكلام : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وبكذا وبكذا ، لعنّاهم وغضبنا عليهم ، فترك ذكر «لعناهم » لدلالة قوله : بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ على معنى ذلك ، إذ كان مَن طبع على قلبه فقد لُعن وسُخط عليه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الذين أخذتهم الصاعقة إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء والذين رَمَوْا مريم بالبهتان العظيم ، وقالوا : قتلنا المسيحَ ، كانوا بعد موسى بدهر طويل ، ولم يدرك الذين رَمَوْا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى ولا مَن صُعِق من قومه . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة لم تأخذهم عقوبة لِرَميهم مريم بالبهتان العظيم ، ولا لقولهم : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن القوم الذين قالوا هذه المقالة ، غير الذين عوقبوا بالصاعقة . وإذا كان ذلك كذلك ، كان بينا انفصال معنى قوله : فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من معنى قوله : فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ .
وقوله تعالى { فبما نقضهم } الآية ، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه ، والإيمان الذي تضمنه { ادخلوا الباب سجداً } إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله كفرهم بآيات الله ، وقولهم : حبة في شعرة وحنطة في شعيرة ، ونحو ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به ، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت ، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر ، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة ، وهي قتل الأنبياء ، وكذلك أخذ «الميثاق الغليظ » منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه ، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم . وقولهم { قلوبنا غلف } أي هي في حجب وغلف{[4359]} ، فهي لا تفهم ، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم ، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم ، وقرأ نافع «تعْدّوا » بسكون العين وشد الدال المضمومة{[4360]} ، وروى عنه ورش «تعَدّوا » بفتح العين وشد الدال المضمومة{[4361]} وقرأ الباقون «لا تعْدوا » ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة وقرأ الأعمش والحسن «لا تعتدوا » وقوله تعالى : { فبما } ما زائدة مؤكدة ، التقدير فبنقضهم ، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم ، متروك مع ذهن السامع ، تقديره لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم{[4362]} .