الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال . ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى . ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته ، وفي دلالته ، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا . العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري :
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين ، فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) . . والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان ، كما ورد في سورة البقرة : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) . . أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يتحنث في غار حراء .
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .
واسمها : ( ليلة القدر ) . . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد .
وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .
تفسير سورة القدر{[1]}
يخبر الله تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر ، وهي الليلة المباركة التي قال الله ، عز وجل : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وهي ليلة القدر ، وهي من شهر رمضان ، كما قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] .
قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتّىَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ } .
يقول تعالى ذكره : إنا أنزلنا هذا القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْر ، وهي ليلة الحُكْم التي يقضي الله فيها قضاء السنة ، وهو مصدر من قولهم : قَدَر الله عليّ هذا الأمْرَ ، فهو يَقْدُر قَدْرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا ، فكان الله إذا أراد أن يُحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه .
حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، وكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه ، فهو قوله : { إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ } .
قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عِكرِمة ، عن ابن عباس ، فذكر نحوه ، وزاد فيه ، وكان بين أوّله وآخره عشرون سنة .
قال : ثنا عمرو بن عاصم الكلابيّ ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان التيميّ ، قال : حدثنا عمران أبو العوّام ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، أنه قال في قول الله : { إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَة الْقَدْرِ } قال : نزل أوّلُ القرآن في ليلة القدر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حُصَين ، عن حكيم بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم فُرّق في السنين ، وتلا ابن عباس هذه الاَية : { فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النّجُومِ } قال : نزل متفرّقا . حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، في قوله : { إنّا أنْزلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم ، عن سعيد بن جُبير : أنزل القرآن جملة واحدة ، ثم أنزل ربنا في ليلة القدر : { فِيها يُفْرَقُ كُلّ أمْرٍ حَكِيم } .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله { إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال : أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر ، إلى السماء الدنيا ، فكان بموقع النجوم ، فكان الله ينزله على رسوله ، بعضُه في إثر بعض ، ثم قرأ : { وَقَالُوا لَوْلا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْناهُ تَرْتِيلاً } وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ليلة القدر : ليلة الحكم .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قال : ليلة الحُكْم .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن محمد بن سْوقَة ، عن سعيد بن جُبير : يؤذن للحجاج في ليلة القدر ، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ، فلا يغادر منهم أحد ، ولا يُزاد فيهم ، ولا ينقص منهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : قال رجل للحسن وأنا أسمع : رأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي ؟ قال : نعم ، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كلّ رمضان ، وإنها لليلة القدر ، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم ، فيها يقضي الله كلّ أجل وعمل ورزق ، إلى مثلها .
حدثنا أبو كُرَيب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عمر قال : ليلة القدر في كلّ رمضان .
اختلف الناس في موضع نزول هذه السورة ، فقال ابن عباس وغيره : هي مدنية ، وقال قتادة : هي مكية{[1]} .
الضمير في { أنزلناه } للقرآن ، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة المعنى عليه ، فقال ابن عباس وغيره : أنزله الله تعالى { ليلة القدر } إلى السماء الدنيا جملة ، ثم نجمه{[11917]} على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة ، وقال الشعبي وغيره : { إنا } ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك { في ليلة القدر } ، وقد روي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان ، فيستقيم هذا التأويل ، وقد روي أنه قد نزل في الرابع عشر من رمضان ، فلا يستقيم هذا التأويل إلا على قول من يقول : إن ليلة القدر تستدير الشهر كله ، ولا تختص بالعشر الأواخر ، وهو قول ضعيف ، حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرده في قوله : «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان » . وقال جماعة من المتأولين معنى قوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفي فضلها ، وإذا كانت السورة من القرآن جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً ، فقوله تعالى : { في ليلة } هو قول عمر بن الخطاب : لقد خشيت أن ينزل في قرآن ليلة نزول سورة الفتح ، ونحو قول عائشة في حديث الإفك : لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن ، و { ليلة القدر } : هي ليلة خصها الله تعالى بفضل عظيم وجعلها أفضل { من ألف شهر } ، لا ليلة قدر فيها ، وقاله مجاهد وغيره ، وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة لما رأى محمد عليه السلام أعمال أمته فتقاصرها{[11918]} .