قوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين ، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه بالحجر ، وهو يصلي فأتاه يوما وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه ، فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده ، فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بني مخزوم : أنا أقتله بهذا الحجر ، فأتاه فرجع وهو يصلي ليرميه بالحجر ، فأعمى الله تعالى بصره ، فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه شيء كهيئة الفحل يخطر بذنبه ، لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } قال أهل المعاني : هذا على طريق المثل ، ولم يكن هناك غل ، أراد : منعناهم عن الإيمان بموانع ، فجعل الأغلال مثلاً لذلك . قال الفراء : معناه إنا حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } معناه : لا تمسكها عن النفقة . { فهي إلى الأذقان } ( ( وهي ) ) كناية عن الأيدي وإن لم يجر لها ذكر لأن الغل يجمع اليد إلى العنق ، معناه : إنا جعلنا في أيديهم وأعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان ، { فهم مقمحون } والمقمح : الذي رفع رأسه وغض بصره ، يقال : بعير قامح إذا روى من الماء ، فأقمح إذا رفع رأسه وغض بصره . قال الأزهري : أراد أن أيديهم لما غلت إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم ، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها .
وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا } وهي جمع " غل " و " الغل " ما يغل به العنق ، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل ، وهذه الأغلال التي في الأعناق{[750]} عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق ، { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } أي : رافعو رءوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم ، فلا يستطيعون أن يخفضوها .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } [ يس : 7 ] فإن انتفاء إيمانهم يشتمل على مَا تضمنته هذه الآية من جعل أغلال في أعناقهم حقيقة أو تمثيلاً .
والجعل : تكوين الشيء ، أي جعلنا حالهم كحال من في أعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ، فيجوز أن يكون تمثيلاً بأن شُبهت حالة إعراضهم عن التدبر في القرآن ودعوة الإِسلام والتأمل في حججه الواضحة بحال قوم جعلت في أعناقهم أغلال غليظة ترتفع إلى أذقانهم فيكونون كالمقمحين ، أي الرافعين رؤوسهم الغاضِّين أبصارهم لا يلتفتون يميناً ولا شِمالاً فلا ينظرون إلى شيء مما حولهم فتكون تمثيلية .
وذِكر { فهي إلى الأذقان } لتحقيق كون الأغلال ملزوزة إلى عظام الأذقان بحيث إذا أراد المغلول منهم الالتفات أو أن يطاطىء رأسه وجِعَه ذقنه فلازم السكون وهذه حالة تخييل هذه الأغلال وليس كل الأغلال مثل هذه الحالة .
وهذا التمثيل قابل لتوزيع أجزاء المركب التمثيلي إلى تشبيه كل جزء من الحالين بجزء من الحالة الأخرى بأن يشبه ما في نفوسهم من النفور عن الخير بالأَغلال ، ويشبه إعراضهم عن التأمل والإِنصاف بالإِقماح .
فالفاء في قوله : { فهي إلى الأذقان } عطف على جملة { جعلنا في أعناقهم أغلالاً } ، أي جعلنا أغلالاً ، أي فأبلغناها إلى الأذقان .
والجعل : هنا حقيقة وهو ما خلق في نفوسهم من خلق التكبر والمكابرة .
والأغلال : جمع غُلّ بضم الغين ، وهو حلقة عريضة من حديد كالقلادة ذات أضلاع من إحدى جهاتها وطرفين يقابلان أضلاعهما فيهما أثقاب متوازية تشد الحلقة من طرفيها على رقبة المغلول بعمود من حديد له رأس كالكرة الصغيرة يسقط ذلك العمُود في الأثقاب فإذا انتهى إلى رأسه الذي كالكرة استقرّ ليمنع الغُلّ من الانحلال والتفلّت ، وتقدم عند قوله تعالى : { وأولئك الأغلال في أعناقهم } في سورة الرعد ( 5 ) .
والفاء في قوله : فهم مقمحون } تفريع على جملة { فهي إلى الأذقان } .
والمقمَح : بصيغة اسم المفعول المجعول قامحاً ، أي رافعاً رأسه ناظراً إلى فوقه يقال : قمحه الغُلّ ، إذا جعل رأسه مرفوعاً وغضّ بصره ، فمدلوله مركب من شيئين . والأذقان : جمع ذَقَن بالتحريك ، وهو مجتمع اللحيين . وتقدم في الإِسراء .
ويجوز أن يكون قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الخ وعيداً بما سيحلّ بهم يوم القيامة حين يساقون إلى جهنم في الأغلال كما أشار إليه قوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون } في سورة غافر ( 71 ، 72 ) ، فيكون فعل { جعلنا } مستقبلاً وعبر عنه بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه كقوله تعالى : { أتى أمر اللَّه } [ النحل : 1 ] ، أي سنجعل في أعناقهم أغلالاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إنا جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقِهم بالأغلال، فلا تُبْسط بشيء من الخيرات... وقوله:"إلى الأَذْقانِ" يعني: فأَيمانهم مجموعة بالأغلال في أعناقهم، فكُنّي عن الأيمان، ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام، وأن الأغلال إذا كانت في الأعناق لم تكن إلاّ وأيدي المغلولين مجموعة بها إليها، فاستغنى بذكر كون الأغلال في الأعناق من ذكر الأيمان... والأذقان: جمع ذَقَن، والذّقَن: مجمع اللّحْيَين.
وقوله: "فَهُمْ مُقْمَحُونَ "والمُقْمَح: هو المقنع، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة. وفي قول بعض الكوفيين: هو الغاضّ بصره، بعد رفع رأسه... عن ابن عباس، قوله: "إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِمْ أغْلاَلاً فَهِيَ إلى الأَذْقان فَهُمْ مُقْمَحُونَ" قال... يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسُطوها بخير...
عن مجاهد، في قوله: "فَهُمْ مُقْمَحُونَ" قال: رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يخرّج على التمثيل، ويُحتمل على التحقيق: فإن كان على التمثيل فهو وصفه إياهم بالبخل والكف عن الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كقوله: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك} [الإسراء: 29] نهاه عن البخل والكف عن الإنفاق كمغلول اليد، لا يقدر على الإنفاق، ليس على إرادة غلّ اليد حقيقة، ولكن على ترك الإنفاق.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سَنَجُرُّهُم إلى هوانهم وصغرهم، وسنذيقهم وبالَ أمرهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"
مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين: في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله.
فإن قلت: ما معنى قوله: "فهي إلى الأذقان"؟ قلت: معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن. فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطئ قذاله فلا يزال مقمحا. والمقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره...
فإن قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق -وبذلك يسمى جامعة- كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله:» فهم مقمحون « ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله: "فهي إلى الأذقان "ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال مكي: قيل هي حقيقة في أحوال الآخرة وإذا دخلوا النار...
وقوله تعالى: {فأغشيناهم فهم لا يبصرون} يضعف هذا القول لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله.
وقالت فرقة: الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى آباءهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه.
وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم {لا يؤمنون} بما سبق لهم في الأزل، عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغللين، والغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة هذا معنى التغليل، وقوله تعالى: {فهي} يحتمل أن يعود على «الأغلال» أي هي عريضة تبلغ بحرفها {الأذقان}، والذقن مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء وذلك هو «الإقماح» وهو نحو الإقناع في الهيئة ونحوه ما يفعله الإنسان والحيوان عند شرب الماء البارد وعند الملوحات والحموضة القوية ونحوه.
كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية؟
فنقول المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه، وذكر بعده أن بين يديه سدا ومن خلفه سدا، فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته، وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم، فهذا الذي يهديه النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعا كالمغلول الذي يجعل ممنوعا من إبصار الطريق الحسي. ويحتمل وجها آخر، وهو أن يقال: الأغلال في الأعناق عبارة عن عدم الانقياد، فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه، والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطئ رأسه ولا يحركه تحريك المصدق، ويصدق هذا قوله: {مقمحون} فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي، يقال بعير قامح: إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة، وكأنه تعالى قال: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهم مقمحون لا يخضعون الرقاب لأمر الله.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
لما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب، كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان. فإن قيل: فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب، فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟. قيل: لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} [يس: 7] فإن انتفاء إيمانهم يشتمل على مَا تضمنته هذه الآية من جعل أغلال في أعناقهم حقيقة أو تمثيلاً.
والجعل: تكوين الشيء، أي جعلنا حالهم كحال من في أعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.
وذِكر {فهي إلى الأذقان} لتحقيق كون الأغلال ملزوزة إلى عظام الأذقان بحيث إذا أراد المغلول منهم الالتفات أو أن يطاطئ رأسه وجِعَه ذقنه فلازم السكون وهذه حالة تخييل هذه الأغلال وليس كل الأغلال مثل هذه الحالة.
وهذا التمثيل قابل لتوزيع أجزاء المركب التمثيلي إلى تشبيه كل جزء من الحالين بجزء من الحالة الأخرى بأن يشبه ما في نفوسهم من النفور عن الخير بالأَغلال، ويشبه إعراضهم عن التأمل والإِنصاف بالإِقماح.
فالفاء في قوله: {فهي إلى الأذقان} عطف على جملة {جعلنا في أعناقهم أغلالاً}، أي جعلنا أغلالاً، أي فأبلغناها إلى الأذقان.
والجعل: هنا حقيقة وهو ما خلق في نفوسهم من خلق التكبر والمكابرة.
والأغلال: جمع غُلّ بضم الغين، وهو حلقة عريضة من حديد كالقلادة ذات أضلاع من إحدى جهاتها وطرفين يقابلان أضلاعهما فيهما أثقاب متوازية تشد الحلقة من طرفيها على رقبة المغلول بعمود من حديد له رأس كالكرة الصغيرة يسقط ذلك العمُود في الأثقاب فإذا انتهى إلى رأسه الذي كالكرة استقرّ ليمنع الغُلّ من الانحلال والتفلّت، وتقدم عند قوله تعالى: {وأولئك الأغلال في أعناقهم} في سورة الرعد (5).
والفاء في قوله: فهم مقمحون} تفريع على جملة {فهي إلى الأذقان}.
والمقمَح: بصيغة اسم المفعول المجعول قامحاً، أي رافعاً رأسه ناظراً إلى فوقه. ويكون فعل {جعلنا} مستقبلاً وعبر عنه بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه كقوله تعالى: {أتى أمر اللَّه} [النحل: 1]، أي سنجعل في أعناقهم أغلالاً.