مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

قوله تعالى { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط } .

واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين ، فبين تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء ( ماسا ) على سبيل التشبيه فيقال : فلان مسه التعب والنصب ، قال تعالى : { وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] وقال : { وإذا مسكم الضر في البحر } [ الإسراء : 67 ] قال صاحب «الكشاف » : المس ههنا بمعنى الإصابة ، قال تعالى : { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة } [ التوبة : 50 ] وقوله { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] وقال : { إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا } [ المعارج : 20 ، 21 ] .

المسألة الثانية : المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها ، فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والألفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها ، وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب ، والقتل والنهب والغارة ، فبين تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم .

المسألة الثالثة : يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء ، والأنثى سيئة أي : قبح ، ومنه قوله تعالى : { ساء ما يعملون } [ المائدة : 66 ] والسوأى ضد الحسنى .

ثم قال : { وإن تصبروا } يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم { وتتقوا } كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله { لا يضركم كيدهم شيئا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { لا يضركم } بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء ، وهو من ضاره يضيره ، ويضوره ضورا إذا ضره ، والباقون { لا يضركم } بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر ، وأصله يضرركم جزما ، فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة ، اتباعا لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد ، وقال بعضهم : هو على التقديم والتأخير تقديره : ولا يضركم كيدهم شيئا إن تصبروا وتتقوا ، قال صاحب «الكشاف » : وروى المفضل عن عاصم { لا يضركم } بفتح الراء .

المسألة الثانية : الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه ، وابن عباس فسر الكيد ههنا بالعداوة .

المسألة الثالثة : { شيئا } نصب على المصدر أي شيئا من الضر .

المسألة الرابعة : معنى الآية : أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين .

وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فمن وفي بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات ، وإليه الإشارة بقوله { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 2 ، 3 ] إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره ، وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل .

ثم قال تعالى : { إن الله بما يعملون محيط } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه ، ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة ، فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله .

المسألة الثانية : إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز ، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، وذلك من صفات الأجسام ، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء قادرا على كل الممكنات ، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ، ومنه قوله { والله من ورائهم محيط } [ البروج : 20 ] وقال : { والله محيط بالكافرين } [ البقرة : 19 ] وقال : { ولا يحيطون به علما } [ طه : 110 ] وقال : { وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا } [ الجن : 28 ] .

المسألة الثالثة : إنما قال : { إن الله بما يعملون محيط } ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه ، أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالما ، بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها ، فلا جرم قد ذكر العمل ، والله أعلم .