غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة القدر مكية ، حروفها مائة وعشرون ، كلمها ثلاثون ، آياتها خمس ) .

1

التفسير :

الضمير في { إنا أنزلناه } للقرآن ، إما لأن القرآن كله في حكم سورة واحدة ، وإما لشهرته ، ومن نباهة شأنه ، كأنه مستغن عن التصريح بذكره ، وقد عظم القرآن في الآية من وجوه أخر هي : إسناد إنزاله إلى نفسه دون غيره كجبرائيل مثلاً ، وصيغة الجمع الدالة على عظم رتبة المنزل ، إذ هو واحد في نفسه نقلاً وعقلاً ، والرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه ، وهو ليلة القدر . وهاهنا مسائل الأولى : كيف حكم بأنه أنزل في هذه الليلة مع أنه أنزل نجوماً في نيف وعشرين سنة ؟ والجواب كما مر في البقرة في قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة :185 ] أي أنزل فيها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ، ثم منها إلى الأرض نجوماً ، ووجه حسن المجاز أنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا فقد شارف النزول إلى الأرض ، فيكون من فوائد التشويق كما قيل :

وأبرح ما يكون الشوق يوماً *** إذا دنت الخيام من الخيام

وقال الشعبي : ابتدئ بإنزاله في هذه الليلة ؛ لأن المبعث كان في رمضان . وقيل : أراد إنا أنزلنا القرآن ي- عني هذه السورة - في فضل ليلة القدر ، والقدر بمعنى التقدير . قال عطاء عن ابن عباس : إن الله تعالى قدر كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية ، نظيره قوله :

{ فيما يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان :4 ] في أحد الوجوه ، والمراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة ، فإن المقادير من الأزل إلى الأبد ثابتة في اللوح المحفوظ ، وهذا قول أكثر العلماء . ونقل عن الزهري أنه قال : ليلة القدر يعني ليلة الشرف والعظمة ، من قولهم " لفلان قدر عند فلان " أي منزلة وخطر ، ويؤيد هذا التأويل قوله { ليلة القدر خير من ألف شهر } ثم هذا الشرف ما إن يرجع إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعة صار ذا قدر وشرف . وإما أن يرجع إلى الفعل ؛ لأن الطاعة فيها أكثر ثواباً وقبولاً . وعن أبي بكر الوراق : من شرفها أنه أنزل فيها كتاب ذو قدر ، على لسان ملك ذي قدر ، إلى أمة ذوي قدر . ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب . وقيل : القدر الضيق ، وذلك أن الأرض في هذه الليلة تضيق عن الملائكة .

الثانية : هذه الليلة هل تضاف إلى يومها الذي بعدها ؟ قال الشعبي : نعم يومها كليلتها لقوله :{ ثلاث ليال سوياً } [ مريم :10 ] وفي موضع ، { ثلاثة أيام } [ آل عمران :41 ] ولهذا لو نذر أن يعتكف ليلتين ألزمناه يومهما .

الثالثة : قال الخليل : من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول : انقطعت ، وكان مرة والجمهور على أنها باقية . ثم إنه روي عن ابن مسعود أنها في جميع السنة ، فمن حافظ على الليالي كلها أدركها . وعن عكرمة أنها ليلة البراءة . والأكثرون على أنها في رمضان لقوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }

[ البقرة :185 ] وقوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فيجب من الآيتين أن تكون ليلة القدر في رمضان . ثم في تعيينها خلاف ، فقال ابن رزين : هي الليلة الأولى من رمضان ، لما روي عن وهب أن كتب الأنبياء كلهم إنما نزلت في رمضان ، وكانت الليلة الأولى منه في غاية الشرف . وعن الحسن البصري : السابعة عشرة ؛ لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها . وعن أنس مرفوعاً : التاسعة عشرة . وقال محمد بن إسحاق : هي الحادية والعشرون ، لما روي حديث الماء والطين . ومعظم الأقوال أنها السابعة والعشرون . وذكروا فيها أمارات ضعيفة منها أن السورة ثلاثون كلمة ، وقوله { هي } السابعة والعشرون منها ، روي هذا عن ابن عباس . وعنه أيضاً أنّ ليلة القدر تسعة أحرف ، وهي مذكورة ثلاث مرات ، وروي أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال : يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه في ليلة من الشهر ، فقال : إذا كان تلك الليلة فأعلمني ، فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان . قلت : ومن الأمارات التي يحتمل اعتبارها أن الضعيف مؤلف الكتاب وصل إلى تفسير هذه السورة في السابعة والعشرين من رمضان سنة تسع وعشرين وسبعمائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولعل لله سبحانه فيه سراً ما لا يطلع عليه إلا هو وحده ، وأنا أرجو من فضله العميم أن يجعل ذلك سبباً لبركات الدارين لي ولمن نظر في هذا الكتاب من إخواني في الدين ، وما الاعتصام إلا بحوله . وقيل : هي الليلة الأخيرة ؛ لأن الطاعات في الشهر تتم وقتئذ ؛ بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في الحديث " يعتق في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر " ، وأول الليالي ليلة شكر ، وآخرها ليلة فراق وصبر ، وكم بين الشكر والصبر ، فإن الصبر أمر من الشكر .

الرابعة : الحكمة في إخفاء ليلة القدر في الليالي كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة ، ويوم القيامة ، حتى يرغب المكلف في الطاعات ، ويزيد في الاجتهاد ، ولا يتغافل ، ولا يتكاسل ، ولا يتكل . يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى نائماً فقال : يا علي نبهه ليتوضأ ، فأيقظه علي ، ثم قال : يا رسول الله إنك سابق إلى الخيرات ، فلم نبهته بنفسك ؟ فقال : لأن رده علي كفر ، ورده عليك ليس بكفر ، ففعلت ذلك لتخف جنايته لو رد . فإذا كان هذا رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم فقس عليه رحمة الله تعالى عليه ، وكأنه سبحانه يقول : إذا عرفت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر ، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر ، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب ، فالإشفاق أن لا يعرفها المكلف بعينها ، لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئاً متعمداً . وأيضاً إذا اجتهد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة باهى الله تعالى ملائكته ، ويقول : كنتم تقولون فيهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فهذا جدهم في الأمر المظنون ، فكيف لو جعلتها معلومة لهم ، فهنالك يظهر سر قوله : { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة :30 ] .

/خ5