33- ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله قتلها إلا قتلا يكون للحق ، بأن تكون النفس مستحقة للقتل قصاصاً أو عقوبة ، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لأقرب قرابته سلطاناً على القاتل بطلب القصاص من القاضي ، فلا يجاوز الحد في القتل ، بأن يقتل غير القاتل ، أو يقتل اثنين بواحد ، فإن الله نصره وأوجب له القصاص والدية ، فلا يصح أن يتجاوز الحد .
قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، وحقها ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إيمانه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً بغير نفس فيقتل بها " . { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } ، أي : قوةً وولاية على القاتل بالقتل ، قال مجاهد . وقال الضحاك : سلطانه هو أنه بتخير ، فإن شاء استقاد منه ، وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء عفا . { فلا يسرف في القتل } ، قرأ حمزة و الكسائي : ولا تسرفوا بالتاء يخاطب ولي القتيل ، وقرأ الآخرون : بالياء على الغائب أي : لا يسرف الولي في القتل . واختلفوا في هذا الإسراف الذي منع منه ، فقال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : معناه لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه . قال سعيد بن جبير : إذا كان القاتل واحداً فلا يقتل جماعة بدل واحد ، وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفاً لا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه . وقال قتادة : معناه لا يمثل بالقاتل . { إنه كان منصوراً } ، فالهاء راجعة إلى المقتول في قوله : { ومن قتل مظلوماً } يعني : إن المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله ، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله ، هذا قول مجاهد . وقال قتادة : الهاء راجعة إلى ولي المقتول ، معناه : إنه منصور على القاتل باستيفاء منه أو الدية . وقيل في قوله : { فلا يسرف في القتل } إنه أراد به القاتل المعتدي ، يقول : لا يتعدى بالقتل بغير الحق ، فإنه إن فعل ذلك فولي المقتول منصور من قبلي عليه باستيفاء القصاص منه .
ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق :
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصورا ) . .
والإسلام دين الحياة ودين السلام ، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله ، فالله واهب الحياة ، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها . وكل نفس هي حرم لا يمس ، وحرام إلا بالحق ، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه ، وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى . وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله [ ص ] قال : " لا يحل دم امرى ء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس ( ولكم في القصاص حياة ) . حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء . وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل ، بل يمضوا في الثأر ، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء . وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص ، فينطلق آمنا يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة .
وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة ، وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه .
وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة ، ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها ، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة . والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه ، ودخل في جسم الجماعة المسلمة ، واطلع على أسرارها ، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها . ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام . بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين . وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة .
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصورا ) . .
تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل ، فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب ، فقد جعل الله لوليه - وهو أقرب عاصب إليه - سلطانا على القاتل ، إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية ، وإن شاء عفا عنه بلا دية . فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل ، لأن دمه له .
وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي منحه إياه . والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم - كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل - ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل ، والولي مسلط على دمه بلا مثلة . فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها .
( فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) يقضي له الله ، ويؤيده الشرع ، وينصره الحاكم . فليكن عادلا في قصاصه ، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه .
وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي . الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا في حمى الغضب والانفعال على غير هدى . فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل ، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادى ء .
والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص . لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه ، ويأجر عليه . ولكن بعد أن يعطي الحق . فلولي الدم أن يقتص أو يصفح . وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح !
القول في تأويل قوله تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً } .
يقول جل ثناؤه : وقضى أيضا أن لا تَقْتُلُوا أيها الناس النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ قتلها إلاّ بالحَقّ وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قود نفس ، وإن كانت كافرة لم يتقدّم كفرها إسلام ، فأن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَلا تقْتُلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وإنا والله ما نعلم بحلّ دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث ، إلا رجلاً قتل متعمدا ، فعليه القَوَد ، أو زَنى بعد إحصانه فعليه الرجم أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهريّ ، عن عُروة أو غيره ، قال : قيل لأبي بكر : أتقتل من يرى أن لا يؤدي الزكاة ، قال : لو منعوني شيئا مما أقروا به لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم . فقيل لأبي بكر : أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتى يَقُولُوا : لا إلَه إلاّ اللّهُ ، فإذَا قالُوها عَصَمُوا مِنّي دِماءهُمْ وأمْوالُهم إلاّ بِحَقّها ، وحِسابُهُمْ عَلى اللّهِ » فقال أبو بكر : هذا من حقها .
حدثني موسى بن سهل ، قال : حدثنا عمرو بن هاشم ، قال : حدثنا سليمان بن حيان ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِل النّاسِ حتى يقُولُوا لا إلَه إلاّ اللّهُ ، فإذَا قالُوها عَصمُوا مِنّى دِماءهُمْ وأمْوالهُمْ إلاّ بِحَقّها وحِسابُهمْ عَلى اللّهِ » قيل : وما حقها ؟ قال : «زِنا بَعْد إحْصانٍ ، وكُفْرٌ بَعْد إيمَانٍ ، وقَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِها » .
وقوله : ومَنْ قُتِل مَظْلُوما يقول : ومن قتل بغير المعاني التي ذكرنا أنه إذا قتل بها كان قتلاً بحقّ فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا يقول : فقد جعلنا لوليّ المقتول ظلما سلطانا على قاتل وليه ، فإن شاء استقاد منه فقتله بوليه ، وإن شاء عفا عنه ، وإن شاء أخذ الدية .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى السلطان الذي جُعل لوليّ المقتول ، فقال بعضهم في ذلك ، نحو الذي قُلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ولا تَقْتَلُوا النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَمَنْ قُتِل مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لوليّه سُلْطانا قال : بيّنة من الله عزّ وجلّ أنزلها يطلبها وليّ المقتول ، العَقْل ، أو القَوَد ، وذلك السلطان .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن جُويبر ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا قال : إن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية .
وقال آخرون : بل ذلك السلطان : هو القتل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ قُتِل مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا وهو القَوَد الذي جعله الله تعالى .
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول ذلك : أن السلطان الذي ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما قاله ابن عباس ، من أن لوليّ القتيل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء العفو ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة : «ألا وَمن قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُو بِخَيْرِ النّظَريْنِ بينِ أنْ يَقْتُل أوْ يأْخُذ الدّيَة » وقد بيّنت الحكم في ذلك في كتابنا : كتاب الجراح .
وقوله : فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفة : «فلا تُسْرِفْ » بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد به هو والأئمة من بعده ، يقول : فلا تقتل بالمقتول ظُلْما غير قاتله ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلاً عمد وليّ القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل ، فقتله بوليه ، وترك القاتل ، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عباده ، وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام : قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف ، فلا تقتل به غير قاتله ، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثّل به . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة : فَلا يُسْرِفْ بالياء ، بمعنى فلا يسرف وليّ المقتول ، فيقتل غير قاتل وليه . وقد قيل : عنى به : فلا يسرف القاتل الأول لأولي المقتول .
القول في ذلك عندي ، أن يقال : إنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهى في أحكام الدين ، قضاء منه بذلك على جميع عباده ، وكذلك أمره ونهيه بعضهم ، أمر منه ونهى جميعهم ، إلا فيما دلّ فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض ، فإذا كان ذلك كذلك بما قد بيّنا في كتابنا ( كتاب البيان ، عن أصول الأحكام ) فمعلوم أن خطابه تعالى بقوله فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان موجّها إليه أنه معنّى به جميع عباده ، فكذلك نهيه وليّ المقتول أو القاتل عن الإسراف في القتل ، والتعدّي فيه نهى لجميعهم ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة في ذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك نحو اختلاف القرّاء في قراءتهم إياه . ذكر من تأوّل ذلك بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن طلق بن حبيب ، في قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا تقتل غير قاتله ، ولا تمثّل به .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير . عن منصور ، عن طلق بن حبيب ، بنحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا تقتل اثنين بواحد .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ إنّهُ كان مَنْصُورا كان هذا بمكة ، ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم بها ، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل ، كان المشركون يغتالون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تبارك وتعالى : من قتلكم من المشركين ، فلا يحملنّكم قتله إياكم عن أن تقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا من عشيرته ، وإن كانوا مشركين ، فلا تقتلوا إلا قاتلكم وهذا قبل أن تنزل براءة ، وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين ، فذلك قوله : فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ يقول : لا تقتل غير قاتلك ، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين ، لا يحلّ لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم . ذكر من قال : عُنِي وليّ المقتول :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أبو رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا قال : كان الرجل يُقتل فيقول وليه : لا أرضى حتى أقتل به فلانا وفلانا من أشراف قبيلته .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا تقتل غير قاتلك ، ولا تمثّل به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ قال : لا يقتل غير قاتله من قَتَل بحديدة قُتل بحديدة ومن قَتَل بخشبة قُتِل بخشبة ومن قَتل بحجر قُتل بحجر . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إنّ منْ أعْتَى النّاسِ على اللّهِ جَلّ ثَناؤُهُ ثَلاَثَةً : رَجُلٌ قَتَلَ غيرَ قاتِلِهِ ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ فِي الجاهِلِيّةِ ، أوْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللّهِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته ، يعني ابن زيد ، يقول في قول الله جلّ ثناؤه وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيّهِ سُلْطانا قال : إن العرب كانت إذا قُتل منهم قتيل ، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم ، حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله ، فقال الله جلّ ثناؤه فَقَدْ جَعَلَنا لِوَلِيّهِ سُلْطانا ينصره وينتصف من حقه فلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ يقتل بريئا . ذكر من قال عُنِي به القاتل :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ قال : لا يسرف القاتل في القتل .
وقد ذكرنا الصواب من القراءة في ذلك عندنا ، وإذا كان كلا وجهي القراءة عندنا صوابا ، فكذلك جميع أوجه تأويله التي ذكرناها غير خارج وجه منها من الصواب ، لاحتمال الكلام ذلك وإن في نهي الله جلّ ثناؤه بعض خلقه عن الإسراف في القتل ، نهى منه جميعَهم عنه .
وأما قوله : إنّهُ كانَ مَنْصُورا فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُنِي بالهاء التي في قوله إنّهُ وعلى ما هي عائدة ، فقال بعضهم : هي عائدة على وليّ المقتول ، وهو المعنيّ بها ، وهو المنصور على القاتل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إنّهُ كانَ مَنْصُورا قال : هو دفع الإمام إليه ، يعني إلى الوليّ ، فإن شاء قتل ، وإن شاء عفا .
وقال آخرون : بل عُنِي بها المقتول ، فعلى هذا القول هي عائدة على «مَن » في قوله : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد إنّهُ كانَ مَنْصُورا إن المقتول كان منصورا .
وقال آخرون : عُنِي بها دم المقتول ، وقالوا : معنى الكلام : إن دم القتيل كان منصورا على القاتل .
وأشبه ذلك بالصواب عندي . قول من قال عُنِي بها الوليّ ، وعليه عادت ، لأنه هو المظلوم ، ووليه المقتول ، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول ، وهو المنصور أيضا ، لأن الله جلّ ثناؤه قضى في كتابه المنزل ، أن سلّطه على قاتل وليه ، وحكّمه فيه ، بأن جعل إليه قتله إن شاء ، واستبقاءه على الدية إن أحبّ ، والعفو عنه إن رأى ، وكفى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه ، فلذلك قلنا : هو المعنيّ بالهاء التي في قوله : إنّهُ كانَ مَنْصُورا .
{ ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق } إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان : وزنا بعد إحصان ، وقتل مؤمن معصوم عمدا . { ومن قُتل مظلوما } غير مستوجب للقتل . { فقد جعلنا لوليّه } للذي يلي أمره بعد وفاته وهو الوارث . { سلطانا } تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه ، أو بالقصاص على القاتل فإن قوله تعالى { مظلوما } بدل على أن القتل عمدا عدوان فإن الخطأ لا يسمى ظلما . { فلا يُسرف } أي القاتل . { في القتل } بأن يقتل من لا يستحق قتله ، فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة ، أو قتل غير القاتل ويؤيد الأول قراءة أبي " فلا تسرفوا " . وقرأ حمزة والكسائي " فلا تسرف " على خطاب أحدهما . { إنه كان منصورا } علة النهي على الاستئناف والضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب ، وإما لوليه فإن الله تعالى نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة بمعونته ، وإما للذي يقتله الولي إسرافا بإيجاب القصاص أو التعزيز والوزر على المسرف .
وقوله { ولا تقتلوا } وما قبله من الأفعال جزم بالنهي ، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله { وقضى ربك ألا تعبدوا } [ الإسراء : 23 ] والأول أصوب وأبرع للمعنى ، والألف واللام التي في { النفس } هي للجنس ، و { الحق } الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله : «لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى »{[7547]} .
قال القاضي أبو محمد : وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها ، فمنها قطع الطريق ، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة ، ومن ذلك الزندقة ، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان ، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة ، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية ، وقوله تعالى : { مظلوماً } نصب على الحال ، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة ، و «الولي » القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ، ولهن ذلك عند أخرى ، و «السلطان » الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو ، قال ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : «السلطان » القود ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف » بالياء ، وهي قراءة الجمهور ، أي الولي لا يتعدى أمر الله ، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل ، أو يقتل اثنين بواحد ، وغير وذلك من وجوه التعدي ، وهذا كله كانت العرب تفعله ، فلذلك وقع التحذير منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة : رجل قتل غير قاتل وليه ، أو قتل بدخن الجاهلية ، أو قتل في حرم الله »{[7548]} ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فلا يسرف } القاتل الذي يتضمنه الكلام ، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل » بالتاء من فوق ، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة ، قال الطبري : على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده ، أي فلا تقتلوا غير القاتل .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم ، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية{[7549]} ، «فلا يسرفُ » بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي ، والمراد هذا التأويل فقط .
قال القاضي أبو محمد : وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبي بن كعب : «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً{[7550]} ، والضمير في قوله { إنه } عائد على الولي ، وقيل على المقتول ، وهو عندي أرجح الأقوال ، لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام : » ونصر المظلوم وإبرار القسم{[7551]} « ، وكقوله » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً{[7552]} « ، إلى كثير من الأمثلة : وقيل على القتل ، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد المقصد ، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية .
معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية . ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة . وهذه هي الوصية التاسعة .
والنفس هنا الذات كقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] وقوله : { أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] وقوله : { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] . وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة .
والقتل : الإماتة بفعل فاعل ، أي إزالة الحياة عن الذات .
وقوله : { حرم الله } حُذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير . والتقدير : حرمها الله . وعلق التحريم بعين النفس ، والمقصود تحريم قتلها .
ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهوراً من قبلِ هذا النهي ، إما لأنه تقرر من قبلُ بآيات أخرى نَزلت قبل هذه الآية وقبلَ آية الأنعام حكماً مفرقاً وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام ، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضاً بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه ، تنويهاً بهذا الحكم . وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمرُ به الأرض ، كما قال تعالى : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } [ هود : 61 ] ، فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه ، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام ، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله ، أي عُرفت بمضمون هذه الصلة .
واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق ، أي الذي يشهد الحق أن نفساً معينة استحقت الإعدام من المجتمع ، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القَود على وجه الإجمال .
ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعاراً بأن سيَكون في الأمة قضاء وحُكم فيما يستقبل أبقي مجملاً حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد ، مثل آية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إلى قوله : { وأعد له عذاباً عظيماً } [ النساء : 92 93 ] .
فالباء في قوله : { بالحق } للمصاحبة ، وهي متعلّقة بمعنى الاستثناء ، أي إلا قتلاً ملابساً للحق .
والحق بمعنى العدل ، أو بمعنى الاستحقاق ، أي حَق القتل ، كما في الحديث : » " فإذا قالوها ( أي لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " .
ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعيين الحق المبيح لقتل النفس موكولاً إلى من لهم تعيين الحقوق .
ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل ، وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا : { ومن قتل مظلوماً } الآية .
وحين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ولم يكن المشركون أهلاً للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة ، وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلماً أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلِم ، فقال : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا } أي قد جَعل لولي المقتول تصرفاً في القاتل بالقود أو الدية .
والسلطان : مصدر من السلطة كالغُفران ، والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود .
وكونه حقاً لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أوْ يأخذ الدية ألهمهم الله إليه لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجْن يداه قتلاً . وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد ، فقد كان ذلك من عوائدهم أيضاً .
فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهلَ الجاهلية من عادة القود .
والقود من جملة المستثنى بقوله : { إلا بالحق } ، لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق . وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية ، فأمر الله المسلمين بقبول القود . وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي ، وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره ، وتلك عادة جاهلية . قال الشميذر الحارثي :
فلسنا كمن كنتم تصيبون سَلّة *** فنقبَلَ ضيماً أو نحكم قاضيــــا
ولكن حكم السيف فينا مسلط *** فنرضَى إذا ما أصبح السيف راضيا
فنهى الله المسلمين عن أن يكونوا مثالاً سيئاً يقابلوا الظلم بالظلم كعادة الجاهلية بل عليهم أن يتبعوا سبيل الإنصاف فيقبلوا القود ، ولذلك قال : { فلا يسرف في القتل } .
والسرف : الزيادة على ما يقتضيه الحق ، وليس خاصاً بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة . فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل ، أما مع القاتل وهو واضح كما قال المُهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب :
كل قتيل في كليب غُرّة *** حتى يعُمّ القتلُ آلَ مُرّة
وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل . وكانوا يتكايلون الدماء ، أي يجعلون كيلها متفاوتاً بحسب شرف القتيل ، كما قالت كبشة بنتُ معديكرب :
فيقتلَ جَبْرا بامرىءٍ لم يكن له *** بَواءً ولكن لا تكايُل بالدم
البواء : الكفء في الدم . تريد فيقتلَ القاتلَ وهو المسمّى جبراً ، وإن لم يكن كفؤاً لعبد الله أخيها ، ولكن الإسلام أبطل التكايل بالدم .
وضمير { يسرف } بياء الغيبة ، في قراءة الجمهور ، يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بتاء الخطاب أي خطاب للولي .
وجملة { إنه كان منصوراً } استئناف ، أي أن ولي المقتول كان منصوراً بحكم القود فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل . حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطاناً على القاتل .
وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام ( كانَ ) الدال على أن الخبر مستقر الثبوت . وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر .
ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ ( سلطان ) هنا الظاهر في معنى المصدر ، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان ، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدَى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة . ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة ، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان .
وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان ، فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة ، وهو الجهاد ، فله أحكام أخرى . وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] وما عطف عليه من الضمائر .
واعلم أن جملة { ومن قتل مظلوماً } معطوفة على جملة { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق } عطف قصة على قصة اهتماماً بهذا الحكم بحيث جعل مستقلاً ، فعُطف على حكم آخر ، وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة ، إما استئنافاً لبيان حكم حالة تكثر ، وإما بدل بعضضٍ من جملة { إلا بالحق } .
و ( مَن ) موصولة مبتدأ مراد بها العموم ، أي وكل الذي يقتل مظلوماً . وأُدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره .
وقوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يُطمئِن نفسَ ولي المقتول . والمقصود من الخبر التفريع بقوله تعالى : { فلا يسرف في القتل } ، فكان تقديم قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } تمهيداً لقبول النهي عن السرف في القتل ، لأنه إذا كان قد جُعل له سلطان فقد صار الحكم بيده وكفاه ذلك شفاءً لغليله .
ومن دلالة الإشارة أن قوله : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتلَ القاتل دون حكم من السلطان ، لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل ، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل ، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة ، فضمير { فلا يسرف } عائد إلى « وليه » .
وجملة { إنه كان منصوراً } تعليل للكف عن الإسراف في القتل ، والضمير عائد إلى « وليه » .
و ( في ) من قوله : { في القتل } للظرفية المجازية ، لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه ، فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه .
ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية ، وقد بينا وجه مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} قتلها، يعني: باغيا،
{إلا بالحق} الذي يقتل فيقتل به،
{ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه}، يعني: ولي المقتول،
{سلطانا}، يعني: مسلطا على القتلى إن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ الدية، ثم قال لولي المقتول: {فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} من أمر الله عز وجل في كتابه، جعل الأمر إليه، ولا تقتلن غير القاتل، فإن من قتل غير القاتل، فقد أسرف، لقوله سبحانه: {إنه كان منصورا}...
قال مالك: السلطان، أمر الله في أرضه...
قال الشافعي: فكان معلوما عند أهل العلم ممن خوطب بهذه الآية: أن وَلي المقتول من جعل الله تعالى له ميراثا منه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبُّوا فالقَوَد، وإن أحبوا فالعقل»... فكل وارث ولي الدم كما كان لكل وارث ما جعل الله له من ميراث الميت، زوجة كانت له، أو ابنة، أو أمّا، أو ولدا، أو والدا، لا يخرج أحد منهم من ولاية الدم إذا كان لهم أن يكونوا بالدم مالا، كما لا يخرجون من سواه من ماله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جل ثناؤه: وقضى أيضا أن "لا تَقْتُلُوا "أيها الناس "النّفْسَ التي حَرّمَ اللّهُ" قتلها "إلاّ بالحَقّ" وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قود نفس، وإن كانت كافرة لم يتقدّم كفرها إسلام، فأن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان... وقوله: "ومَنْ قُتِل مَظْلُوما" يقول: ومن قتل بغير المعاني التي ذكرنا أنه إذا قتل بها كان قتلاً بحقّ "فَقَدْ جَعَلْنا لِولِيّهِ سُلْطانا" يقول: فقد جعلنا لوليّ المقتول ظلما سلطانا على قاتل وليه، فإن شاء استقاد منه فقتله بوليه، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ الدية.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى السلطان الذي جُعل لوليّ المقتول؛
فقال بعضهم في ذلك:... عن ابن عباس، قوله:"...فَقَدْ جَعَلْنا لوليّه سُلْطانا" قال: بيّنة من الله عزّ وجلّ أنزلها يطلبها وليّ المقتول، العَقْل، أو القَوَد، وذلك السلطان...
وقال آخرون: بل ذلك السلطان: هو القتل...
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول ذلك: أن السلطان الذي ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما قاله ابن عباس، من أن لوليّ القتيل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: «ألا وَمن قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُو بِخَيْرِ النّظَريْنِ بينِ أنْ يَقْتُل أوْ يأْخُذ الدّيَة» وقد بيّنت الحكم في ذلك في كتابنا: كتاب الجراح.
وقوله: "فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الكوفة: «فلا تُسْرِفْ» بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به هو والأئمة من بعده، يقول: فلا تقتل بالمقتول ظُلْما غير قاتله، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلاً عمد وليّ القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل، فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عباده، وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام: قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثّل به. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة: "فَلا يُسْرِفْ" بالياء، بمعنى فلا يسرف وليّ المقتول، فيقتل غير قاتل وليه. وقد قيل: عنى به: فلا يسرف القاتل الأول لأولي المقتول.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهى في أحكام الدين، قضاء منه بذلك على جميع عباده، وكذلك أمره ونهيه بعضهم، أمر منه ونهى جميعهم، إلا فيما دلّ فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض، فإذا كان ذلك كذلك بما قد بيّنا في كتابنا (كتاب البيان، عن أصول الأحكام) فمعلوم أن خطابه تعالى بقوله "فَلا تُسْرِفْ في القَتْلِ" نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان موجّها إليه أنه معنّى به جميع عباده، فكذلك نهيه وليّ المقتول أو القاتل عن الإسراف في القتل، والتعدّي فيه نهى لجميعهم، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب صواب القراءة في ذلك...
وأما قوله: "إنّهُ كانَ مَنْصُورا" فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُنِي بالهاء التي في قوله "إنّهُ" وعلى ما هي عائدة؛
فقال بعضهم: هي عائدة على وليّ المقتول، وهو المعنيّ بها، وهو المنصور على القاتل... عن قتادة "إنّهُ كانَ مَنْصُورا" قال: هو دفع الإمام إليه، يعني إلى الوليّ، فإن شاء قتل، وإن شاء عفا.
وقال آخرون: بل عُنِي بها المقتول، فعلى هذا القول هي عائدة على «مَن» في قوله: "وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما".
وقال آخرون: عُنِي بها دم المقتول، وقالوا: معنى الكلام: إن دم القتيل كان منصورا على القاتل.
وأشبه ذلك بالصواب عندي. قول من قال عُنِي بها الوليّ، وعليه عادت، لأنه هو المظلوم، ووليه المقتول، وهي إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول، وهو المنصور أيضا، لأن الله جلّ ثناؤه قضى في كتابه المنزل، أن سلّطه على قاتل وليه، وحكّمه فيه، بأن جعل إليه قتله إن شاء، واستبقاءه على الدية إن أحبّ، والعفو عنه إن رأى، وكفى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه، فلذلك قلنا: هو المعنيّ بالهاء التي في قوله: "إنّهُ كانَ مَنْصُورا".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها: أن يقتل غير قاتله، وهذا قول طلق بن حبيب.
الثاني: أن يمثل إذا اقتص، قاله ابن عباس.
الثالث: أن يقتل بعد أخذ الدية، قاله يحيى.
الرابع: أن يقتل جماعة بواحد، قاله سعيد بن جبير وداود...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سلطانا}: تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه، أو حجة يثب بها عليه {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} الضمير إمّا للولي، يعني حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، وبأنّ الله قد نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق، فلا يبغ ما وراء حقه. وإمّا للمظلوم؛ لأنّ الله ناصره وحيث أوجب القصاص بقتله، وينصره في الآخرة بالثواب. وإما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله، فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ}: الْمَعْنَى لِلْقَرِيبِ مِنْهُ، مَأْخُوذٌ من الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي "كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى "وَالْقُرْبُ فِي الْمَعَانِي لَيْسَ بِالْمَسَافَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالصِّفَاتِ، وَالصِّفَةُ الَّتِي بِهَا كَانَ قَرِيبًا هِيَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ الْبَعْضِيَّةُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ بِنَوْعٍ من أَنْوَاعِ الْبَعْضِيَّةِ فَهُوَ وَلِيٌّ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الْوَارِثُ مُطْلَقًا، فَكُلُّ مَنْ وَرِثَهُ فَهُوَ وَلِيُّهُ. وَعَلَى ذَلِكَ وَرَدَ لَفْظُ الْوِلَايَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ رَدْعًا عَنْ الْإِتْلَافِ، وَحَيَاةً لِلْبَاقِينَ؛ وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَالْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ عَنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهَا مُسْتَحِقٌّ، بَيْدَ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْقِصَاصَ من هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَجَعَلَهُ لِلْأَوْلِيَاءِ الْوَارِثِينَ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي نُدِبَ إلَيْهِ فِي بَابِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُجْعَلْ عَفَوَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، لِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ). وَكَانَتْ هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ خَاصِّيَّةً أُعْطِيَتْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، تَفَضُّلًا وَتَفْضِيلًا، وَحِكْمَةً وَتَفْصِيلًا، فَخُصَّ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ، لِيُتَصَوَّرَ الْعَفْوُ، أَوْ الِاسْتِيفَاءُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُزْنِ...
إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} فقوله: {ولا تقتلوا} نهي وتحريم، وقوله: {حرم الله} إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال: {إلا بالحق}... إن مجرد قوله: {إلا بالحق} مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو؟ ثم إنه تعالى قال: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} أي في استيفاء القصاص من القاتل، وهذا الكلام يصلح جعله بيانا لذلك المجمل، وتقريره كأنه تعالى قال: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} وذلك الحق هو أن من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في استيفاء القصاص. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط، فصار تقدير الآية: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصا صريحا في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد، فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة... دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة: وهو قوله عليه السلام: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق»...
{ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف}... أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطانا، فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل في ماذا فليس في قوله: {فقد جعلنا لوليه سلطانا} دلالة عليه ثم ههنا طريقان: الأول: أنه تعالى لما قال بعده: {فلا يسرف في القتل} عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل، لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه. والثاني: أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة: {يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} إلى قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}... وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح:"من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية"... وعلى هذا الطريق فقوله: {فلا يسرف في القتل} معناه: أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء، وسلطنة استيفاء الدية إن شاء. قال بعده: {فلا يسرف في القتل} معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة «في» محمولة على الباء، والمعنى: فلا يصير مسرفا بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال: {وأن تعفو أقرب للتقوى}... وقرأ حمزة والكسائي: {فلا تسرف} بالتاء على الخطاب، وهذه القراءة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الخطاب للمبتدئ القاتل ظلما كأنه قيل له: لا تسرف أيها الإنسان، وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض، والمعنى: لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوما استوفى القصاص منك.
والآخر: أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير: لا تسرف في القتل أيها الولي، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة...
{إنه كان منصورا} ففيه ثلاثة أوجه:
الأول: كأنه قيل للظالم المبتدئ بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك، فإن ذلك المقتول يكون منصورا في الدنيا والآخرة، أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله، وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله.
والقول الثاني: أن هذا الولي يكون منصورا في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصورا فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه، لأن من يكون منصورا من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة.
والقول الثالث: أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة. واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولا تقتلوا النفس} أي بسبب ما جعل خالقها لها من النفاسة {التي حرم الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله بالإسلام أو العهد {إلا بالحق} أي بأمر يحل الله به تلك الحرمة التي كانت، فصارت الأسباب المنهي عنها بتحريم مسبباتها منع الموجود بخلاً ثم بذله إسرافاً ثم تحصيل المفقود بغياً؛ ثم عطف على ما أفهم السياق تقديره وهو: فمن قتل نفساً بغير حق فقد عصى الله ورسوله {ومن قتل} أي وقع قتله من أيّ قاتل كان {مظلوماً} أي بأيّ ظلم كان، من غير أن يرتكب إحدى ثلاث: الكفر، والزنا بعد الإحصان، وقتل المؤمن عمداً، عدواناً {كان منصوراً} في الدنيا بما جبل الله في الطباع من فحش القتل، وكراهة كل أحد له، وبغض القاتل والنفرة منه، والأخذ على يده، وفي الآخرة بأخذ حقه منه من غير ظلم ولا غفلة، فمن وثق بذلك ترك الإسراف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) يقضي له الله، ويؤيده الشرع، وينصره الحاكم. فليكن عادلا في قصاصه، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه... فلولي الدم أن يقتص أو يصفح. وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والنفس هنا الذات كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]... وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة... والقتل: الإماتة بفعل فاعل، أي إزالة الحياة عن الذات...
ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهوراً من قبلِ هذا النهي، إما لأنه تقرر من قبلُ بآيات أخرى نَزلت قبل هذه الآية وقبلَ آية الأنعام حكماً مفرقاً وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضاً بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه، تنويهاً بهذا الحكم... واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق، أي الذي يشهد الحق أن نفساً معينة استحقت الإعدام من المجتمع، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القَود على وجه الإجمال...
فالباء في قوله: {بالحق} للمصاحبة، وهي متعلّقة بمعنى الاستثناء، أي إلا قتلاً ملابساً للحق... والحق بمعنى العدل، أو بمعنى الاستحقاق، أي حَق القتل... ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعيين الحق المبيح لقتل النفس موكولاً إلى من لهم تعيين الحقوق... وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل. وكانوا يتكايلون الدماء، أي يجعلون كيلها متفاوتاً بحسب شرف القتيل... وجملة {إنه كان منصوراً} استئناف، أي أن ولي المقتول كان منصوراً بحكم القود فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل. حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطاناً على القاتل...
وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام (كانَ) الدال على أن الخبر مستقر الثبوت. وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر... ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ (سلطان) هنا الظاهر في معنى المصدر، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدَى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة. ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان... و (مَن) موصولة مبتدأ مراد بها العموم، أي وكل الذي يقتل مظلوماً. وأُدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره...
ومن دلالة الإشارة أن قوله: {فقد جعلنا لوليه سلطانا} إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتلَ القاتل دون حكم من السلطان، لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة... ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية، وقد بينا وجه مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة...
كان القياس أن يقابل الجمع بالجمع، فيقول: لا تقتلوا النفوس التي حرم الله، لكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن قتل النفس الواحد مسئولية الجميع، لا أن يسأل القاتل عن النفس التي قتلها، بل المجتمع كله مسئول عن هذه الجريمة... فليس الهدف من تشريع الله للقصاص كثرة القتل، إنما الهدف ألا يقع القتل، وألا تحدث هذه الجريمة من البداية... لكي نمنع القتل لابد أن ننفذ حكم الله ونقيم شرعه ولو على أقرب الناس... لذلك جعل الحق سبحانه وتعالى تنفيذ هذه الأحكام علانية أمام الجميع، وعلى مرأى ومسمع المجتمع كله؛ ليعلموا أن أحكام الله ليست شفوية، بل ها هي تطبق أمامهم، وصدق الله تعالى حين قال: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين "2 "} (سورة النور):... {سلطاناً}: أي: شرعنا له، وأعطيناه الحق والقوة في أن يقتل القاتل، والسلطان يكون في خدمة التنفيذ، ويمكنه منه، وكذلك المؤمنون أيضاً يقفون إلى جواره، ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم... يجب أن يقام القصاص قبل أن تبرد شراسة الجريمة في النفوس، وتبهت وتفقد حرارتها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنَّ حرمة دم الإِنسان في الإِسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً مِن غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإِنَّ دماءهم أيضاً وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها...