افتتحت هذه السورة باستحقاق الله وحده الثناء والمدح على ما أنعم به على عباده فكل ما في السماوات والأرض له سبحانه خلقا وملكا ، وتحكي السورة قالة الكافرين في الساعة ، واستبعادهم للبعث ، ورميهم الرسول بالكذب وبالجنون ، ويردهم سبحانه إلى دلائل قدرته ، ويخوفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأشباههم فيخسف بهم الأرض ، أو يسقط عليهم قطعا من السماء ، ويذكرهم بفعله مع أوليائه . فقد ألان الحديد لداود ، ومكن سليمان وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، وداود وسليمان قد شكرا النعمة ، وقليل من عباد الله الشكور ، وأتبع ذلك بما أنعم الله على سبأ من نعم لم يشكروها ، فكان لهم جنتان عن يمين وشمال ، فكانت قراهم متقاربة يسيرون إليها آمنين ، فأبطرتهم النعمة وطلبوا بعد الأسفار ، فجازاهم الله بما يجازي به الجاحدين لنعمه ، وهم قد حققوا ظن إبليس واتبعوه ، وما كان له عليهم من سلطان ، وإنما هو فتنة تميز المؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها . ثم أخذت السورة نصف من جعلوهم آلهة بالعجز ، وتذكر أن كل نفس مسئولة عن جرمها ، وتثبت عموم رسالة الرسول ، وتنقل استبطاء المشركين ليوم الوعيد ، وله وقت معلوم .
وتحكي السورة قول الكافرين في القرآن ومحاورة المستكبرين والضعفاء ، وتضع حدا للتفاخر بالأموال والأولاد ، وأنها لا تقرب إلى الله إلا بقدر ما توجه إليه من نفع عام ، فهي ملكه ، وهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وتعرض صورا للمشركين ، فقد قالوا في رسولهم : إنه يريد أن يصدهم عما يعبد آباؤهم ، وقالوا فيما نزل عليه من آيات : إفك مفترى وسحر مبين ، وما أتوا كتبا من قبل ؟ ، وما أرسا إليهم قبلك من رسول ، وقد أرسلنا إلى من قبلهم ممن علموا قوتهم وعزتهم وأخبارهم ، فلما لم يستجيبوا أخذناهم بالعذاب . ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوضح مهمته معهم ، وأنها التذكير دون الإلجاء ، ويؤمرون بالنظر في صاحبهم ، فما به جنون ، ولا هو طالب لمال ، ودعوته للناس إلى الحق بوحي من الله تعالى ليتحقق لهم الأمن ، فإذا جاءت الساعة وفزعوا ولا مهرب أخذوا من مكان قريب ، وقالوا عند ذلك : آمنا . وأنى لهم الإيمان وقد كفروا من قبل ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم ، إنهم جميعا كانوا في شك من أمر الدين موقع في الريبة .
1- الثناء كله حق لله - وحده - الذي له ما في السماوات وما في الأرض خلقا ومُلْكا وتدبيرا ، وله - وحده - الثناء في الآخرة لملكه الشامل ، وهو الحكيم الذي لا يخطئ ، الخبير الذي لا يغيب عنه سر .
قوله : { الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض } ملكاً وخلقاً ، { وله الحمد في الآخرة } كما هو له في الدنيا ، لأن النعم في الدارين كلها منه . وقيل : الحمد لله في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال الله تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } { الحمد لله الذي صدقنا وعده } . { وهو الحكيم الخبير* }
سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون
موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية : توحيد الله ، والإيمان بالوحي ، والاعتقاد بالبعث . وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية . وبيان أن الإيمان والعمل الصالح - لا الأموال ولا الأولاد - هما قوام الحكم والجزاء عند الله . وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء ؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه . وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة ، وأساليب شتى ؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .
فعن قضية البعث يقول : ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم ) . .
وعن قضية الجزاء يقول : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .
وفي موضع آخر قريب في سياق السورة : ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ? أفترى على الله كذبا أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) .
ويورد عدة مشاهد للقيامة ، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به ، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .
وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . وقالوا : آمنا به . وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ? وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل . إنهم كانوا في شك مريب .
وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . .
ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة : ( قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .
ويرد قرب ختام السورة : ( قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ) . .
وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله ( الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ) . .
ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله : ( قل : ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير ) . .
وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة : ( ويوم يحشرهم جميعاًثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك ! أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) .
وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .
وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له ، وعجزهم عن معرفة موته : ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .
وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله : ( وقال الذين كفروا : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . . وقوله : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا : ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين ) . .
ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة : ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) . . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها : إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين . قل : إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون . والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ) . .
ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض : قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله . وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون . وما وقع لهؤلاء وهؤلاء . وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد .
هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى ، تعرض في كل سورة في مجال كوني ، مصحوبة بمؤثرات منوعة ، جديدة على القلب في كل مرة . ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال ، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة ، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب . وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة . وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة . وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة ، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة . وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري ، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود .
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل ؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله ، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . . ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .
والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . .
والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى : ( ولاتنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق . وهو العلي الكبير ) . .
أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) . . . الخ .
والمكذبون لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم ، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة : ( قل : إنما أعظكم بواحدة . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .
وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة ، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة . حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا . .
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة ؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها . وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً . . وهذا هو طابع السورة الذي يميزها . .
تبدأ السورة بالحمد لله ، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها ، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، عن علم دقيق . وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق . وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث ، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد ؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم . .
فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته ، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله . غير متبطرين ولا مستكبرين ، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، ويستفتونهم في أمر الغيب . وهم لا يعلمون الغيب . وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون . . . وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر . قصة سبأ . وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه : ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) . . وذلك أنهم اتبعوا الشيطان ، وما كان له عليهم من سلطان ، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين !
ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله . وهم ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) . . وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله - ولو كانوا من الملائكة - فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق . . ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض . والله مالك السماوات والأرض ، وهو الذي يرزقهم بلا شريك . . ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله ، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون . . ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه ، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء . ( كلا بل هو الله العزيز الحكيم ) . .
والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة ، وموقفهم منها ، وموقف المترفين من كل دعوة ، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء ، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد . ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين . كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين . . ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل . وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى ، وليس بكاذب ولا مجنون . . ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة . وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية : قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قل : إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب . . وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف .
( الحمد لله ، الذي له ما في السماوات ، وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور . . )
ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله ، وتكذيبهم لرسوله ، وشكهم في الآخرة ، واستبعادهم للبعث والنشور . ابتداء بالحمد لله . والله محمود لذاته - ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر - وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله .
ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض ؛ فليس لأحد معه شيء ، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك ، فله - سبحانه - كل شيء فيهما . . وهذه هي القضية الأولى في العقيدة . قضية التوحيد . والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض .
( وله الحمد في الآخرة ) . . الحمد الذاتي . والحمد المرتفع من عباده . حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا ، أو يشركون معه غيره عن ضلالة ، تتكشف في الآخرة ، فيتمحض له الحمد والثناء .
( وهو الحكيم الخبير ) . . الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة ؛ ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة ؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة . . الخبير الذي يعلم بكل شيء ، وبكل أمر ، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور .
يخبر تعالى عن نفسه الكريمة : أن له الحمدَ المطلق في الدنيا والآخرة ؛ لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ، المالك لجميع ذلك ، الحاكم في جميع ذلك ، كما قال : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : الجميع ملكه وعبيده وتحت قهره وتصرفه ، كما قال : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى } [ الليل : 13 ] .
ثم قال : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ } ، فهو المعبود{[24144]} أبدا ، المحمود على طول المدى . وقال : { وَهُوَ الْحَكِيمُ } أي : في أقواله وأفعاله وشرعه وقَدَره ، { الْخَبِيرُ } الذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه شيء .
وقال مالك عن الزهري : خبير بخلقه ، حكيم بأمره ؛ ولهذا قال : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا }
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل ، والحمد التامّ كله ، للمعبود الذي هو مالك جميع ما في السموات السبع ، وما في الأرَضين السبع دون كل ما يعبدونه ، ودون كل شيء سواه ، لا مالك لشيء من ذلك غيره فالمعنى : الذي هو مالك جميعه وَلهُ الحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ يقول : وله الشكر الكامل في الاَخرة ، كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة ، لأن منه النعم كلها على كل من في السموات والأرض في الدنيا ، ومنه يكون ذلك في الاَخرة ، فالحمد لله خالصا دون ما سواه في عاجل الدنيا ، وآجل الاَخرة ، لأن النعم كلها من قِبله لا يُشركه فيها أحد من دونه ، وهو الحكيم في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في تقديره ، خبير بهم وبما يصلحهم ، وبما عملوا ، وما هم عاملون ، محيط بجميع ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ حكيم في أمره ، خبير بخلقه .
بسم الله الرحمن الرحيم { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } خلقا ونعمة ، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وعلى تمام نعمته ، { وله الحمد في الآخرة } لأن ما في الآخرة أيضا كذلك ، وليس هذا من عطف المقيد على المطلق فإن الوصف بما يدل على أنه المنعم بالنعم الدنيوية قيد الحمد بها ، وتقديم الصلة للاختصاص فإن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة . { وهو الحكيم } الذي أحكم أمور الدارين . { الخبير } ببواطن الأشياء .
هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراءة ولم أقف على تسميتها في عصر النبوة . ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها أهل سبأ .
وهي مكية وحكي اتفاق أهل التفسير عليه . وعن مقاتل أن أية { ويرى الذين أوتوا العلم } إلى قوله { العزيز الحميد } نزلت بالمدينة . ولعله بناء على تأويلهم أهل العلم إنما يراد بهم أهل الكتاب الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام . والحق أن الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وعزي ذلك إلى ابن عباس أو هم أمة محمد ، قاله قتادة ، أي لأنهم أوتوا بالقرآن علما كثيرا قال تعالى { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } ، على أنه لا مانع من التزام أنهم علماء أهل الكتاب قبل أن يؤمنوا لأن المقصود الاحتجاج بما هو مستقر في نفوسهم الذي أنبأ عنه إسلام طائفة منهم كما نبينه عند قوله تعالى { ويرى الذين أوتوا العلم } الخ .
ولابن الحصار أن سورة سبا مدنية لما رواه الترمذي : عن فروة بن مسيك العطيفي المرادي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : وأنزل في سبأ ما أنزل . فقال رجل : يا رسول الله : وما سبأ? الحديث . قال ابن الحصار : هاجر فروة سنة تسع بعد فتح الطائف . وقال ابن الحصار : يحتمل أن يكون قوله { وأنزل } حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرة فروة ، أي أن سائلا سأل عنه لما قرأه أو سمعه من هذه السورة أو من سورة النمل .
وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور ، نزلت بعد سورة لقمان سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في الإتقان ، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله تعالى فيها { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى قوله { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } إنهم عنوا قوله تعالى في هذه السورة { إن تشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء } فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعد الإسراء متممة الخمسين .
وليس يتعين أن يكون قولهم { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } معنيا به هذه الآية لجواز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هددهم بذلك في موعظة أخرى .
وعدد آيها أربع وخمسون في عد الجمهور ، وخمس وخمسون في عد أهل الشام .
من أغراض هذه السورة إبطال قواعد الشرك وأعظمها إشراكهم آلهة مع الله وإنكار البعث فابتدئ بدليل على انفراده تعالى بالإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنام شفعاء لعبادها .
ثم موضوع البعث ، وعن مقاتل : أن سبب نزولها أن أبا سفيان لما سمع قوله تعالى { ليعذب الله المنافقين والمنافقات } الآية الأخيرة من سورة الأحزاب قال لأصحابه : كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ، فأنزل الله تعالى { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } الآية .
وعليه فما قبل الآية المذكورة من قوله { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } إلى قوله { وهو الرحيم الغفور } تمهيد للمقصود من قوله { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } .
واثبات إحاطة علم الله بما في السماوات وما في الأرض فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء .
وإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ، وصدق ما جاء به القرآن وأن القرآن شهدت به علماء أهل الكتاب .
وتخلل ذلك بضروب من تهديد المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين من قبل . وعرض بأن جعلهم لله شركاء كفران لنعمة الخالق فضرب لهم المثل بمن شكروا نعمة الله واتقوه فأوتوا خير الدنيا والآخرة وسخرت لهم الخيرات مثل داود وسليمان ، وبمن كفروا بالله فسلط عليه الأزراء في الدنيا وأعد لهم العذاب في الآخرة مثل سبأ ، وحذروا من الشيطان ، وذكروا بأن ما هم فيه من قرة العين يقربهم إلى الله ، وأنذروا بما سيلقون يم الجزاء من خزي وتكذيب وندامة وعدم النصير وخلود في العذاب ، وبشر المؤمنون بالنعيم المقيم .
افتتحت السورة ب { الحمد لله } للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإِلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإِخبار باختصاصه به . فجملة { الحمد لله } هنا يجوز كونها إخباراً بأن جنس الحمد مستحَق لله تعالى فتكون الّلام في قوله : { لله } لام الملك . ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وَجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام : أحمد الله .
وقد تقدم الكلام على { الحمد لله } في سورة الفاتحة ( 2 ) ، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف .
وهذه إحدى سور خمس مفتتحة ب { الحمد لله } وهنّ كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه ، والربع الأخير ، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف .
واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإِنشاء الثناء عليه لأن مِلكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجادُ تلك المملوكات وذلك الإِيجادُ عمل جميل يستحق صاحبه الحمد ، وأيضاً هو يتضمن نعماً جمة . وهي أيضاً تقتضي حمد المنعِم ، لأن الحمد يكون للفضائل وللفواضِل ؛ فما في السموات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية ، فيها هدى حسِّي ونفساني ، وإليه معارجَ للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السِيَر ، وإزالةُ الغِيَر ، ونزول الغيوث بالمطر . وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين ، ومنابت أرزاق المرتزقين ، وميادين نفوس السائرين .
وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لَها بما تحتوي عليه أدنى شعور ، ونَسُوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض .
وجملة { وله الحمد في الآخرة } عطف على الصلة ، أي والذي له الحمد في الآخرة ، وهذا إنباء بأنه مالكُ الأمر كله في الآخرة .
وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة . وتقديم المجرور لإِفادة الحصر ، أي لا حمد في الآخرة إلا له ، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذٍ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور .
واعلم أن جملة : { الحمد لله } وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصراً مجازياً للمبالغة كما تقدم في سورة الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه ، فلما شاع ذلك في جملة { الحمد لله } وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة { له الحمد } لهذا الاعتبار ، وهذا نظير معنى قوله تعالى : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ، فالمعنى : أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذٍ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرفُ غيرهِ بتصرفه .
ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجعَ التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي { الحكيم الخبير } ، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها . فالحكمة : إتقان التصرف بالإِيجاد وضده ، والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها .
والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدلّ على معنى أصلي ومعنى لزومي ، وهما مختلفان ، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإِحكام وهو الإِتقان ، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه ، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها ، وهو يستلزم التمكن من تصريفها ، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين أقبلوا في شؤونهم على آلهة باطلة .