قرأ العامة { تَسُؤْهُمْ } ، بالتأنيث ؛ مراعاةً للفظ " حَسَنَةٌ " .
وقرأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالياء من تحت{[5846]} ؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ ، وقياسه أن يقرأ " وَإن يصبكم سَيئةٌ " بالتذكير - أيضاً - لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء .
والمس : أصله باليد ، ثم يُسَمَّى كل ما يصل إلى الشيء ماسًّا ، على سبيل التشبيه ، يقال : فلان مسَّه العصب والنصب ، قال تعالى : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] .
وقال الزمخشري : المسّ مستعار هاهنا بمعنى : الإصابة ، قال تعالى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ } [ التوبة : 50 ] .
وقال : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] .
والمراد بالحسنة - هنا : منفعة الدنيا ، من صحة البدن ، وحصول الخِصْب والغنيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، وحصول الألْفَة والمحبة بين المؤمنين .
والمراد بالسيِّئَة : أضدادها ، والسيئة : من ساء الشيء يَسيءُ - فهو سيِّءٌ ، والأنْثَى سيئة - أي : قبح ، ومنه قوله تعالى : { سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 66 ] ، و السوء ضد الحسن ، وهذه الآية من تمام وَصْف المنافقين .
قال ابو العباس : وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه :
الأول : بمعنى : النصر والظفَر ، قال تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] أي : نَصْر وَظفَر .
الثاني : بمعنى : التوحيد ، قال تعالى : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ } [ الأنعام : 160 ] أي : بالتوحيد .
الثالث : الرَّخَاء : قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ } [ النساء : 78 ] أي : رخاء .
الرابع : بمعنى : العاقبة ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } [ الرعد : 6 ] أي بالعذاب قبل العاقبةِ .
الخامس : القول بالمعروف ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } [ الرعد : 22 ] أي : بالقول المعروف .
والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى : الهزيمة - كما تقدم - كقوله : { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } [ آل عمران : 120 ] أي : هزيمة .
الثاني : الشرك ، قال تعالى : { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ } [ الأنعام : 160 ] أي : بالشرك .
الثالث : القحط ، قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] أي : قحط ، ومثله قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .
الرابع : العذاب ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ } [ الرعد : 6 ] .
الخامس : القول الرديء ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } [ الرعد : 22 ] .
قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ } أي : على طاعة الله ، وعلى ما ينالكم فيها من شدة ، وغَمٍّ ، { وَتَتَّقُواْ } كلَّ ما نهاكم عنه ، { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } .
قرأ نافع وابنُ كثير وأبو عمرو : " يَضِرْكُمْ " بكسر الضاد ، وجزم الراء{[5847]} في جواب الشرط ، من ضاره يضيره ويقال - أيضاً - : ضاره يضوره ، ففي العين لغتان ، ويقال ضاره يضيره ضَيْراً ، فهو ضائر ، وهو مضير ، نحو : قلته أقوله ، فأنا قائل ، وهو مقول .
وقرأ الباقون : { يَضُرُّكُمْ } بضم الضاد ، وتشديد الراء مرفوعة ، وفي هذه القراءة أوجه :
الأول : أن الفعل مرتفع ، وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم ؛ إذ التقدير : لا يضركم إن تصبروا وتتقوا ، فلا يضركم ، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب ، لدلالة ما تقدم عليه ، ثم أخر ما هو دليل على الجواب ، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه ، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك ، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم ، ومثله قول الراجز :
يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ *** إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ{[5848]}
وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ *** يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ{[5849]}
برفع " يقول " - إلاَّ أن هذا النوع مطّرد ، بخلاف ما قبله - أعني : كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه ، وأتباعه وجوب الجزم ، إلا في ضرورة .
. . . *** إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ{[5850]}
وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورة .
الوجه الثاني : أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة ، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلاَّ كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] .
والتقدير : فلا يضركم ، والفاء حذفت في غير محل النزاع .
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا *** وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ{[5851]}
أي : فالله يشكرها ، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد ، وفيه نظر ؛ من حيث إنهم ، لما أنشدوا البيت المذكور ، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة ، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول : إنما الرواية في هذا البيت : [ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ *** . . .
وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ ، فلا يقدح فيها غيرُها ، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي ، وهذا أقرب .
الوجه الثالث : أن الحركة حركة إتباع ؛ وذلك أن الأصل : " لاَ يَضْرُرْكُمْ " . بالفك وسكون الثاني جَزْماً ، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً ، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان :
لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني ، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه ، وهي الضمة التي على الحرف قبله ، فحرَّكناه بها ، وأدْغمنا ما قبله فيه ، فهو مجزوم تقديراً ، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع ، لا حركة إعراب ، بخلافها في الوجهين السابقين ، فإنها حركة إعراب .
واعلم أنه متى أدغم هذا النوع ، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً ، أو مفتوحةً ، أو مكسورةً ، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة .
وقولهم : مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام :
الضم للإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين ، فتقول : مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ .
وينشدون على ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ *** فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا{[5852]}
بضم الضاد ، وفتحها ، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ .
وإن كانت فاؤه مفتوحةً ، نحو عَضَّ ، أو مكسورة ، نحو فِرَّ ، كان في اللام وجهان : الفتح ، والكسر ؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول : الكسر من وجهين : إما الإتباع ، وإما التقاء الساكنين ، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً - : إما الإتباع ، وإمَّا التخفيف .
هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب ، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها .
وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل - : بضم الضاد ، وتشديد الراء مفتوحة {[5853]}- على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء .
وقرأ الضحاك بن مزاحم : " لا يَضُرِّكُمْ " بضم الضاد ، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين{[5854]} .
وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً ؛ فإنه قال : فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً .
وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها ؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة .
وقرأ أبيّ : " لا يَضْرُرْكُمْ " بالفكّ{[5855]} ، وهي لغة الحجاز .
وقال الراغب : هو نوع من الاحتيال ، وقد يكون ممدوحاً ، وقد يكون مذموماً ، وإن كان استعماله في المذموم أكثر .
قال ابْنُ قُتَيْبَةَ : وأصله من المشقة ، من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي : يجود بها في غمرات الموت ، ومشقاته .
ويقال : كِدْتُ فلاناً ، أكيده - كبعته أبيعُه .
مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّىءٍ كُنْتُ مِنْهُ *** كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ{[5856]}
و " شَيْئاً " منصوب نصب المصادر ، أي : شيئاً من الضرر ، وقد تقدم نظيره .
ومعنى الآية : أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى ، واتقى عما نهى الله عنه ، كان في حِفْظ الله ، فلا يضره كيد الكائدين ، ولا حِيَلُ المحتالين .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قراءة العامة { يَعْمَلُونَ } - بالغيبة ، وهي واضحة .
وقرأ الحسن بالخطاب{[5857]} ، إما على الالتفات ، والتقدير : إنه عالم ، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى ، فيفعل بكم ما أنتم أهله ، وإما على إضمار : قُل لهم يا محمد .
وإنما قال : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ولم يقل : إنَّ اللهَ محيط بما يعملونَ ؛ لأنهم يُقدِّمون الأهم ، والذي هُمْ بشأنه أعْنَى ، وليس المقصود - هنا - بيان كونه تعالى عالماً ، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ، ومجازيهم عليها ، فلا جرم قدّم ذكر العمل .