185- وهذه الأيام هي شهر رمضان الجليل القدر عند الله ، لقد أنزل فيه القرآن يهدي جميع الناس إلى الرشد ببيِّاناته الواضحة الموصلة إلى الخير ، والفاصلة بين الحق والباطل على مَرِّ العصور والأجيال ، فمن أدرك هذا الشهر سليماً غير مريض ، مقيماً غير مسافر فعليه صومه ، ومن كان مريضاً مرضاً يضر معه الصوم ، أو كان في سفر ، فله أن يفطر وعليه قضاء صيام ما أفطره من أيام الصوم ، فإن الله لا يريد أن يَشُقَّ عليكم في التكاليف وإنما يريد لكم اليسر ، وقد بين لكم شهر الصوم وهداكم إليه لتكملوا عدة الأيام التي تصومونها وتكبروا الله على هدايته إياكم وحسن توفيقه .
ثم بين الله تعالى أيام الصيام فقال : { شهر رمضان } . رفعه على معنى هو شهر رمضان ، وقال الكسائي : كتب عليكم شهر رمضان ، وسمي الشهر " شهر " لشهرته ، وأما رمضان فقد قال مجاهد : هو اسم من أسماء الله تعالى ، يقال شهر رمضان كما يقال شهر الله ، والصحيح أنه اسم للشهر سمي به من الرمضاء وهي الحجارة المحماة ، وهم كانوا يصومونه في الحر الشديد فكانت ترمض فيه الحجارة في الحرارة .
قوله تعالى : { الذي أنزل فيه القرآن } . سمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور ، والآي والحروف وجمع فيه القصص ، والأمر والنهي والوعد والوعيد . وأصل القرء الجمع ، وقد يحذف الهمز منه فيقال : قريت الماء في الحوض إذا جمعته ، وقرأ ابن كثير : القرآن بفتح الراء غير مهموز ، وكذلك كان يقرأ الشافعي ويقول ليس هو من القراءة ، ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل .
وروي عن مقسم عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله عز وجل ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) وقد نزل في سائر الشهور ؟ وقال عز وجل : ( وقرآناً فرقناه ) فقال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة فذلك قوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) .
قال داود بن أبي هند : قلت للشعبي : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) أما كان ينزل في سائر الشهور ؟ قال : بلى ، ولكن جبريل كان يعارض محمداً صلى الله عليه وسلم في رمضان ما نزل إليه فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وينسيه ما يشاء .
وروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في ثلاث ليال مضين من رمضان ، ويروى في أول ليلة من رمضان وأنزلت توراة موسى عليه السلام في ست ليال مضين من رمضان ، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان ، وأنزل الزبور على داود في ثمان عشرة مضت من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في الرابعة والعشرين من شهر رمضان لست بقين بعدها " .
قوله تعالى : { هدى للناس } . من الضلالة ، وهدى في محل نصب على القطع ، لأن القرآن معرفة " وهدى " نكرة . أي دلالات واضحات من الحلال والحرام والحدود والأحكام .
قوله تعالى : { والفرقان } . أي الفارق بين الحق والباطل .
قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . أي فمن كان مقيما في الحضر فأدركه الشهر . واختلف أهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر .
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يجوز له الفطر ، وبه قال عبيدة السلماني لقوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أي الشهر كله ، وذهب أكثر الصحابة والفقهاء إلى أنه إذا أنشأ السفر في شهر رمضان جاز له أن يفطر ، ومعنى الآية : فمن شهد منكم الشهر كله فليصمه أي الشهر كله ، ومن لم يشهد منكم الشهر كله فليصم ما شهد منه .
والدليل عليه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو منصور عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر ، وأفطر الناس معه ، فكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } . أباح الفطر لعذر المرض والسفر ، وأعاد هذا الكلام ليعلم أن هذا الحكم ثابت في الناسخ ثبوته في المنسوخ ، واختلفوا في المرض الذي يبيح الفطر ، فذهب أهل الظاهر إلى أن ما يطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر ، وهو قول ابن سيرين . قال طريف بن تمام العطاردي : دخلت على محمد بن سيرين في رمضان ، وهو يأكل فقال : إنه وجعت أصبعي هذه ، وقال الحسن وإبراهيم النخعي : هو المرض الذي تجوز معه الصلاة قاعداً . وذهب الأكثرون إلى أنه مرض يخاف معه من الصوم زيادة علة غير محتملة ، وفي الجملة أنه إذا أجهده الصوم أفطر ، وإن لم يجهده فهو كالصحيح . وأما السفر ، فالفطر فيه مباح والصوم جائز عند عامة أهل العلم ، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي ابن الحسين أنهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر ومن صام فعليه القضاء ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس من البر الصوم في السفر " وذلك عند الآخرين في حق من يجهده الصوم فالأولى له أن يفطر ، والدليل عليه ما أخبرنا به عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد ابن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أخبرنا شعبة أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال : سمعت محمد بن عمرو بن الحسبن بن علي عن جابر بن عبد الله قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ، ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا صائم ، فقال : ليس من البر الصوم في السفر " . والدليل على جواز الصوم ما حدثنا الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو نعيم الإسفرايني أخبرنا أبو عوانة أخبرنا أبو أمية أخبرنا عبد الله القواريري أخبرنا حماد بن زيد أخبرنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " . واختلفوا في أفضل الأمرين ، فقالت طائفة : الفطر في السفر أفضل من الصوم ، روي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب سعيد بن المسيب والشعبي ، وذهب قوم إلى أن الصوم أفضل وروي ذلك عن معاذ بن جبل وأنس وبه قال إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ، وقالت طائفة : أفضل الأمرين أيسرهما عليه ، لقوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وهو قول مجاهد ، و قتادة وعمر بن عبد العزيز ، ومن أصبح مقيماً صائماً ثم سافر في أثناء النهار لا يجوز له أن يفطر ذلك اليوم عند أكثر أهل العلم ، وقالت طائفة : له أن يفطر ، وهو قول الشعبي وبه قال أحمد ، أما المسافر إذا أصبح صائماً فيجوز له أن يفطر بالاتفاق ، والدليل عليه ما أخبر عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد العزيز ابن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان ، فصام حتى بلغ كراع الغميم ، وصام الناس معه ، فقيل له يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون ، فأفطر بعض الناس وصام بعضهم ، فبلغه أن ناساً صاموا ، فقال : أولئك العصاة " . واختلفوا في السفر الذي يبيح الفطر ، فقال قوم : مسيرة يوم ، وذهب جماعة إلى مسيرة يومين ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، وذهب جماعة إلى مسيرة ثلاثة أيام ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
قوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر } . بإباحة الفطر في المرض والسفر .
قوله تعالى : { ولا يريد بكم العسر } . قرأ أبو جعفر : العسر واليسر ونحوهما بضم السين ، وقرأ الآخرون بالسكون . وقال الشعبي : ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله عز وجل .
قوله تعالى : { ولتكملوا العدة } . قرأ أبو بكر بتشديد الميم وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهو الاختيار لقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) والواو في قوله تعالى : ( ولتكملوا ) واو النسق ، واللام لام كي ، تقديره : " ويريد لكي تكملوا العدة " ، أي لتكملوا عدة أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم ، وقال عطاء : ولتكملوا العدة : أي عدد أيام الشهر .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقدموا الشهر بصوم يوم ولا يومين ، إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا " .
قوله تعالى : { ولتكبروا الله } . ولتعظموا الله .
قوله تعالى : { على ما هداكم } . أرشدكم إلى ما رضي به من صوم شهر رمضان ، وخصكم به دون سائر أهل الملل . قال ابن عباس : هو تكبيرات ليلة الفطر .
وروى الشافعي وعن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتكبير ، وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجاً فذكره التلبية .
قوله تعالى : { ولعلكم تشكرون } . الله على نعمه ، وقد وردت أخبار في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسني المروزي أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد بن قريش بن سليمان أخبرنا علي ابن عبد العزيز المكي أخبرنا أبو القاسم بن سلام حدثني إسماعيل بن جعفر عن أبي سهل نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل رمضان صفدت الشياطين ، وفتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار " .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن الجراح أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا أبو كريب محمد بن العلاء أخبرنا أبو بكر محمد ابن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " .
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر بن أحمد الكوفاني الهروي بها أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد النجيبي المصري بها المعروف بأبي النجاش قيل له أخبركم أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد المقبري البصري بمكة المعروف بابن الأعرابي أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني أخبرنا سفيان ابن عيينة عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار حدثنا الحسين ين أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الصفار ، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي إسحاق العنزي أخبرنا علي بن حجر بن إياس السعدي ، أخبرنا يوسف بن زياد عن علي بن زيد ابن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال : يا أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم ، وفي رواية قد أطلكم بالطاء ، أطل : أشرف ، شهر عظيم ، شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، شهر جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله تطوعاً ، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فيه فريضة كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، أي المساهمة ، وشهر يزاد فيه الرزق ومن فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء ، قالوا : يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء ، ومن أشبع صائماً سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ، فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم ، وخصلتين لا غنى بكم عنهما ، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه ، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة ، وتعوذون به من النار " .
أخبرنا الإمام أبوعلي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي ، أخبرنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع الصائم طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، والخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم الجنة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ، ولا يفسق ، فإنه سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن مطرف ، حدثني أبو حازم عن سهل ابن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون " . أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر بن أحمد بن الحارث أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن راشد بن سعد عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام : أي رب إني منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : رب إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " .
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم . . إنها صوم رمضان : الشهر الذي أنزل فيه القرآن - إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان ، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان - والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، فأنشأها هذه النشأة ، وبدلها من خوفها أمنا ، ومكن لها في الأرض ، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ، ولم تكن من قبل شيئا . وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء . فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن :
( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . . فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم - فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا :
( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) . .
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر . أو من رأى منكم هلال الشهر . والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان .
ولما كان هذا نصا عاما فقد عاد ليستثني منه من كان مريضا أو على سفر :
( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . .
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة ، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء :
( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . .
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها . فهي ميسرة لا عسر فيها . وهي توحي للقلب الذي يتذوقها ، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها ؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد . سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء . مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين .
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر ، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر ، فلا يضيع عليه أجرها :
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر :
( ولتكبروا الله على ما هداكم . ولعلكم تشكرون ) . .
فهذه غاية من غايات الفريضة . . أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم . وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة . وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية ، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها . وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا . ليكبروا الله على هذه الهداية وليشكروه على هذه النعمة . ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة . كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام : ( لعلكم تتقون ) . .
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس . وتتجلى الغاية التربوية منه ، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه ، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير .
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمْران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة - يعني ابن الأسقع - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من رمضان{[3186]} وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " {[3187]} .
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل {[3188]} لثنتَي عشرة [ ليلة ]{[3189]} خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مَردُويه .
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل - فنزل كل منها{[3190]} على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] . وقال : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعدُ مفرّقًا{[3191]} بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السّدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع{[3192]} في قلبي الشك من قول الله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وقد{[3193]} أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل {[3194]} على مواقع النجوم ترتيلا{[3195]} في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه .
وفي رواية سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس .
وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33 ] .
[ قال فخر الدين : ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله : { الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي : في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا ]{[3196]} .
وقوله : { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيِّنَاتٍ } أي : ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقًا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال : إلا " شهر رمضان " ولا يقال : " رمضان " ؛ قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، وسعيد - هو المقْبُري - عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان .
قال{[3197]} ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت .
قلت : أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [ في ]{[3198]} المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي{[3199]} - وهو جدير بالإنكار - فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : " باب يقال{[3200]} رمضان " {[3201]} وساق أحاديث في ذلك منها : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " ونحو ذلك .
وقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر - أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه - أن يصوم لا محالة . ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه . ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه : ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه ، أو يؤذيه{[3202]} أو كان على سفر أي في حال سفر - فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي : إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم .
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية :
إحداها : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى ، عن جماعة من الصحابة والتابعين . وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم . فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار{[3203]} حتى بلغ الكَديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر . أخرجه صاحبا الصحيح{[3204]} .
الثانية : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحَتْم ؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان . قال : " فَمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائمُ على المفطر ، ولا المفطر على الصائم{[3205]} " . فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم {[3206]} الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [ قال ]{[3207]} خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في شهر رمضان ]{[3208]} في حَرٍّ شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [ من شدة الحر ]{[3209]} وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة{[3210]} .
الثالثة : قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل ، أخذا بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : " من أفطر فحَسَن ، ومن صام فلا جناح عليه " {[3211]} . وقال في حديث آخر :
" عليكم برخصة الله التي رخص لكم " {[3212]} وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة : أن حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟ فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . وهو في الصحيحين{[3213]} . وقيل : إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " . أخرجاه{[3214]} . فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة{[3215]} .
الرابعة : القضاء ، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يجب التتابع ؛ لأن القضاء يحكي الأداء . والثاني : لا يجب التتابع ، بل إن شاء فَرّق ، وإن شاء تابع . وهذا قول جُمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل{[3216]} ؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر . ولهذا قال تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن{[3217]} هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " {[3218]} .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عُرْوة الفُقَيْمي ، حدثني أبي عُرْوَة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رَجلا{[3219]} يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله في يسر " ثلاثًا يقولها{[3220]} .
ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن عاصم بن هلال ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التيّاح ، سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يسروا ، ولا تعسروا ، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا " . أخرجاه في الصحيحين{[3221]} . وفي الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " . وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بالحنيفيَّة السمحة " {[3222]} .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن مِحْجَن بن الأدرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره{[3223]} ساعة ، فقال : " أتراه يصلي صادقًا ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُسْمِعْه فَتُهلِكَه " . وقال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر ، ولم يرد بهم العُسْر " {[3224]} .
ومعنى قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي : إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض{[3225]} والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم .
وقوله : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [ البقرة : 200 ] وقال : [ { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } ] {[3226]} [ النساء : 103 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 ، 40 ] ؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ؛ لظاهر الأمر في قوله { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة - رحمه الله - أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم .
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مّنَ الْهُدَىَ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قال أبو جعفر : الشهر فيما قيل أصله من الشهرة ، يقال منه : قد شهر فلان سيفه إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه ، يشهره شهرا ، وكذلك شهر الشهر إذا طلع هلاله ، وأشهرنا نحن إذا دخلنا في الشهر . وأما رمضان فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الحرّ الذي كان يكون فيه حتى تَرْمَضُ فيه الفصال ، كما يقال للشهر الذي يحجّ فيه ذو الحجة ، والذي يرتبع فيه ربيع الأول وربيع الاَخر . وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان ويقول : لعله اسم من أسماء الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد أنه كره أن يقال رمضان ، ويقول : لعله اسم من أسماء الله ، لكن نقول كما قال الله : { شَهْرُ رَمَضَان } .
وقد بينت فيما مضى أن «شهر » مرفوع على قوله : أياما معدودات ، هن شهر رمضان ، وجائز أن يكون رفعه بمعنى ذلك شهر رمضان ، وبمعنى كتب عليكم شهر رمضان . وقد قرأه بعض القرّاء : «شَهْرَ رَمَضَانَ » نصبا ، بمعنى : كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهر رمضان . وقرأه بعضهم نصبا بمعنى أن تصوموا شهر رمضان خير لكم إن كنتم تعلمون . وقد يجوز أيضا نصبه على وجه الأمر بصومه كأنه قيل : شهر رمضان فصوموه ، وجائز نصبه على الوقت كأنه قيل : كتب عليكم الصيام في شهر رمضان .
وأما قوله : { الّذي أُنْزلَ فيهِ القُرآنُ } فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ، ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حسان بن أبي الأشرس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان ، فجعل في بيت العزّة . قال أبو كريب : حدثنا أبو بكر ، وقال ذلك السدي .
23حدثني عيسى بن عثمان ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حسان ، عن سعيد بن جبير ، قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان ، فجعل في سماء الدنيا .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، قال : حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن ابن أبي المليح عن واثلة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «نزلتْ صُحُف إبراهِيمَ أوّلَ لَيْلَةٍ من شَهْرِ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَت التّوْرَاةُ لِستّ مَضَيْنَ من رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ الإنجيلُ لثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ ، وأُنْزِلَ القُرآنُ لأَرْبَعٍ وعِشْرين مِنْ رَمَضَان » .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ ، أما أنزل فيه القرآن ، فإن ابن عباس قال : شهر رمضان ، والليلة المباركة : ليلة القدر ، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي من رمضان ، نزل القرآن جملة واحدة من الزّبر إلى البيت المعمور ، وهو مواقع النجوم ، في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ، ثم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلاً رَسَلاً .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه ، فهو قوله : { أنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ . }
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : فكان بين أوله وآخره عشرون سنة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا ، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة ، ثم فرّق في السنين بعدُ قال : وتلا ابن عباس هذه الآية : { فَلا أقْسِمُ بِمَواقِع النّجُوم } قال : نزل مفرّقا .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قرأه ابن جريج في قوله : { شَهْرُ رَمَضَان الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ } قال : قال ابن عباس : أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر ، فكان لا ينزل منه إلا بأمر . قال ابن جريج : كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل من القرآن في تلك السنة ، فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا ، فلا يُنزل جبريل من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه ومثل ذلك : { إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ } و{ إنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةً مبَاركَةٍ . }
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال له رجل : إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ } وقوله : { إنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَاركَةٍ } وقوله : { إنّا أنْزَلْنَاه فِي لَيْلَةٍ القَدْرِ } وقد أنزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره قال : إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم رَسَلاً في الشهور والأيام .
وأما قوله { هُدىً للنّاسِ } فإنه يعني رشادا للناس إلى سبيل الحقّ وقصد المنهج .
وأما قوله : { وَبَيّناتٍ }فإنه يعني : وواضحات من الهدى ، يعني من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه .
وقوله : { والفُرْقَان } يعني : والفصل بين الحق والباطل . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما وَبَيّناتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقان فبينات من الحلال والحرام .
القول في تأويل قوله تعالى : : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
اختلف أهل التأويل في معنى شهود الشهر . فقال بعضهم : هو مقام المقيم في داره ، قالوا : فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كله ، غاب بعد فسافر أو أقام فلم يبرح . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني ، قالا ، حدثنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }قال : هو إهلاله بالدار . يريد إذا هلّ وهو مقيم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أنه قال في قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم أقام أو سافر ، وإن شهده وهو في سفر ، فإن شاء صام وإن شاء فطر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة في الرجل يدركه رمضان ثم يسافر ، قال : إذا شهدت أوله فضم آخره ، ألا تراه يقول : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الفردوسي ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم ، قال : من صام أول الشهر فليصم آخره ، ألا تراه يقول : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما من شهد منكم الشهر فليصمه ، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصمه ، وإن خرج فيه فليصمه فإنه دخل عليه وهو في أهله .
حدثني المثنى ، ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، عن عليّ فيما يحسب حماد ، قال : من أدرك رمضان وهو مقيم ولم يخرج فقد لزمه الصوم ، لأن الله يقول : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }
حدثنا هناد بن السرّي . قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن قول الله : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قال : من كان مقيما فليصمه ، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه .
حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من أشهد أول رمضان فليصم آخره .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن عليا كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر فعليه الصوم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن عبيدة الضبي ، عن إبراهيم قال : كان يقول : إذا أدركك رمضان فلا تسافر فيه ، فإن صمت فيه يوما أو اثنين ثم سافرت فلا تفطر ، صمه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، قال : كنا عند عبيدة ، فقرأ هذه الآية : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }قال : من صام شيئا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج قال : وكان ابن عباس يقول : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قالا جميعا ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد ، عن أم درّة قالت : أتيت عائشة في رمضان ، قالت : من أين جئت ؟ قلت : من عند أخي حنين ، قالت : ما شأنه ؟ قالت : ودّعته يريد يرتحل ، قالت : فأقرئيه السلام ومريه فليقم ، فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا إسحاق بن عيسى ، عن أفلح ، عن عبد الرحمن ، قال : جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يسلم عليها ، قالت : وأين تريد ؟ قال : أردت العمرة ، قالت : فجلست حتى إذا دخل عليك الشهر خرجت فيه قال : قد خرج ثقلي ، قالت : اجلس حتى إذا أفطرت فاخرج يعني شهر رمضان .
وقال آخرون : معنى ذلك : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ما شهد منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السري ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق : أن أبا ميسرة خرج في رمضان حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرا ، فمرّ بالفرات وهو صائم ، فأخذ منه كفّا فشربه وأفطر .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أن أبا ميسرة سافر في رمضان فأفطر عند باب الجسر هكذا قال هناد عن مرثد ، وإنما هو أبو مرثد .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن مرثد : أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان ، فلما انتهى إلى الجسر أفطر .
حدثنا هناد وأبو هشام قالا : حدثنا وكيع ، عن المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه ، قال : كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة ، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان وعليّ راكب وأنا ماش ، قال : فصام قال هناد : وأفطرت قال أبو هشام : وأمرني فأفطرت .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عتبة ، عن الحسن بن سعد ، عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب ، وهو جاء من أرض له فصام ، وأمرني فأفطرت فدخل المدينة ليلاً وكان راكبا وأنا ماش .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن عيسى بن أبي عزّة ، عن الشعبي أنه سافر في شهر رمضان ، فأفطر عند باب الجسر .
حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : قال لي سفيان : أحبّ إليّ أن تتمه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : سألت الحكم وحمادا وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي : اخرج وقال حماد : قال إبراهيم : أما إذا كان العشر فأحبّ إليّ أن يقيم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا : من أدركه الصوم وهو مقيم رمضان ثم سافر ، قالا : إن شاء أفطر .
وقال آخرون : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يعني فمن شهده عاقلاً بالغا مكلفا فليصمه . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه ، كانوا يقولون : من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فعليه صومه ، فإن جنّ بعد دخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا ثم أفاق بعد انقضائه لزمه قضاء ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبا على عقله ، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فرض قالوا : وكذلك لو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون إلا أنه ممن لو كان صحيح العقل كان عليه صومه ، فلن ينقضي الشهر حتى صحّ وبرأ أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك ، فإن عليه قضاء صوم الشهر كله سوى اليوم الذي صامه بعد إفاقته ، لأنه ممن قد شهد الشهر قالوا : ولو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون فلم يفق حتى انقضى الشهر كله ثم أفاق لم يلزمه قضاء شيء منه ، لأنه لم يكن ممن شهده مكلفا صومه وهذا تأويل لا معنى له ، لأن الجنون إن كان يسقط عمن كان به فرض الصوم من أجل فقد صاحبه عقله جميع الشهر ، فقد يجب أن يكون ذلك سبيل كل من فقد عقله جميع شهر الصوم . وقد أجمع الجميع على أن من فقد عقله جميع شهر الصوم بإغماء أو برسام ثم أفاق بعد انقضاء الشهر أن عليه قضاء الشهر كله ، ولم يخالف ذلك أحد يجوز الاعتراض به على الأمة وإذا كان إجماعا فالواجب أن يكون سبيل كل من كان زائل العقل جميع شهر الصوم سبيل المغمى عليه .
وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن تأويل الآية غير الذي تأوّلها قائلو هذه المقالة من أنه شهود الشهر أو بعضه مكلفا صومه . وإذا بطل ذلك فتأويل المتأوّل الذي زعم أن معناه : فمن شهد أوله مقيما حاضرا فعليه صوم جميعه أبطلُ وأفسدُ لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صام بعضه وأفطر وأمر أصحابه بالإفطار .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة ، حتى إذا أتى عسفان نزل به ، فدعا بإناء فوضعه على يده ليراه الناس ، ثم شربه » .
حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا هناد ، حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه ، حتى إذا أتى الكديد ما بين عسفان وأمَج وأفطر .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر أو لعشرين مضت من رمضان عام الفتح ، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرة مضت من رمضان ، فمنا الصائم ، ومنا المفطر ، فلم يعب المفطر على الصائم ، ولا الصائم على المفطر .
فإذا كانا فاسدين هذان التأويلان بما عليه دللنا من فسادهما ، فتبين أن الصحيح من التأويل هو الثالث ، وهو قول من قال : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } جميع ما شهد منه مقيما ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر .
القول في تأويل قوله تعالى : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } يعني الله تعالى ذكره بذلك : ومن كان مريضا أو على سفر في الشهر فأفطر فعليه صيام عدّة الأيام التي أفطرها من أيام أخر غير أيام شهر رمضان .
ثم اختلف أهل العلم في المرض الذي أباح الله معه الإفطار وأوجب معه عدّة من أيام أخر فقال بعضهم : هو المرض الذي لا يطيق صاحبه معه القيام لصلاته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا معاذ بن شعبة البصري ، قال : حدثنا شريك ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم ، عن الحسن أنه قال : إذا لم يستطع المريض أن يصلي قائما أفطر .
حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة أو عبيدة ، عن إبراهيم في المريض إذا لم يستطع الصلاة قائما : فليفطر يعني في رمضان .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن إسماعيل ، قال : سألت الحسن : متى يفطر الصائم ؟ قال : إذا جهده الصوم ، قال : إذا لم يستطع أن يصلي الفرائض كما أُمر .
وقال بعضهم : وهو كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي ، حدثنا بذلك عنه الربيع .
وقال آخرون : وهو ( كل ) مرض يسمى مرضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا الحسن بن خالد الربعي ، قال : حدثنا طريف بن تمام العطاردي ، أنه دخل على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل فلم يسأله ، فلما فرغ قال : إنه وجعت إصبعي هذه .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن المرض الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدا غير محتمل ، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدّة من أيام أخر ، وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر ، فإن لم يكن مأذونا له في الإفطار فقد كلف عسرا ومنع يسرا ، وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله : { يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ . } وأما من كان الصوم غير جاهده ، فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم ، فعليه أداء فرضه .
وأما قوله : { فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } فإن معناها : أيام معدودة سوى هذه الأيام . وأما الأخر فإنها جمع أخرى بجمعهم الكبرى على الكبر والقربى على القرب .
فإن قال قائل : أو ليست الأخر من صفة الأيام ؟ قيل : بلى فإن قال : أوليس واحد الأيام يوم وهو مذكر ؟ قيل : بلى .
فإن قال : فكيف يكون واحد الأخر أخرى وهي صفة لليوم ولم يكن آخر ؟ قيل : إن واحد الأيام وإن كان إذا نعت بواحد الأخر فهو آخر ، فإن الأيام في الجمع تصير إلى التأنيث فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث ، كما يقال : مضت الأيام جمع ، ولا يقال : أجمعون ، ولا أيام آخرون .
فإن قال لنا قائل : فإن الله تعالى قال : { فَمَنْ كانَ مِنْكُمِ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } ومعنى ذلك عندك : فعليه عدة من أيام أخر كما قد وصفت فيما مضى .
فإن كان ذلك تأويله ، فما قولك فيمن كان مريضا أو على سفر فصام الشهر وهو ممن له الإفطار ، أيجزيه ذلك من صيام عدّة من أيام أخر ، أو غير مجزيه ذلك ؟ وفرض صوم عدة من أيام أخر ثابت عليه بهيئته وإن صام الشهر كله ، وهل لمن كان مريضا أو على سفر صيام شهر رمضان ، أم ذلك محظور عليه ، وغير جائز له صومه ، والواجب عليه الإفطار فيه حتى يقيم هذا ويبرأ هذا ؟ قيل : قد اختلف أهل العلم في كل ذلك ، ونحن ذاكرو اختلافهم في ذلك ، ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله .
فقال بعضهم : الإفطار في المرض عزمة من الله واجبة ، وليس بترخيص . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية جميعا ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : الإفطار في السفر عزمة .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : أخبرنا سعيد ، عن يعلى ، عن يوسف بن الحكم ، قال : سألت ابن عمر ، أو سئل عن الصوم في السفر ، فقال : أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردّها عليك ألم تغضب ؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم .
حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد ، قال : قال أبو جعفر كان أبي لا يصوم في السفر وينهى عنه .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : أنه كره الصوم في السفر .
وقال أهل هذه المقالة : من صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن علي الخثعمي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه ، عن رجل : أن عمر أمر الذي صام في السفر أن يعيد .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن سعيد بن عمرو بن دينار ، عن رجل من بني تميم عن أبيه ، قال : أمر عمر رجلاً صام في السفر أن يعيد صومه .
حدثني ابن حميد الحمصي ، قال : حدثنا عليّ بن معبد ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عطاء ، عن المحرر بن أبي هريرة ، قال : كنت مع أبي في سفر في رمضان ، فكنت أصوم ويفطر ، فقال لي أبي : أما إنك إذا أقمت قضيت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان بن داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة ، قال : سمعت عروة يأمر رجلاً صام في السفر أن يقضي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم مولى قريبة أن رجلاً صام في السفر فأمره عروة أن يقضي .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن صبيح ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه كلثوم : أن قوما قدموا على عمر بن الخطاب وقد صاموا رمضان في سفر ، فقال لهم : والله لكأنكم كنتم تصومون فقالوا : والله يا أمير المؤمنين لقد صمنا ، قال : فأطقتموه ؟ قالوا : نعم ، قال : فاقضوه فاقضوه فاقضوه .
وعلة من قال هذه المقالة أن الله تعالى ذكره فرض بقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }صوم شهر رمضان على من شهده مقيما غير مسافر ، وجعل على من كان مريضا أو مسافرا صوم عدّة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } قالوا : فكما غير جائز للمقيم إفطار أيام شهر رمضان وصوم عدة أيام أخر مكانها ، لأن الذي فرضه الله عليه بشهوده الشهر صوم الشهر دون غيره ، فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيما صومه ، لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر واعتلوا أيضا من الخبر بما :
حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصّائِمُ في السّفَرِ كالمُفْطِرِ في الحَضَر » .
حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثنا يزيد بن عياض ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الصّائمُ في السّفَر كالمُفْطِرِ في الحَضَر » .
وقال آخرون : إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره رخصها لعباده ، والفرض الصوم ، فمن صام فرضه أدّى ، ومن أفطر فبرخصة الله له أفطر قالوا : وإن صام في سفر فلا قضاء عليه إذا أقام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن البشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، قال : حدثنا عروة وسالم أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أمير على المدينة فتذاكروا الصوم في السفر ، قال سالم : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ، وقال عروة : وكانت عائشة تصوم ، فقال سالم : إنما أخذت عن ابن عمر ، وقال عروة : إنما أخذت عن عائشة حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم عفوا إذا كان يسرا فصوموا ، وإذا كان عسرا فأفطروا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، قال : حدثني رجل ، قال : ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز ، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن محمد بن إسحاق ، وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، قال : خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان ، فقال : إن الشهر قد تشعشع قال أبو كريب في حديثه أو تسعسع ، ولم يشك يعقوب ، فلو صمنا فصام وصام الناس معه ثم أقبل مرة قافلاً حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلال شهر رمضان ، فقال إن الله قد قضى السفر ، فلو صمنا ولم نثلم شهرنا قال : فصام وصام الناس معه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثني أبي ، وحدثنا محمد بن بشار ، قال : أخبرنا عبيد الله ، قال : أخبرنا بشير بن سلمان ، عن خيثمة ، قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر ، قال : قد أمرت غلامي أن يصوم فأبى . قلت : فأين هذه الآية : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } ؟ قال : نزلت ونحن يومئذ نرتحل جياعا وننزل على غير شبع ، وإنا اليوم نرتحل شباعا وننزل على شبع .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع : عن بشير بن سلمان ، عن خيثمة ، عن أنس نحوه .
حدثنا هناد وأبو السائب قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر فقال : من أفطر فبرخصة الله ، ومن صام فالصوم أفضل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أشعث بن عبد الملك ، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص ، قال : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو الفيض ، قال : كان عليّ علينا أمير بالشام ، فنهانا عن الصوم في السفر ، فسألت أبا قرصافة رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث قال عبد الصمد : سمعت رجلاً من قومه يقول : إنه واثلة بن الأسقع قال لو صمت في السفر ما قضيت .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن بسطام بن مسلم ، عن عطاء قال : إن صمتم أجزأ عنكم وإن أفطرتم فرخصة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن كهمس ، قال : سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر ، فقال : إن صمتم أجزأ عنكم ، وإن أفطرتم فرخصة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : من صام فحقّ أدّاه ، ومن أفطر فرخصة أخذ بها .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، قال : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل .
حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، قال : هو تعليم ، وليس بعزم ، يعني قول الله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } إن شاء صام ، وإن شاء لم يصم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن في الرجل يسافر في رمضان ، قال : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر .
حدثنا حميد بن مسعدة . قال : حدثنا سفيان بن حبيب ، قال : حدثنا العوّام بن حوشب ، قال : قلت لمجاهد : الصوم في السفر ؟ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر ، قال : قلت فأيهما أحبّ إليك ؟ قال : إنما هي رخصة ، وأن تصوم رمضان أحبّ إليّ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد أنهم قالوا : الصوم في السفر ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ، والصوم أحبّ إليهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : قال لي مجاهد في الصوم في السفر ، يعني صوم رمضان : والله ما منهما إلا حلال الصوم والإفطار ، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم ، قال : صحبت أبي والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة ، وكانوا يصومون رمضان وغيره في السفر .
حدثنا عليّ بن حسن الأزدي . قال : حدثنا معافى بن عمران ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل .
حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا صالح بن محمد بن صالح ، عن أبيه قال : قلت للقاسم بن محمد : إنا نسافر في الشتاء في رمضان ، فإن صمت فيه كان أهون عليّ من أن أقضيه في الحر . فقال : قال الله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } ما كان أيسر عليك فافعل .
وهذا القول عندنا أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن مريضا لو صام شهر رمضان وهو ممن له الإفطار لمرضه أن صومه ذلك مجزىء عنه ، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر ، فكان معلوما بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره ، لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للمريض وأمر به من القضاء .
ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحته ذلك بغيرها ، وذلك قول الله تعالى ذكره : { يُريدُ الله بِكُم اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُم العُسْرَ } ولا عسر أعظم من أن يلزم من صامه في سفره عدة من أيام أخر ، وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدّاه .
فإن ظنّ ذو غباوة أن الذي صامه لم يكن فرضه الواجب ، فإن في قول الله تعالى ذكره : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ } ، { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فيهِ القُرآنُ } ما ينبىء أن المكتوب صومه من الشهور على كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقيما ، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله : { يا أيّها الّذين آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ } شَهْرُ رَمَضَانَ ، وأن قوله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر }معناه : ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر برخصة الله فعليه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه .
ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذا سئل عن الصوم في السفر : «إن شِئْتَ فَصُمْ ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ » ، الكفاية الكافية عن الاستدلال على صحة ما قلنا في ذلك بغيره .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد الرحيم ووكيع ، وعبدة بن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر ، وكان يسرد الصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ » .
حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهباري قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يا رسول الله إني أسرد الصوم فأصوم في السفر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّمَا هي رُخْصَةٌ مِنَ الله لِعِبَادِهِ ، فَمَنْ فَعَلْها فَحَسَنٌ جَمِيلٌ ، وَمَنْ تَرَكَها فَلا جُناحَ عَلَيْه » فكان حمزة يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر ، حتى إن كان ليمرض فلا يفطر وكان أبو مراوح يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر .
ففي هذا مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا من أن الإفطار رخصة لا عزم ، والبيان الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله : { ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر . }
فإن قال قائل : فإن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرة ، فقد تظاهرت أيضا بقوله : «لَيْسَ مِنَ الْبِرّ الصّيامُ في السّفَر » ؟ . قيل : إن ذلك إذا كان صيام في مثل الحال التي جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك لمن قال له .
حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في سفره قد ظُلّل عليه ، وعليه جماعة ، فقال : «مَنْ هَذَا ؟ » قالوا : صائم ، قال : «لَيْسَ مِنَ البِرّ الصّوْمُ فِي السّفَر » .
قال أبو جعفر : أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن شعبة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري ، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن عليّ ، عن جابر بن عبد الله ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قد اجتمع الناس عليه ، وقد ظُلّل عليه ، فقالوا : هذا رجل صائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ مِنَ الْبِرّ أنْ تَصُومُوا فِي السّفَر » .
فمن بلغ منه الصوم ما بلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ، ذلك ، فليس من البرّ صومه لأن الله تعالى ذكره قد حرم على كل أحد تعريض نفسه لما فيه هلاكها ، وله إلى نجاتها سبيل ، وإنما يطلب البرّ بما ندب الله إليه وحضّ عليه من الأعمال لا بما نهى عنه .
وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : «الصّائِمُ في السّفَرَ كالمُفْطِر في الحَضَر » فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظلل عليه إن كان كان قبل ذلك ، وغير جائز عليه أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قِيلُ ذلك ، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واهية الأسانيد لا يجوز الاحتجاج بها في الدين .
فإن قال قائل : وكيف عطف على المريض وهو اسم بقوله : أوْ عَلى سَفَرٍ و «على » صفة لا اسم ؟ قيل : جاز أن ينسق بعلى على المريض ، لأنها في معنى الفعل ، وتأويل ذلك : أو مسافرا ، كما قال تعالى ذكره : { دَعانا لِجَنْبِه أوْ قاعِدا أو قائما } فعطف بالقاعد والقائم على اللام التي في لجنبه ، لأن معناها الفعل ، كأنه قال : دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ . }
يعني تعالى ذكره بذلك : يريد الله بكم أيها المؤمنون بترخيصه لكم في حال مرضكم وسفركم في الإفطار ، وقضاء عدّة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد أقامتكم وبعد برئكم من مرضكم ، التخفيف عليكم والتسهيل عليكم ، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال . { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ }يقول : ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم ، فيكفلكم صوم الشهر في هذه الأحوال ، مع علمه شدة ذلك عليكم وثقل حمله عليكم لو حملكم صومه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } قال : اليسر : الإفطار في السفر ، والعسر : الصيام في السفر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : سألت ابن عباس عن الصوم في السفر ، فقال : يسر وعسر ، فخذ بيسر الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ } قال : هو الإفطار في السفر ، وجعل عدّة من أيام أخر ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ }فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس ، عن ابن عباس قال : لا تعب على من صام ولا على من أفطر ، يعني في السفر في رمضان يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضيل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ } الإفطار في السفر ، { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ }الصيام في السفر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة . }
يعني تعالى ذكره بذلك : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة }عدّة ما أفطرتم من أيام أخر أوجبت عليكم قضاء عدّة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم ، أو إقامتكم من سفركم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة } قال : عدة ما أفطر المريض والمسافر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة } قال : إكمال العدة : أن يصوم ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض إلى أن يتمه ، فإذا أتمه فقد أكمل العدة .
فإن قال قائل : ما الذي عليه بهذه الواو التي في قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة }عَطَفَتْ ؟ قيل : اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعضهم : هي عاطفة على ما قبلها كأنه قيل : ويريد لتكلموا العدة ولتكبروا الله .
وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه اللام التي في قوله : وَلِتُكْمِلُوا لام كي ، لو ألقيت كان صوابا . قال : والعرب تدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها ، ولا تكون شرطا للفعل الذي قبلها وفيها الواو ألا ترى أنك تقول : جئتك لتحسن إليّ ، ولا تقول : جئتك ولتحسن إليّ فإذا قلته فأنت تريد : ولتحسن جئتك . قال : وهذا في القرآن كثير ، منه قوله : { وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفئِدَةُ } وقوله : { وكذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَات وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنين }لو لم تكن فيه الواو كان شرطا على قولك : أريناه ملكوت السموات والأرض ليكون ، فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها ، و «ليكون من الموقنين » أريناه . وهذا القول أولى بالصواب في العربية ، لأن قوله : وَلِتُكْمِلُوا العِدّة ليس قبله لام بمعنى التي في قوله : وَلِتُكْمِلُوا العِدّة فتعطف بقوله : وَلِتُكْمِلُوا العِدّة عليها ، وإن دخول الواو معها يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها ، إذ كانت الواو لو حذفت كانت شرطا لما قبلها من الفعل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ .
يعني تعالى ذكره : ولتعظموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثل الذي كتب عليكم فيه ، فضلوا عنه بإضلال الله إياهم ، وخصكم بكرامته فهداكم له ، ووفقكم لأداء ما كتب الله عليكم من صومه ، وتشكروه على ذلك بالعبادة له . والذكر الذي خصهم الله على تعظيمه به التكبير يوم الفطر فيما تأوّله جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن داود بن قيس ، قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : { وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ } قال : إذا رأى الهلال ، فالتكبير من حين يرى الهلال حتى ينصرف الإمام في الطريق والمسجد إلا أنه إذا حضر الإمام كفّ فلا يكبر إلا بتكبيره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول : { وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ }قال : بلغنا أنه التكبير يوم الفطر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان ابن عباس يقول : حقّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوّال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى ذكره يقول : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ . } قال ابن زيد : ينبغي لهم إذا غدوا إلى المصلى كبروا ، فإذا جلسوا كبروا ، فإذا جاء الإمام صمتوا ، فإذا كبر الإمام كبروا ، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره ، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد . قال يونس : قال ابن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : والجماعة عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرونَ . }
يعني تعالى ذكره بذلك : ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق . وتيسير ما لو شاء عسر عليكم . و «لعل » في هذا الموضع بمعنى «كي » ، ولذلك عطف به على قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
{ شهر رمضان } مبتدأ خبره ما بعده ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان ، أو بدل من الصيام على حذف المضاف ، أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان . وقرئ بالنصب على إضمار صوموا ، أو على أنه مفعول ، { وأن تصوموا } وفيه ضعف ، أو بدل من أيام معدودات . والشهر : من الشهرة ، ورمضان : مصدر رمض إذا احترق ؛ فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون ، كما منع دأية في ابن دأية علما للغراب للعلمية والتأنيث ، وقوله عليه الصلاة والسلام " من صام رمضان " فعلى حذف المضاف لأمن الالتباس ، وإنما سموه بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش ، أو لارتماض الذنوب فيه ، أو لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة . { الذي أنزل فيه القرآن } أي ابتدئ فيه إنزاله ، وكان ذلك ليلة القدر ، أو أنزل فيه جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض ، أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله : { كتب عليكم الصيام } . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " نزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين " والموصول بصلته خبر المبتدأ أو صفته والخبر فمن شهد ، والفاء لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشرط . وفيه إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم . { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } حالان من القرآن ، أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق ، ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام . { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه ، والأصل فمن شهد فيه فليصم فيه ، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأول للتعظيم ، ونصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع . وقيل : { فمن شهد منكم } هلال الشهر فليصمه ، على أنه مفعول به كقولك : شهدت الجمعة أي صلاتها فيكون { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } مخصصا له ، لأن المسافر والمريض ممن شهد الشهر ولعل تكريره لذلك ، أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه . { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } أي يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر ، فلذلك أباح الفطر في السفر والمرض . { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } علل لفعل محذوف دل عليه ما سبق ، أي وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد يصوم الشهر والمرخص بالقضاء ومراعاة عدة ما أفطر فيه ، والترخيص { لتكملوا العدة } إلى آخرها على سبيل اللف ، فإن قوله { ولتكملوا العدة } علة الأمر بمراعاة العدة ، { ولتكبروا الله } علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته ، { ولعلكم تشكرون } علة الترخيص والتيسير . أو الأفعال كل لفعله ، أو معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم ، أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا العدة ، ويجوز أن يعطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا كقوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله } . والمعنى بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه ، ولذلك عدي بعلى . وقيل تكبير يوم الفطر ، وقيل التكبير عند الإهلال وما يحتمل المصدر والخبر ، أي الذي هداكم إليه ، وعن عاصم برواية أبي بكر { ولتكملوا } بالتشديد .
قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات ، فقوله : شهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان } خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان ، والجملة مستأنفة بيانياً ، لأن قوله : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام ، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد { شهراً } بالنصب على البدلية من { أياماً } : بدل تفصيل .
وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره ، وإذا جَوَّزتَ أن يكون هذا الكلام نسخاً لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبره قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، واقتران الخبر بالفاء حينئذٍ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب ، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله :
*وقائلةٍ خَوْلاَنُ فانكِحْ فَتاتهم{[175]} *
أنشده سيبويه ، وكلا هذين الوجهين ضعيف .
والشهر جزء من اثني عشر جزءاً من تقسيم السنة قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض } [ التوبة : 36 ] والشهر يبتدىء من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى ، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم .
ورمضان علم وليس منقولاً ؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفَعلان من رمِض بكسر الميم إذا احترق ؛ لأن الفَعَلان ، يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل هو منقول عن المصدر . ورمضان علَم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم ؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم ؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن لَبيداً جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهراً سادساً إذ قال :
حَتَّى إذا سَلخا جُمادى سِتَّةً *** جَزْءاً فطال صيامُه وصيامها
ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران : الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر ، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرُّطَب والتمر وشهراه شهرُ ربيع الأولُ وشهرُ ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون « الرطب شهري ربيع » ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم :
في ليلةٍ من جمادَى ذاتتِ أَنْدَيةٍ *** لاَ يُبصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِها الظُّنُبَا
لاَ يَنَبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحِدَةٍ *** حتَّى يَلُفَّ علَى خَيشُومِهِ الذَّنبَــا
الرابع الربيع الثاني - والثاني وصف للربيع - وهذا هو وقت ظهور النَّور والكَمْأَةِ وشهراه رجبٌ وشعبان ، وهو فصل الدَّر والمطَر قال النابغة يذكر غَزَوات النعمان ابن الحارث :
وكانَتْ لَهْم رَبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَها *** إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السماء القبائِلُ
وسَمَّوه الثاني لأنه يجيءُ بعد الربيعِ الأول في حساب السنة ، قال النابغة :
فإن يَهلك أبو قابُوسَ يَهلكْ *** رَبِيعُ الثَّانِ والبَلَدُ الحَرامُ
في رواية وراوي « ربيعُ الناس » ، وسموا كلا منهما ربيعاً لأنه وقت خصب ، الفصل الخامس ، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال ، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب . السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة .
وبعض القبائل تقسم السنة إِلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر ؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع وجمادى الأولى وجمادى الثانية .
ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوماً وكسراً ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبساً بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء .
وأسماء الشهور كلِّها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني ؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده مثل شجر الأراك ومدينة بغداد ، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلاّ بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علماً فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططاً وخالف ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم " من صام ر مضان إيماناً واحتساباً " بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في « أدب الكاتب » .
وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يتقضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم ؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهراً لا نصاً ، لا سيما مع تقدم قوله { أياماً } [ البقرة : 184 ] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان .
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفاً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكرراً في كل عام كان وجوب الصوم مكرراً في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميعُ الأزمنة المسماةُ به طول الدهر .
وظاهر قوله : { الذي أنزل فيه القرآن } أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان ، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالماً باختصاصها بمن أجرى عليه الموصول ، ولأن مثل هذا الحدَث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم ، فيكون الكلام تذكيراً بهذا الفضل العظيم ، ويجوز أيضاً أن يكون إعلاماً بهذا الفضل وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقاً لمعرفته ، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك غَرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم ، وليس المقصود الإخبارَ عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن ، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبراً لأن لفظ { شهر رمضان } خبر وليس هو مبتدأ ، والمراد بإنزال القرآن ابتداءُ إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه ؛ لأن ذلك القدْر المنزل مقَدَّرٌ إلحاق تكملته به كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد ، وقد تقدم عند قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } ومعنى { الذي أنزل فيه } أنزل في مثله ؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين ، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فَبَيْن فرض الصيام والشهرِ الذي أنزل فيه القرآن حقيقةً عدةُ سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر .
فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتباراً يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد ، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدَار كما قال تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلاً مستمراً تنويهاً بكونها تذكرة لأمر عظيم ، ولعل هذا هو الذي جعَل الله لأجله سنة الهدي في الحج ، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلَى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عَزْم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمّة .
وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوماً متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين . ولما كان ذلك هو المراد وُقِّتَ بشهر معيَّن وجعل قمرياً لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير ، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شُرف بنزول القرآن فيه ، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة المَلَكية واقعاً فيه ، والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن يُنزل عليه الوحي إلهاماً من الله تعالى وتلقيناً لبقية من الملة الحنيفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر ، روَى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « جاورت بحِراء شهرَ رمضان » وقال ابن سعد : جاءه الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة حلت من رمضان .
وقوله : { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } حالان من ( القرآن ) إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان .
والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير مِن الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية . والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفَرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، فالمراد بالهدى الأول : ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني ، فلا تكرار .
تفريع على قوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } الذي هو بيان لقوله { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله : { كتب عليكم الصيام } من استيناسٍ وتنويهٍ بفضل الصيام وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام .
وضمير { منكم } عائد إلى { الذين أمنوا } [ البقرة : 183 ] مثل الضمائر التي قبله ، أي كل من حضر الشهر فليصمه ، و { شهد } يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال : إن فلاناً شهد بَدراً وشهد أُحُداً وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل { شَهِد } أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافراً ، وهو المناسب لقوله بعده : { ومن كان مريضاً أو على سفر } . الخ . أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويُفهم أن مَن حضر بعضه يصوم أيام حضوره .
ويجوز أن يكون { شهد } بمعنى عَلِم كقوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر ، وليس شهد بمعنى رأى ؛ لأنه لا يقال : شهد بمعنى رأى ، وإنما يقال شَاهد ، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في « الأساس » قول ذي الرمة :
فأصبح أَجلَى الطَّرْفِ ما يستزيده *** يَرى الشهرَ قبل الناس وهو نَحيل
أي يرى هلال الشهر ؛ لأن الهلال لا يصح أن يتعدى إليه فعل { شهد } بمعنى حضر ومَن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بيناً وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل ، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تُفطروا حتى تروه فإنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له " وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية .
وقرأ الجمهور : ( القُرْءَان ) بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف ، وقرأهُ ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف .
وقوله : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة } قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله : { فمن كان منكم مريضاً } [ البقرة : 184 ] أنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] الخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله { شهر رمضان } الآية وصار الصوم واجباً على التعيين خيف أن يظُنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحاً ببقاء تلك الرخصة ، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير ، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها ، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله : { ومن كان مريضاً } لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم ، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين ، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم ، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .
{ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .
استئناف بياني كالعلة لقوله : { ومن كان مريضاً } الخ بيَّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاءَ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة .
وقوله : { ولا يريد بكم العسر } نفي لضد اليسر ، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملةُ قصر نحو أن يقول : ما يريد بكم إلاّ اليسر ، لكنه عُدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداءً هو جملة الإثبات لتكون تعليلاً للرخصة ، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيداً لها ، ويجوز أن يكون قوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تعليلاً لجميع ما تقدم من قوله : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم .
وقرأ الجمهور : ( اليُسْر ) و ( العُسْر ) بسكون السين فيهما ، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمةَ إتباع .
عطف على جملةٍ : { يريد الله بكم اليسر } الخ ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمتَ ؛ فإن مجموعَ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : { فمن شهد منكم الشهر } إلى قوله : { فعدة من أيام أُخر } .
واللام في قوله : { ولتكبروا } تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر أي مادة أمَرَ اللذين مفعولهما أنْ المصدرية مع فعلها ، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه فعل الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] قال في « الكشاف » : أصله يريدون أن يطفئوا ، ومنه قوله تعالى : { وأُمرت لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 12 ] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأنْ ظاهرةٍ أو مقدرةٍ .
والمعنى : يريد الله أن تُكملوا العدة وأن تُكبروا الله ، وإكمالُ العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها مَن وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة ، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها ، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف .
وقرأ الجمهور : ( ولتُكْملوا ) بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقَرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كَمَّل .
وقوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم } عطف على قوله : { ولتكملوا العدة } ، وهذا يتضمن تعليلاً وهو في معنى علة غيرِ متضمنةٍ لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه .
والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني ، والكِبَر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها ، أي لتصفوا الله بالعظمة ، وذلك بأن تقولوا : الله أكبر ، فالتفعيل هنا مأخوذ من فَعَّلَ المنحوتِ من قولٍ يقوله ، مثل قولهم : بَسْمل وحَمْدل وهَلَّل وقد تقدم عند الكلام على البسملة ، أي لتقولوا : الله أكبر ، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الوَاقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة ، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة ، وإثبات الأعظمية لله في كلمة ( الله أكبر ) كناية عن وحدانيته بالإلهية ، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية ، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئاً من النقص ، ولذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله ، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم ، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية ، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد .
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأَكل والتلطيخ بالدماء ، فكان لقول المسلم : الله أكبر ، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام .
وقوله : { ولعلكم تشكرون } تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة { ولتكبروا الله على ما هداكم } فإن التكبير تعظيم يتضمن شكراً والشكر أعم ، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القُرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر ، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر .
وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير ؛ إذ جعلتْه مما يريده الله ، وهو غير مفصَّل في لفظ التكبير ، ومجملٌ في وقت التكبير ؛ وعدده ، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال .
فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر ، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثاً ، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك والشافعي : إذا شاء المرءُ زاد على التكبير تهليلاً وتحميداً فهو حسن ولا يترك الله أكبر ، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال : لا إله إلاّ الله والله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس ، وقال أحمد : هو واسع ، وقال أبو حنيفة : لا يجزىء غير ثلاث تكبيرات .
وأما وقته : فتكبير الفطر يبتدىء من وقت خروج المصلي من بيته إلى محل الصلاة ، وكذلك الإمامُ ومَنْ خرج معه ، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير ، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست ، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به أهل المدينة من عهد النبي عليه الصلاة والسلام فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار ، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع ، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير .
وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعُروة بن الزبير والشافعي : يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير ، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها .
فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صلاة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه ، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى : { واذكروا الله في أياممٍ معدودات } [ البقرة : 203 ] .
قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]. 72- القعنبي: قال مالك في الذي يرى الهلال في رمضان وحده: إنه يصومه لأنه لا ينبغي له أن يفطر، وهو يعلم أن ذلك من رمضان، ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر لأن الناس يتهمون أن يفطر من ليس منهم مأمونا ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم قد رأينا الهلال، ومن رأى هلال شوال نهارا فلا يفطر، وليتم صيام يومه فإنما هو هلال الليلة التي تأتي.
قال مالك في صيام الناس يوم الفطر وهم يظنون أنه من رمضان، فجاءهم ثبت: أن هلال رمضان قد رئي قبل أن يصوموا بيوم، وأن يومهم ذلك أحد وثلاثون يوما، وأنهم يفطرون من ذلك اليوم، أية ساعة جاءهم الخبر غير أنهم لا يصلون صلاة العيد، إن كان ذلك جاءهم بعد زوال الشمس...
قوله تعالى: {ومن كان مريضا} [البقرة: 185]. 73- يحيى: سمعت مالكا يقول: الأمر الذي سمعت من أهل العلم، أن المريض إذا أصابه المرض الذي يشق عليه الصيام معه، ويتبعه، ويبلغ ذلك منه. فإن له أن يفطر وكذلك المريض إذا اشتد عليه القيام في الصلاة، وبلغ منه ما الله أعلم بعذر ذلك من العبد، ومن ذلك ما لا تبلغ صفته، فإذا بلغ ذلك، صلى وهو جالس ودين الله يسر،
وقد أرخص الله للمسافر، في الفطر في السفر. وهو أقوى على الصيام من المريض. قال الله تعالى في كتابه: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}. فهذا أحب ما سمعت إلي وهو الأمر المجتمع عليه...
قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185]. 75- يحيى: قال مالك: وأحب إلي أن يكون، ما سمى الله في القرآن، يصام متتابعا. قال مالك فيمن فرق قضاء رمضان فليس عليه إعادة وذلك مجزي عنه وأحب ذلك إلي أن يتابعه...
قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]. 76- القرطبي: قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الشهر فيما قيل أصله من الشهرة، يقال منه: قد شهر فلان سيفه إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه، يشهره شهرا، وكذلك شهر الشهر إذا طلع هلاله، وأشهرنا نحن إذا دخلنا في الشهر. وأما رمضان فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الحرّ الذي كان يكون فيه حتى تَرْمَضُ فيه الفصال، كما يقال للشهر الذي يحجّ فيه ذو الحجة، والذي يرتبع فيه ربيع الأول وربيع الآخر...
وأما قوله: {الّذي أُنْزلَ فيهِ القُرآنُ} فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه...
{هُدىً للنّاسِ}: رشادا للناس إلى سبيل الحقّ وقصد المنهج...
{وَبَيّناتٍ}: وواضحات من الهدى، يعني من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه...
{والفُرْقَان}: والفصل بين الحق والباطل...
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: فمن شهده عاقلاً بالغا مكلفا فليصمه.
{ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر}: ومن كان مريضا أو على سفر في الشهر فأفطر فعليه صيام عدّة الأيام التي أفطرها من أيام أخر غير أيام شهر رمضان...
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن المرض الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدا غير محتمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدّة من أيام أخر، وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر، فإن لم يكن مأذونا له في الإفطار فقد كلف عسرا ومنع يسرا، وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله: {يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ.} وأما من كان الصوم غير جاهده، فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم، فعليه أداء فرضه...
{فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر}: أيام معدودة سوى هذه الأيام.
فإن كان ذلك تأويله، فما قولك فيمن كان مريضا أو على سفر فصام الشهر وهو ممن له الإفطار، أيجزيه ذلك من صيام عدّة من أيام أخر، أو غير مجزيه ذلك؟ وفرض صوم عدة من أيام أخر ثابت عليه بهيئته وإن صام الشهر كله، وهل لمن كان مريضا أو على سفر صيام شهر رمضان، أم ذلك محظور عليه، وغير جائز له صومه، والواجب عليه الإفطار فيه حتى يقيم هذا ويبرأ هذا؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في كل ذلك...
فقال بعضهم: الإفطار في المرض عزمة من الله واجبة، وليس بترخيص...
وقال آخرون: إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره رخصها لعباده، والفرض الصوم، فمن صام فرضه أدّى، ومن أفطر فبرخصة الله له أفطر، قالوا: وإن صام في سفر فلا قضاء عليه إذا أقام...
وهذا القول عندنا أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن مريضا لو صام شهر رمضان وهو ممن له الإفطار لمرضه أن صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلوما بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره، لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للمريض وأمر به من القضاء.
ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحته ذلك بغيرها، وذلك قول الله تعالى ذكره: {يُريدُ الله بِكُم اليُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُم العُسْرَ} ولا عسر أعظم من أن يلزم من صامه في سفره عدة من أيام أخر، وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدّاه. فإن ظنّ ذو غباوة أن الذي صامه لم يكن فرضه الواجب، فإن في قول الله تعالى ذكره: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ}، {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فيهِ القُرآنُ} ما ينبئ أن المكتوب صومه من الشهور على كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقيما، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله: {يا أيّها الّذين آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ} {شَهْرُ رَمَضَانَ}، وأن قوله:
{ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر} معناه: ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر برخصة الله فعليه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه. ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذا سئل عن الصوم في السفر: «إن شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»، الكفاية الكافية عن الاستدلال على صحة ما قلنا في ذلك بغيره...
{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ.}: يريد الله بكم أيها المؤمنون بترخيصه لكم في حال مرضكم وسفركم في الإفطار، وقضاء عدّة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد أقامتكم وبعد برئكم من مرضكم، التخفيف عليكم والتسهيل عليكم، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال.
{وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}: ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم، فيكفلكم صوم الشهر في هذه الأحوال، مع علمه شدة ذلك عليكم وثقل حمله عليكم لو حملكم صومه...
{وَلِتُكْمِلُوا العِدّة}: عدّة ما أفطرتم من أيام أخر أوجبت عليكم قضاء عدّة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم...
{وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ}: ولتعظموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثل الذي كتب عليكم فيه، فضلوا عنه بإضلال الله إياهم، وخصكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتب الله عليكم من صومه، وتشكروه على ذلك بالعبادة له. والذكر الذي خصهم الله على تعظيمه به التكبير يوم الفطر...
{وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرونَ.}: ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق وتيسير ما لو شاء عسر عليكم.
و «لعل» في هذا الموضع بمعنى «كي»، ولذلك عطف به على قوله: {وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّهَ على ما هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}...
تكبير الله هو تعظيمه، وذلك يكون بثلاثة معانٍ: عقد الضمير، والقول، والعمل؛
فعقد الضمير؛ هو اعتقادُ توحيد الله تعالى، وعدله وصحةُ المعرفة به وزوالُ الشكوك.
وأما القولُ؛ فالإقرارُ بصفاته العُلَى وأسمائه الحسنى وسائر ما مدح به نفسه.
وأما العملُ؛ فعبادتهُ بما يعْبَدُ به من الأعمال بالجوارح كالصلاة وسائر المفروضات، وكلّ ذلك غير مقبول إلاّ بعد تقدمة الاعتقاد له بالقلب على الحدّ الذي وصفنا، وأن يتحرَّى بجميع ذلك موافقة أمر الله.
وإذا كان تكبير الله تعالى ينقسم إلى هذه المعاني التي ذكرنا، وقد علمنا لا محالة أن اعتقاد التوحيد والإيمان بالله ورسله شرطٌ في سائر القُرَب، وذلك غير مختص بشيء من الطاعات دون غيرها، ومعلوم أيضاً أن سائر المفروضات التي يتعلق وجوبها بأسباب أُخَر؛ غير مبنية على صيام رمضان، ثبت أن التعظيم المذكور في هذه الآية ينبغي أن يكون متعلقاً بإكمال عِدَّة رمضان، وأولى الأشياء به إظهارُ لفظ التكبير، ثم جائزٌ أن يكون تكبيراً يفعله الإنسان في نفسه عند رؤية هلال شوال، وجائزٌ أن يكون المراد ما تأوّله كثير من السلف على أنه التكبير المفعول في الخروج إلى المصلَّى، وجائزٌ أن يريد به تكبيرات صلاة العيد؛ كلّ ذلك يحتمله اللفظ، ولا دلالة فيه على بعض دون بعض، فأيُّها فعل فقد قَضَى عهدة الآية وفعل مقتضاها،
ولا دلالة في اللفظ على وجوبه، لأن قوله تعالى {ولتكبروا الله} لا يقتضي الوجوب، إذ جائز أن يتناول ذلك النّفْل، ألا ترى أنا نكبر الله أو نعظمه بما نظهره من التكبير نفلاً؟ ولا خلاف بين الفقهاء أن إظهار التكبير ليس بواجب، ومن كبر فإنما فعله استحباباً، ومع ذلك فإنه متى فعل أدْنى ما يسمَّى تكبيراً فقد وافق مقتضى الآية. إلا أن ما روي من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف من الصدر الأول والتابعين في تكبيرهم يوم الفطر في طريق المصلَّى، يدلّ على أنه مراد الآية، فالأظهر من ذلك أنّ فِعْلَهُ مندوبٌ إليه ومستحبٌّ لا حَتْماً واجباً.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{ولتكبروا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ} لدينه ووفقكم ورزقكم شهر رمضان مخففّاً عليكم وخصّكم به دون سائر أهل الملل...
وقال أكثر العلماء: أراد به التكبير ليلة الفطر...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي إنزاله قولان: أحدهما: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر منه، ثم أنزله على نبيه صلى الله والثاني: أنه بمعنى أنزل القرآن في فرض صيامه، وهو قول مجاهد...
{وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرْ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وإنما أعاد ذكر الفطر بالمرض والسفر مع قرب ذكره من قبل، لأنه في حكم تلك الآية منسوخاً، فأعاد ذكره، لِئَلاَّ يصير بالمنسوخ مقروناً، وتقديره فمن كان مريضاً أو على سفر في شهر رمضان فأفطر، فعليه عدة ما أفطر منه، أن يقضيه من بعده...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فعم تعالى الأسفار كلها ولم يخص سفرا من سفر. وهذه آية محكمة بإجماع من أهل الإسلام لا منسوخة ولا مخصوصة...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، يريد –والله أعلم- من علم منكم بدخول الشهر، والعلم في ذلك ينقسم قسمين: أحدهما ضروري، والآخر غلبة الظن،
فالضروري: أن يرى الإنسان الهلال بعينه – في جماعة كان أو وحده، أو يستفيض الخبر عنده حتى يبلغ إلى حد يوجب العلم، أو يتم شعبان ثلاثين يوما، فهذا كله يقين يعلم ضرورة، ولا يمكن للمرء أن يشكك في ذلك نفسه.
وأما غلبة الظن: فأن يشهد بذلك شاهدان عدلان؛ وهذا معنى قول الله –عز وجل-: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. (ت: 14/340). 50- مالك... عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان، فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين).
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{شهر رمضان}؛ شهر مفاتحة الخطاب، شهر إنزال الكتاب، شهر حصول الثواب، شهر التقريب والإيجاب. شهر تخفيف الكلفة، شهر تحقيق الزلفة، شهر نزول الرحمة، شهر وفور النعمة. شهر النجاة، شهر المناجاة...
قوله جلّ ذكره: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}. أراد بك اليسر (وأنت تظن) أنه أراد بك العسر. ومن أمارات أنه أراد بعبده اليسر أنه (أقامه) بطلب اليسر؛ ولو لم يُرِدْ به اليسر لَمَا جعله راغباً في اليسر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الرمضان: مصدر رمض إذا احترق -من الرمضاء- فأضيف إليه الشهر وجعل علماً.
فإن قلت: لم سمي {شَهْرُ رَمَضَانَ}؟ قلت: الصوم فيه عبادة قديمة، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ومقاساة شدّته، كما سموه ناتقاً لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم إضجاراً بشدته عليهم. وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ.
ومعنى: {أُنزِلَ فِيهِ القرآن} ابتدئ فيه إنزاله. وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل: أنزل جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض نجوما. وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} كما تقول: أنزل في عمر كذا، وفي عليّ كذا. وعن النبي عليه السلام:
" نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين مضين".
{هُدًى لّلنَّاسِ وبينات} نصب على الحال، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحقّ والباطل.
فإن قلت: ما معنى قوله: {وبينات مِّنَ الهدى} بعد قوله {هُدًى لّلنَّاسِ}؟ قلت: ذكر أوّلاً أنه هدى، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال.
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: فمن كان شاهداً، أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر، فليصم فيه ولا يفطر.
{يُرِيدُ الله}: أن ييسر عليكم ولا يعسر، وقد نفى عنكم الحرج في الدين، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، و من جملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض.
{وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله: {لتكلموا} علة الأمر بمراعاة العدّة {وَلِتُكَبّرُواْ} علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. وإنما عدّى فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. ومعنى {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وإرادة أن تشكروا وقرئ: «ولتكملوا» بالتشديد.
فإن قلت: ما المراد بالتكبير؟ قلت: تعظيم الله والثناء عليه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال مجاهد والضحاك بن مزاحم:"اليسر": الفطر في السفر. و {العسر}: الصوم في السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين نص على أن «دين الله يسر».
و {هداكم}: قيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد.
و {لعلكم تشكرون}: ترجِّ في حق البشر، أي على نعمة الله في الهدى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا خطاب إرقاء مدحه سبحانه وتعالى بإنزال الذكر فيه جملة إلى بيت العزة وابتدئ من إنزاله إلى الأرض.
قال الحرالي: وأظهر فيه وجه القصد في الصوم وحكمته الغيبية التي لم تجر في الكتب الأول الكتابي فقال: {الذي أنزل فيه القرآن} فأشعر أن في الصوم حسن تلق لمعناه ويسراً لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء، وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح -انتهى. وفي مدحه بإنزاله فيه مدح للقرآن به من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ليوقف على حقيقة ما أتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة من أنه {لا ريب فيه} [البقرة: 2] و أنه {هدى} البقرة: 2] على وجه أعم من ذلك الأول فقال سبحانه وتعالى:
قال الحرالي: اليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم. وقال: فيه إعلام برفق الله بالأجسام التي يسر عليها بالفطر، وفي باطن هذا الظاهر إشعار لأهل القوة بأن اليسر في صومهم وأن العسر في فطر المفطر، ليجري الظاهر على حكمته في الظهور ويجري الباطن على حكمته في البطون،... فلذلك والله سبحانه وتعالى أعلم "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في رمضان في السفر ويأمر بالفطر "وكان أهل القوة من العلماء يصومون ولا ينكرون الفطر- انتهى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان} هذه الآية مستأنفة لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتبت علينا وأنها أيام شهر رمضان، وأن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذين أنزل فيه القرآن، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمان، ببعثة محمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، بالرسالة العامة للأنام، الدائمة إلى آخر الزمان، فالمراد بإنزال القرآن فيه بدؤه وأوله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم.. إنها صوم رمضان: الشهر الذي أنزل فيه القرآن -إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان- والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمنا، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئا. وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء. فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن...
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء:
(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)..
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها. فهي ميسرة لا عسر فيها. وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء. مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها:
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر:
(ولتكبروا الله على ما هداكم. ولعلكم تشكرون)..
فهذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم. وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة. وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها. وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا. ليكبروا الله على هذه الهداية وليشكروه على هذه النعمة. ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة. كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام: (لعلكم تتقون)..
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس. وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {الذي أنزل فيه} أنزل في مثله؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فَبَيْن فرض الصيام والشهرِ الذي أنزل فيه القرآن حقيقةً عدةُ سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر...
وقوله: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة} قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله: {فمن كان منكم مريضاً} [البقرة: 184] أنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي {كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] الخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله {شهر رمضان} الآية وصار الصوم واجباً على التعيين خيف أن يظُنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحاً ببقاء تلك الرخصة، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله: {ومن كان مريضاً} لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}...
نحن نملك لغة عربية دقيقة، وعندنا فرق بين {أنزل} و {نزّل} و {نزَل} ولذلك فكلمة (نزَل) تأتي للكتاب، وتأتي للنازل بالكتاب، يقول تعالى: {نزَل به الروح الأمين 193} (سورة الشعراء). ويقول سبحانه: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزَل} (من الآية 105 سورة الإسراء). وكان بعض من المشركين قد تساءلوا؛ لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة؟.
وانظر إلى الدقة في الهيئة التي أراد الله بها نزول القرآن فقد قال الحق: {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً 22} (سورة الفرقان). وعندما نتأمل قول الحق: (كذلك) فهي تعني أنه سبحانه أنزل القرآن على الهيئة التي نزل بها لزوماً لتثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولو نزل مرة واحدة لكان تكليفاً واحداً، وأحداث الدعوة شتى وكل لحظة تحتاج إلى تثبيت فحين يأتي الحدث ينزل نجم قرآني فيعطي به الحق تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم...
[و] انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قوله: {ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}. إن العبادة التي نفهم أن فيها مشقة هي الصيام وبعد ذلك تكبرون الله؛ لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقه عليه مثل الصوم ويتحمله، وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقاً يستحق أن يشكر الله الذي كلفه بالصوم ووفقه إلى أدائه؛ لأن معنى {ولتكبّروا الله} يعني أن تقول: (الله أكبر) وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات، فتقول: الله أكبر من كل ذلك، الله أكبر؛ لأنه حين يمنعني يعطيني، وسبحانه يعطي حتى في المنع؛ فأنت تأخذ مقومات حياة ويعطيك في رمضان ما هو أكثر من مقوّمات الحياة والإشراقات التي تتجلى لك، وتذوق حلاوة التكليف وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه أعطاك نعمة أكثر منها...
وبعد ذلك فالنسق القرآني ليس نسقاً من صنع البشر، فنحن نجد أن نسق البشر يقسم الكتاب أبواباً وفصولاً ومواد كلها مع بعضها، ويفصل كل باب بفصوله ومواده، وبعد ذلك ينتقل لباب آخر، لكن الله لا يريد الدين أبواباً، وإنما يريد الدين وحدة متكاتفة في بناء ذلك الإنسان، فيأتي بعد قوله: {ولتكبّروا الله} ب
(ولعلكم تشكرون) ومعنى ذلك أنكم سترون ما يجعلكم تنطقون ب (الله أكبر)؛ لأن الله أسدى إليكم جميلاً، وساعة يوجد الصفاء بين (العابد) وهو الإنسان و
(المعبود) وهو الرب، ويثق العابد بأن المعبود لم يكلفه إلا بما يعود عليه بالخير، هنا يحسن العبد ظنه بربه، فيلجأ إليه في كل شيء، ويسأله عن كل شيء، ولذلك جاء هنا قول الحق: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون 186}...