البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القدر

هذه السورة مدنية في قول الأكثر . وحكى الماوردي عكسه . وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة . وفي الحديث : «أن أربعة عبدوا الله تعالى ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين : أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع » ، فعجب الصحابة من ذلك ، فقرأ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } السورة ، فسروا بذلك .

ومناسبتها لما قبلها ظاهر . لما قال :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ } فكأنه قال : اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى ، وهو ضمير القرآن .

قال ابن عباس وغيره : أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة .

وقال الشعبي وغيره : إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر .

وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان .

وقيل المعنى : إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها .

ولما كانت السورة من القرآن ، جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً ، فليست ليلة القدر ظرفاً للنزول ، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه : لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن .

وقول عائشة : لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن .

وقال الزمخشري : عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصاً به ، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه ، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه .

انتهى ، وفيه بعض تلخيص .

وسميت ليلة القدر ، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله ، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما .

وقال الزهري : معناه ليلة القدر العظيم والشرف ، وعظم الشأن من قولك : رجل له قدر .

وقال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل ، وترده عظيماً عند الله تعالى .

وقيل : سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر وخطر .

وقيل : لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، لأمة ذات قدر .

وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر .

وقيل : لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين .

وقال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ، كقوله : { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق .

وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافاً متعارضاً جداً ، وبعضهم قال : رفعت ، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع ، وأن العشر الأخير تكون فيه ، وأنها في أوتاره ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة » وفي الصحيح : « من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » .