الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

وقرأ العامة : { إِن تَمْسَسْكُمْ } بالتأنيث ، مراعاةً للفظ " حسنة " ، وقرأ أبو عبد الرحمن بالياء من تحت ، لأن تأنيثها مجازي ، وقياسُه أن يقرأ : " وإنْ يصبكم سيئة " بالتذكير أيضاً ، ولا أحفظ عنه فيها شيئاً .

قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } يُحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفةً ، أخبر تعالى بذلك ؛ لأنهم كانوا يُخْفُون غيظَهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن تكون جملة المقول أي : قل لهم كذا وكذا فتكون في محل نصب بالقول . ومعنى قوله " بذات " أي : بالمضمرات ذواتِ الصدور ، ف " ذات " هنا تأنيث " ذي " بمعنى صاحب ، فَحُذِف الموصوف وأقيمت صفتُه مُقامه أي : عليم بالمضمراتِ صاحبةِ الصدور ، وجُعِلَتْ صاحبةً للصدور لملازمتها لها وعدمِ انفكاكها عنها نحو : أصحاب الجنة ، أصحاب النار .

واختلفوا على الوقف على هذه اللفظة : هل يُوقف عليها بالتاء أو بالهاء ؟

فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : " الوقفُ عليها بالتاء إتباعاً لرسم المصحف " . وقال الكسائيّ والجرميّ : " يُوقَفُ عليها بالهاء لأنها تاء تأنيث ، كهي في " صاحبه " . وموافقةُ الرسم أَوْلى ، فإنه قد ثَبَتَ لنا الوقفُ على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا هنا بالتاء وافقنا تلك اللغة والرسم ، بخلاف عكسِه .

قوله : { لاَ يَضُرُّكُمْ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : " يَضِرْكم " بكسر الضاد وجَزْم الراء على جواب الشرط من ضاره يَضيره ، ويقال أيضاً : ضاره يَضوره ، ففي العين لغتان . ويقال : ضاره يضيرُه ضَيْراً فهو ضائر وهو مَضِير ، وضاره يَضُوره ضَوْراً فهو ضائرٌ وهو مَضُور ، نحو : قلتُه أقوله فأنا قائل وهو مقول .

وقرأ الباقون : " يَضُرُّكم " بضم الضاد وتشديد الراء مرفوعة . وفي هذه القراءة أوجه ، أحدها : أن الفعل مرتفع وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم ، إذ التقدير : لا يَضُرُّكم أنْ تصبروا وتتقوا فلا يَضُرُّكم " ، فَحُذِف " فلا يضركم " الذي هو الجواب لدلالةِ ما تقدم عليه ، ثم أُخِّر ما هو دليل على الجواب ، وهذا الذي ذكرته هو تخريج سيبويه وأتباعِه . وإنما احتاجوا إلى ارتكاب هذه الشطط لِما رأوا من عدم الجزم في فعلضارع لا مانعَ من إعمال الجازم فيه ، ومثلُ هذا قولُ الآخر :

يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ *** إنَّك إنْ يَصْرَعْ أخوك تُصْرعُ

برفع " تُصْرع " الأخير ، وكذلك قوله :

وإنْ أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ *** يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ

برفع " يقول " إلاَّ أنَّ هذا النوع مُطَّرِدٌ بخلافِ ما قبله ، أعني كون فعلَيْ الشرطِ والجزاءِ مضارعين فإنَّ المنقولَ عن سيبويه وأتباعِه وجوبُ الجزم إلا في ضرورة كقوله : " إنْ يُصْرعَ أخوك تُصْرعُ " ، وتخريجُه هذه الآية على ما ذكرته عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورة فاعلم ذلك :

الوجه الثاني : أنَّ الفعلَ ارتفعَ لوقوعه بعد فاء مقدرة هي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفع ليس إلا ، كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] والتقدير : فلا يَضُرُّكم ، والفاء حُذِفت في غير محل النزاع كقوله :

مَنْ يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها *** والشرُّ بالشر عند الله سِيَّانِ

أي : فالله يشكرها . وهذا الوجهُ رأيت بعضَهم ينقله عن المبرد ، وفيه نظر ، من حيث إنهم لمَّا أنشدوا البيتَ المذكور نقلوا عن المبرد أنه لا يجيز حَذْفَ هذه الفاء البتة لا ضرورةً ولا غيرَها ، وينقلون عنه أن كان يقول : " إنما الرواي في هذا البيت :منْ يفعلِ الخيرَ فالرحمنُ يَشْكُرُه ***

وَردُّوا عليه بأنه إذا صَحَّت روايةٌ فلا يَقْدَح فيها غيرُها . ورأيت بعضَهم ينقله عن الفراء والكسائي ، وهذا أقرب .

الوجه الثالث : أن الحركَة حركةُ إتباع ، وذلك أن الأصل : لا يَضْرِرْكم بالفك لسكونِ الثاني جزماً ، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخرِ فعلٍ سَكَن ثانيهما جزماً أو وفقاً فللعرب فيه مذهبان : الإِدغامُ وهو لغة تميم والفكُّ وهو لغة الحجاز ، لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطُررنا إلى تحريك المثلِ الثاني فَحَرَّكناه بأقرب الحركات إليه وهي الضمةُ التي على الحرفِ قبلَه ، فحرَّكناه بها وأدغمنا ما قبله فيه فهو مجزوم تقديراً ، وهذه الحركةُ في الحقيقة حركةُ إتباعٍ لا حركةُ إعراب بخلافها في الوجهين السابقين قبل هذا فإنها حركة إعراب .

واعلم أنه متى أُدْغِم هذا النوع : فإمَّا أن تكونَ فاؤه مضمومةً أو مفتوحة أو مكسورة ، فإن كانت مضمومة كالآية الكريمة وقولهم " مُدَّ " ففيه ثلاثة أوجه حالةَ الإِدغام : الضمُّ للإِتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين فتقول : مُدُّ ومُدَّ ومُدِّ ، ورُدُّ ورُدَّ ورُدِّ . ويُنشْدون على ذلك قولَ جرير :

فَغُضِّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ *** فلا كعباً بَلَغْتَ ولا كِلابا

بضم الضاد وفتحها وكسرها على ما ذكرته لك ، وسيأتي أنَّ الآية قرىء فيها بالأوجه الثلاثة . وإن كانت مفتوحة نحو : عَضَّ ، أو مكسورة نحو : فِرَّ ، كان في اللامِ وجهان : الفتح والكسرُ ، إذ لا وجهَ للضم ، لكن لك في نحو : " فِرَّ " أن تقول الكسرُ من وجهين : إمّا الإِتباعِ وإمَّا التقاءِ الساكنين ، وكذلك لك في الفتح نحو : " عَضَّ " وجهان أيضاً : إمَّا الإِتباعُ وإمَّا التخفيفُ ، هذا كلُّه إذا لم يتصلْ بالفعلِ ضميرُ غائبٍ ، فأمَّا إذا اتصل به ضمير غائب نحو : " رُدَّه " ففيه تفصيلٌ ولغاتٌ يكثُر القولُ فيها ولا يليقُ التعرُّضُ لذلك في هذا النوع .

وقرأ عاصم فيما رواه عنه المفضَّل بضم الضاد وتشديد الراء مفتوحة على ما ذكرت لك من التخفيف/ ، وهي عندهم أَوْجَهُ من ضم الراء .

وقرأ الضحاك بن مزاحم : " لا يَضُرِّكم " بضمِّ الضاد وتشديدِ الراء مكسورة على ما ذكرْتُه لك مِن التقاء الساكنين ، وكأنَّ ابن عطية لم يحفَظْها قراءةً فإنه قال : " وأمَّا الكسرُ فلا أعرفُها قراءةً " . وعبارةٌ الزجاجِ في ذلك مُتَجَوَّزٌ فيها إذ يظهر من دَرْج كلامِه أنها قراءة . قلت : قد بَيَّنْتُ أنها قراءة كما قال الزجاج ولله الحمد .

والكَيْدُ : المَكْرُ والاحتيالُ . وقال الراغب : " وهو نوع من الاحتيال ، وقد يكونُ ممدوحاً ، وقد يكون مذموماً ، وإن كان يستعمل في المذموم أكثرَ " . قال ابن قتيبة : " وأصلهُ من المشقةِ مِنْ قَوْلِهِم : " فلان يكيدُ بنفسِه " أي يَجُوز بها غمرات الموت ومشتقاته " . ويقال : كِدْتُ فلاناً أَكِيده كبِعْتُه أَبيعهُ . قال :

مَنْ يَكِدْني بسيِّءٍ كنتُ منه *** كالشَّجا بين حَلْقِه والوَرِيد

وقرأ أُبَيٌّ : " لا يَضْرِرْكم " بالفكِّ وهي لغة الحجاز ، وعليها قوله تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } .

وقوله : " شيئاً " منصوبٌ نصبَ المصادر أي : شيئاً من الضرر ، وقد تقدم نظيره ، وقرأ العامة : " بما يعملون محيطٌ " بالغَيْبة وهي واضحة . وقرأ الحسن بالخطاب : إمَّا على الالتفاتِ وإمَّا على إضمارِ " قل لهم يا محمد " .