قوله تعالى : { إن تمسسكم } . أي تصبكم أيها المؤمنون .
قوله تعالى : { حسنة } . بظهوركم على عدوكم ، وغنيمة تنالونها منهم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وخصب في معايشكم .
قوله تعالى : { تسؤهم } . تحزنهم .
قوله تعالى : { وإن تصبكم سيئة } . مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف يكون بينكم ، أو جدب أو نكبة .
قوله تعالى : { يفرحوا بها وإن تصبروا } . على أذاهم .
قوله تعالى : { وتتقوا } . تخافوا ربكم .
قوله تعالى : { لا يضركم } . أي : لا ينقصكم .
قوله تعالى : { كيدهم شيئاً } . قرأ ابن عامر وابن كثير ونافع وأهل البصرة لا يضركم بكسر الضاد خفيفة ، يقال : ضار يضير ضيراً ، وهو جزم على جواب الجزاء ، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء ، من ضر يضر ضراً ، مثل رد يرد رداً ، وفي رفعه وجهان : أحدهما أنه أراد الجزم ، وأصله يضرركم فأدغمت الراء في الراء ، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الثانية إتباعا ، والثاني : أن يكون لا بمعنى ليس ، ويضمر فيه الفاء ، تقديره : وإن تصبروا وتتقوا فليس يضركم كيدهم شيئاً .
( إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) . .
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة ، ولكننا لا نفيق . . ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر . ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله
المسلمون ، ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين . . ومع ذلك نعود ، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق ! . . وتبلغ بنا المجاملة ، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها ، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام ، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين ! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله . ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي . ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا ، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا . .
وها هو ذا كتاب الله يعلمنا - كما علم الجماعة المسلمة الأولى - كيف نتقي كيدهم ، وندفع أذاهم ، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم ، ويفلت على السنتهم منه شواظ :
( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط ) . .
فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء ؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع . الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل ؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول . . ثم هو التقوى : الخوف من الله وحده . ومراقبته وحده . . هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله ، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه ، ولا تعتصم بحبل إلا حبله . . وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته ؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته ، فلا يستسلم من قريب ، ولا يواد من حاد الله ورسوله ، طلبا للنجاة أو كسبا للعزة !
هذا هو الطريق : الصبر والتقوى . . التماسك والاعتصام بحبل الله . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها ، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها . . إلا عزوا وانتصروا ، ووقاهم الله كيد أعدائهم ، وكانت كلمتهم هي العليا . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين ، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرا وجهرا ، واستمعوا إلى مشورتهم ، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانا وخبراء ومستشارين . . إلا كتب الله عليهم الهزيمة ، ومكن لأعدائهم فيهم ، وأذل رقابهم ، وأذاقهم وبال أمرهم . . والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة ؛ وأن سنة الله نافذة . فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض ، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان . .
بهذا ينتهي هذا الدرس ؛ وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة . وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة ؛ وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة .
ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى ، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء . فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء . ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها . إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم ، وللكينونة المسلمة . . مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون . . أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا ؛ وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعا ؛ وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعا ؛ يتقي الكيد ولكنه لا يكيد ، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد . إلا أن يحارب في دينه ، وأن يفتن في عقيدته ، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه . فحينئذ هو مطالب أن يحارب ، وأن يمنع الفتنة ، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله ، وعن تحقيق منهجه في الحياة . يحارب جهادا في سبيل الله لا انتقاما لذاته . وحبا لخير البشر لا حقدا على الذين آذوه . وتحطيما للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس . لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال . . وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام . لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية !
هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة ؛ ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى ، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص .
إن هذا المنهج خير . وما يصد البشرية عنه إلا أعدى أعداء البشرية . الذين ينبغي لها أن تطاردهم ، حتى تقصيهم عن قيادتها . . وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة ، فأدته مرة خير ما يكون الأداء . وهي مدعوة دائما إلى أدائه ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة . . تحت هذا اللواء . .
ثم قال : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } وهذه الحال دالة{[5608]} على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه{[5609]} إذا أصاب المؤمنين خصب ، ونصر وتأييد ، وكثروا وعزّ أنصارهم ، ساء ذلك المنافقين ، وإن أصاب المسلمين سَنَة{[5610]} - أي : جَدْب - أو أُديل عليهم الأعداء ، لما لله في ذلك من الحكمة ، كما جرى يوم أُحُد ، فَرح المنافقون بذلك ، قال الله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ]{[5611]} } يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكَيْدِ الفُجّار ، باستعمال الصبر والتقوى ، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم ، فلا حول ولا قوة لهم إلا به ، وهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ، ومن توكل عليه كفاه .
{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
يعني بقوله تعالى ذكره : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } إنْ تَنالُوا أيها المؤمنون سرورا بظهوركم على عدوّكم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وتصديق نبيكم ، ومعاونتكم على أعدائكم ، يسؤهم . وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو بإصابة عدوّ لكم منكم ، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } ، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوّهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به ، فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } قال : هم المنافقون إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا على عدوّهم ، غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرّهم ذلك وأعجبوا به¹ قال الله عزّ وجلّ : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا إنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } قال : إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك ، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافا فرحوا .
وأما قوله : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } فإنه يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن تصبروا أيها المؤمنون على طاعة الله ، واتباع أمره فيما أمركم به ، واجتناب ما نهاكم عنه ، من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين ، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ، وتتقوا ربكم ، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم ، وأوجب عليكم من حقه وحقّ رسوله ، لا يضرّكم كيدهم شيئا : أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم . ويعني بكيدهم : غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحقّ .
واختلف القراء في قراءة قوله : { لا يَضُرّكُمْ } فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين : «لا يَضِرْكُمْ » مخففة بكسر الضاد من قول القائل : ضارني فلان فهو يضيرني ضَيْرا ، وقد حكي سماعا من العرب : ما ينفعني ولا يضورني . فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل : لا يضركم كيدهم شيئا ، ولكني لا أعلم أحدا قرأ به ، وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قراء أهل الكوفة : { لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } بضم الضاد وتشديد الراء من قول القائل : ضرّني فلان فهو يضرّني ضرّا .
وأما الرفع في قوله : { لا يَضُرّكُمْ } فمن وجهين : أحدهما على إتباع الراء في حركتها ، إذ كان الأصل فيها الجزم ، ولم يمكن جزمها لتشديدها أقرب حركات الحروف التي قبلها ، وذلك حركة الضاد ، وهي الضمة ، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها ، كما قالوا : مُدّ يا هذا . والوجه الاَخر من وجهي الرفع في ذلك : أن تكون مرفوعة على صحة ، وتكون «لا » بمعنى «ليس » ، وتكون الفاء التي هي جواب الجزاء متروكة لعلم السامع بموضعها . وإذا كان ذلك معناه ، كان تأويل الكلام : وإن تصبروا وتتقوا فليس يضرّكم كيدهم شيئا ، ثم تركت الفاء من قوله : { لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ } ووجهت «لا » إلى معنى «ليس » ، كما قال الشاعر :
فإنْ كانَ لا يُرْضِيكَ حتى تَرُدّنِي *** إلى قَطَرِيّ لا إخالُكَ رَاضِيا
ولو كانت الراء محركة إلى النصب والخفض كان جائزا ، كما قيل : مُدّ يا هذا ، ومُدّ .
وقوله : { إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } يقول جل ثناؤه : إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله والعداوة لأهل دينه وغير ذلك من معاصي الله ، محيط بجميعه ، حافظ له لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ويذيقهم عقوبته عليه .
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسدوا ما نالهم من خير ومنفعة ، وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة ، والمس مستعار للإصابة { وإن تصبروا } على عداوتهم ، أو على مشاق التكاليف . { وتتقوا } موالاتهم ، أو ما حرم الله جل جلاله عليكم . { لا يضركم كيدهم شيئا } بفضل الله عز وجل وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر ، المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريا على الخصم ، وضمه الراء للاتباع كضمه مد . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { لا يضركم } من ضاره يضيره . { إن الله بما يعملون } من الصبر والتقوى وغيرهما . { محيط } أي محيط علمه فيجازيكم مما أنتم أهله . وقرئ بالياء أي { بما يعملون } ، في عداوتكم عليم فيعاقبهم عليه .
«الحسنة والسيئة » في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء ، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال ، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة » ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن ، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه ، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين ، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب ، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر : [ البسيط ]
كلٌّ العداوةِ قَدْ تُرجى إزالَتُها . . . إلاّ عداوةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ{[3468]}
ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين ، ووجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة ، جاء قوله تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم ، وشرط ذلك بالصبر والتقوى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «لا يضِرْكم » بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة ، وحكى الكسائي : ضار يضور ، ولم يقرأ على هذه اللغة ، ومن ضار يضير في كتاب الله { لا ضير }{[3469]} ومنه قول أبي ذؤيب الهذلى :
فَقِيلَ تَحْمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنّها . . . مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُها{[3470]}
يصف مدينة ، والمعنى فليس يضيرها ، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط ، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير :
وَقالَ أُنَاسٌ لا يُضِيرُكَ نَأْيُها . . . بَلَى كلُّ ما شقَّ النُّفوسَ يَضِيرُها{[3471]}
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «لا يضُرُّكم » بضم الضاد والراء والتشديد في الراء ، وهذا من ضر يضر ، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو ، وأما إعراب هذه القراءة فجزم ، وضمت الراء للالتقاء ، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا إتباعاً لضمة الضاد ، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم ، فما الكسر فلا أعرفها قراءة ، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة ، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرَّكم » فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه ، ويجوز أيضاً أن يكون إعراب قوله ، «لا يضركم » ، رفعاً إما على تقدير ، فليس يضركم ، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب ، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا » كما قال [ جرير بن عبد الله ] : [ الرجز ]
يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ . . . إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخْوكَ تُصْرَعُ{[3472]}
المراد أنك تصرع ، وقرأ أبي بن كعب : «لا يضرركم » براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها تعالى في الآية { إن تمسسكم } ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله ، و «الكيد » الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى : { وأكيد كيداً }{[3473]} إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله تعالى : { إن الله بما يعملون محيط } وعيد ، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان ، وقرأ الحسن : «بما تعملون » بالتاء ، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة ، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير : قل لهم يا محمد .
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها }
زاد الله كشفا لِما في صدورهم بقوله : { إن تمسسكم حسنة نسؤهم } أي تصبكم حسنة والمسّ الإصابة ، ولا يختصّ أحدهما بالخير والآخر بالشرّ ، فالتَّعبير بأحدهما في جانب الحسنة ، وبالآخر في جانب السيِّئة ، تفنّن ، وتقدّم عند قوله تعالى : { كالذي يتخبطه الشيطان } من المس في سورة البقرة ( 275 ) .
والحسنة والسيِّئة هنا الحادثة أو الحالة الَّتي تحسن عند صاحبها أو تسوء وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشَّرعي .
وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضِرْكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ : بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر ، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم ، وقوله { لا يَضِركم كيدهم شيئاً } أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلاّ أذى ، فالأذى ضرّ خفيف ، فلمَّا انتفى الضرّ الأعظم الَّذي يحتاج في دفعه إلى شديدِ مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق ، كان انتفاء ما بَقي من الضرّ هيّناً ، وذلك بالصّبر على الأذى ، وقلّة الاكتراث به ، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّاً عظيماً . وفي الحديث : « لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّهِ يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم » .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : { لا يضركم } بكسر الضاد وسكون الراء من ضارُه يضيره بمعنى أضرّه . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بضم الضاد وضم الراء مشدّدة مِن ضرّهُ يضُرّه ، والضمّة ضمّة إتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلّص من التقاء الساكنين : سكون الجزم وسكونِ الإدغام ، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثةُ وجوه في العربية : الضمّ لإتباع حركة العين ، والفتح لخفّته ، والكسر لأنَّه الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين ، ولم يُقرأ إلاّ بالضمّ في المتواتر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: {إن تمسسكم حسنة}، يعني الفتح والغنيمة يوم بدر، {تسؤهم وإن تصبكم سيئة}، القتل والهزيمة يوم أحد، {يفرحوا بها}.
ثم قال للمؤمنين: {وإن تصبروا} على أمر الله، {وتتقوا} معاصيه {لا يضركم كيدهم شيئا}، يعني قولهم، {إن الله بما يعملون محيط}، أحاط علمه بأعمالهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله تعالى ذكره: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} إنْ تَنالُوا أيها المؤمنون سرورا بظهوركم على عدوّكم، وتتابع الناس في الدخول في دينكم، وتصديق نبيكم، ومعاونتكم على أعدائكم، يسؤهم. وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم، أو بإصابة عدوّ لكم منكم، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها...
وأما قوله: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} فإنه يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإن تصبروا أيها المؤمنون على طاعة الله، واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه، من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم، وتتقوا ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم، وأوجب عليكم من حقه وحقّ رسوله، لا يضرّكم كيدهم شيئا: أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم. ويعني بكيدهم: غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحقّ...
وقوله: {إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} يقول جل ثناؤه: إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله والعداوة لأهل دينه وغير ذلك من معاصي الله، محيط بجميعه، حافظ له لا يعزب عنه شيء منه، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ويذيقهم عقوبته عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وعد النصر بشرط لا يضركم كيدهم شيئا. أخبر أن المؤمنين إذا اتقوا، وصبروا، لا يضرهم كيدهم شيئا حتى يعلم أن ما يصيب المؤمنين إنما يصيب بما كسبت أيديهم. وقوله تعالى: {إن الله بما يعملون محيط} على الوعيد.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله: (إن الله بما تعملون محيط) معناه عالم به من جميع جهاته مقتدر عليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الحسنة: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع. والسيئة ما كان ضدّ ذلك وهذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدّة. فإن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ قلت: المس مستعار لمعنى الإصابة فكان المعنى واحداً. ألا ترى إلى قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [التوبة: 50]، {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}، {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: 20 21]. {وَإِنْ تَصْبِرُواْ} على عداوتهم {وَتَتَّقُواْ} ما نهيتم عنه من موالاتهم. أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه كنتم في كنف الله فلا يضركم كيدهم...
وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى. وقد قال الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الصبر والتقوى وغيرهما {مُحِيطٌ} ففاعل بكم ما أنتم أهله. وقرئ بالياء بمعنى أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«الحسنة والسيئة» في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر: [البسيط] كلٌّ العداوةِ قَدْ تُرجى إزالَتُها... إلاّ عداوةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين، ووجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة، جاء قوله تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم، وشرط ذلك بالصبر والتقوى،... و «الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى: {وأكيد كيداً} إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله تعالى: {إن الله بما يعملون محيط} وعيد، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان، وقرأ الحسن: «بما تعملون» بالتاء، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير: قل لهم يا محمد.
اعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين، فبين تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين... [و] معنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين. وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] فمن وفي بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات، وإليه الإشارة بقوله {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2، 3] إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره... قرئ بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه، ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة، فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله...
إنما قال: {إن الله بما يعملون محيط} ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالما، بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها، فلا جرم قد ذكر العمل، والله أعلم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر، ولا متعلق التقوى. لكنَّ الصبر هو حبس النفس على المكروه، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله. فيحسنُ أنْ يقدَّرَ المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما أخبرت به هذه الجمل من بغضهم وشدة عداوتهم محتاجاً ليصل إلى المشاهدة إلى بيان دل عليه بقوله: {إن تمسسكم} أي مجرد مس {حسنة تسؤهم} ولما كان هذا دليلاً شهودياً ولكنه ليس صريحاً أتبعه الصريح بقوله: {وإن تصبكم} أي بقوة مرها وشدة وقعها وضرها {سيئة يفرحوا بها} ولما كان هذا أمراً مبكتاً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر مشروطاً بشرط التقوى والصبر فقال: {وإن تصبروا وتتقوا} أي تكونوا من أهل الصبر والتقوى {لا يضركم كيدهم شيئاً} ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {بما يعملون محيط} أي فهو يعد لكل كيد ما يبطله، والمعنى على قراءة الخطاب: بعملكم كله، فمن صبر واتقى ظفرته، ومن عمل على غير ذلك انتقمت منه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ذكرُ المسِّ مع الحسنة والإصابة مع السيئة إما للإيذان بأن مدارَ مساءتِهم أدنى مراتبِ إصابةِ الحسنةِ ومناطَ فرحِهم تمامُ إصابةِ السيئةِ، وإما لأن المسَّ مستعارٌ لمعنى الإصابة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
من الاعتبار في الآية أنه تعالى أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكائدين وباتقاء شرهم ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة الحسنة وإن أمكن كما قال: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34] فإن لم يمكن تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا اعتداء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة، ولكننا لا نفيق.. ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر. ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون، ولا تغسلها سماحة يعلمها لهم الدين.. ومع ذلك نعود، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق!.. وتبلغ بنا المجاملة، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله. ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي. ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا.. وها هو ذا كتاب الله يعلمنا -كما علم الجماعة المسلمة الأولى- كيف نتقي كيدهم، وندفع أذاهم، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم، ويفلت على السنتهم منه شواظ: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا. إن الله بما يعملون محيط).. فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع. الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول.. ثم هو التقوى: الخوف من الله وحده. ومراقبته وحده.. هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه، ولا تعتصم بحبل إلا حبله.. وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته، فلا يستسلم من قريب، ولا يواد من حاد الله ورسوله، طلبا للنجاة أو كسبا للعزة! هذا هو الطريق: الصبر والتقوى.. التماسك والاعتصام بحبل الله. وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها.. إلا عزوا وانتصروا، ووقاهم الله كيد أعدائهم، وكانت كلمتهم هي العليا. وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرا وجهرا، واستمعوا إلى مشورتهم، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانا وخبراء ومستشارين.. إلا كتب الله عليهم الهزيمة، ومكن لأعدائهم فيهم، وأذل رقابهم، وأذاقهم وبال أمرهم.. والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة؛ وأن سنة الله نافذة. فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والانكسار والهوان.. بهذا ينتهي هذا الدرس؛ وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة. وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة؛ وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة. ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء. فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء. ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها. إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم، وللكينونة المسلمة.. مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون.. أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا؛ وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعا؛ وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعا؛ يتقي الكيد ولكنه لا يكيد، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد. إلا أن يحارب في دينه، وأن يفتن في عقيدته، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه. فحينئذ هو مطالب أن يحارب، وأن يمنع الفتنة، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله، وعن تحقيق منهجه في الحياة. يحارب جهادا في سبيل الله لا انتقاما لذاته. وحبا لخير البشر لا حقدا على الذين آذوه. وتحطيما للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس. لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال.. وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام. لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية! هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة؛ ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص. إن هذا المنهج خير. وما يصد البشرية عنه إلا أعدى أعداء البشرية. الذين ينبغي لها أن تطاردهم، حتى تقصيهم عن قيادتها.. وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة، فأدته مرة خير ما يكون الأداء. وهي مدعوة دائما إلى أدائه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.. تحت هذا اللواء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ: بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم، وقوله {لا يَضِركم كيدهم شيئاً} أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلاّ أذى، فالأذى ضرّ خفيف، فلمَّا انتفى الضرّ الأعظم الَّذي يحتاج في دفعه إلى شديدِ مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بَقي من الضرّ هيّناً، وذلك بالصّبر على الأذى، وقلّة الاكتراث به، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّاً عظيماً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إن تمسسكم حسنة تسؤهم إن تصبكم سيئة يفرحوا بها} هذه صورة واضحة لأنهم لا يحبون المؤمنين، ويغيظهم صلاح حال المؤمنين، وإمداد الله تعالى بالنصر لهم، والمعنى: إن أنزل الله لكم نعما ونصرا وأمرا حسنا نافعا في ذاته ويحسن في نظركم وينفعكم، ساءهم ذلك، وأثار غيظهم وحسدهم، وإن نزلت بكم شديدة وأمر يسوء يفرحوا، وتستطار ألبابهم سرورا وحبورا، وقد عبر سبحانه وتعالى في جانب الحسنة بقوله: {إن تمسسكم حسنة} وفي جانب السيئة بقوله: {وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} للإشارة إلى تمكن الحقد والحسد في قلوبهم بحيث إن أي حسنة ولو مست -ولم تغمر وتعم- تسؤهم؛ لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمن مهما ضؤل كالشأن في كل الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يفرحوا بالمصيبة التي تمس، فإنها لا تشفى غيظهم بل لا يفرحون إلا بالمصيبة التي تغمر وتعم وتستمر. وإن هذا كله يدل على أنهم يكيدون للمؤمنين ويبالغون في الكيد لهم، وإن دفع هذا الكيد يستدعي الصبر والتقوى، ولذا قال سبحانه: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}.
أي إن تصبروا،فتضبطوا أنفسكم ولا تناسقوا في محبة من لا يستحق المحبة، وتتحملوا مشاق التكليفات، وتقاوموا العداوة بمثلها،وتردوا اعتداءهم بمثله، وتتقوا الله تعالى، وتتقوا أذاهم، فلا تتخذوا منهم بطانة- إن فعلتم ذلك لا يضركم كيدهم وتدبيرهم السيئ شيئا من الضرر مطلقا، وإن لم تفعلوا ذلك فلم تأخذوا حذركم منهم، وسهلتم دخول الغفلة عليكم، ولم تضبطوا أنفسكم عن محبتهم، فإنهم يستمكنون منكم بكيدهم، ولا منجاة لكم من شرهم...
{إن الله بما يعملون محيط} ذيل الله سبحانه الآية بهذا النص، ليطمئن المؤمنين ويهدد الكافرين، فالمعنى: الله تعالى محيط بما يعملون إحاطة علم وإحاطة قدرة،وإحاطة العلم فيها بيان انه لا تخفى عليه خافية من كيدهم، وإحاطة القدرة مؤداها انه محبط كل ما يدبرون {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين54} [آل عمران].
هذه وصايا الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالنسبة لسياسة أمورهم مع مخالفيهم، يحترسون منهم، ولا يفرطون في الثقة بهم، فلا يتخذوا منهم بطانة وخاصة، وإلا كان الدمار والبوار والخبال، وهكذا نحن الآن، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ إن الله يذكر علامة أخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول (ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها).
ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين؟
هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط).
وعلى هذا يستفاد من ذيل هذه الآية أن أمن المسلمين، وسلامة حوزتهم من كيد الأعداء، يتوقف على استقامة المسلمين وحذرهم وتقواهم، ففي مثل هذه الحالة فقط يمكنهم أن يضمنوا أمنهم وسلامتهم من كيد الكائدين.
حذر الله سبحانه المسلمين في هذه الآية من أن يتخذوا أعداءهم بطانة يسرون إليهم بأسرارهم وأُمورهم وهو تحذير عام لا يختص بزمان دون زمان، ولا بمكان دون مكان، ولا بطائفة من المسلمين دون طائفة.
فلابدّ أن يحذر المسلمون من هذا العمل في جميع الأزمنة والأمكنة، حفاظاً على أمن المسلمين وكيانهم.
ولكننا مع الأسف نجد الكثيرين من أتباع القرآن قد غفلوا عن هذا التحذير الإلهي المهم، فتعرضوا لتبعات هذا العمل وآثاره السلبية.
فها نحن نجد أعداء كثيرين يحيطون بالمسلمين من كلّ جانب، يتظاهرون بمحبة المسلمين وصداقتهم، وربّما أعلنوا تأييدهم في بعض الأمور، ولكنهم بما يظهرون في بعض الأحيان من مواقف عدائية يكشفون عن كذبهم، ومع ذلك ينخدع المسلمون بما يتظاهر هؤلاء الأعداء به من صداقة وحب وتأييد، ويعتمدون عليهم أكثر ممّا يعتمدون على إخوانهم من المسلمين المشاركين لهم في العقيدة والمصير. في حين أن الأعداء والأجانب لا يريدون للأمة الإسلامية إلاَّ الشقاء والتأخر، وإلاَّ الهلاك والدمار، ولا يألون جهداً في إثارة المشاكل في وجه المسلمين وإيجاد الصعوبات في حياتهم.