195- جهاد الكفار يكون ببذل النفس كما يكون ببذل المال ، فأنفقوا في الإعداد للقتال ، واعلموا أن قتال هؤلاء في سبيل الله ، فلا تقعدوا عنه ، وابذلوا الأموال فيه فإنكم إن تقاعدتم وبخلتم ركبكم العدو وأذلكم فكأنما ألقيتم أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك ، فافعلوا ما يجب عليكم بإحسان وإتقان ، فإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يحسنه .
قوله تعالى : { وأنفقوا في سبيل الله } . أراد به الجهاد ، وكل خير هو في سبيل الله ، ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد ، قيل : الباء في قوله تعالى ( بأيديكم ) زائدة ، يريد : " ولا تلقوا أيديكم " أي أنفسكم إلى التهلكة ، عبر عن الأنفس بالأيدي كقوله تعالى ( بما كسبت أيديكم ) أي بما كسبتم ، وقيل الباء في موضعها ، وفيه حذف ، أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك ، وقيل : التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك ، أي ولا تأخذوا في ذلك ، وقيل : التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه ، والهلاك مالا يمكن الاحتراز عنه ، والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلا في الشرك ، واختلفوا في تأويل هذه الآية فقال بعضهم : هذا في البخل وترك الإنفاق . يقول ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، بترك الإنفاق في سبيل الله ، وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة وعطاء . وقال ابن عباس : في هذه الآية : أنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص ، ولا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئاً ، وقال : السدي بها : أنفق في سبيل الله ولو عقالاً ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، ولا تقل : ليس عندي شيء .
وقال : سعيد بن المسيب ومقاتل بن حبان : لما أمر الله تعالى بالإنفاق ، قال رجل : أمرنا بالنفقة في سبيل الله ، ولو أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ، فأنزل الله هذه الآية .
قال مجاهد فيها : لا يمنعنكم من نفقة في حق خيفة العيلة .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا أبو غسان ، أخبرنا خالد بن عبد الله الواسطي ، أخبرنا واصل مولى أبي عتبة عن بشار بن أبي سيف عن الوليد بن عبد الرحمن عن عياض بن غضيف قال : أتينا أبا عبيدة نعوده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق نفقة على أهله فالحسنة بعشر أمثالها .
وقال زيد بن أسلم : كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة ، فإما أن يقطع بهم ، وإما أن كانوا عيالاً فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله ، ومن لم يكن عنده شيء ينفقه فلا يخرج بغير نفقة ولا قوت فيلقي بيده إلى التهلكة ، فالتهلكة : أن يهلك من الجوع والعطش أو بالمشي .
وقيل : نزلت الآية في ترك الجهاد ، قال أبو أيوب الأنصاري : نزلت فينا معشر الأنصار وذلك أن الله تعالى لما أعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا : إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام ونصر الله نبيه فلو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا فأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) فالتهلكة ، الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد ، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية فتوفي هناك ، ودفن في أصل سور القسطنطينية ، وهم يستسقون به . وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " .
وقال محمد بن سيرين و عبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى .
قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول : قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله ، وينهمك في المعاصي ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، قال الله تعالى : ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) .
{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله ، وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله ، وهي كل طرق الخير ، من صدقة على مسكين ، أو قريب ، أو إنفاق على من تجب مؤنته .
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله ، فإن النفقة فيه جهاد بالمال ، وهو فرض كالجهاد بالبدن ، وفيها من المصالح العظيمة ، الإعانة على تقوية المسلمين ، وعلى توهية الشرك وأهله ، وعلى إقامة دين الله وإعزازه ، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة ، فالنفقة له كالروح ، لا يمكن وجوده بدونها ، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله ، إبطال للجهاد ، وتسليط للأعداء ، وشدة تكالبهم ، فيكون قوله تعالى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } كالتعليل لذلك ، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين : ترك ما أمر به العبد ، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح ، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح ، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة ، فمن ذلك ، ترك الجهاد في سبيل الله ، أو النفقة فيه ، الموجب لتسلط الأعداء ، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف ، أو محل مسبعة أو حيات ، أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا ، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك ، فهذا ونحوه ، ممن ألقى بيده إلى التهلكة .
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة{[130]} الإقامة على معاصي الله ، واليأس من التوبة ، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض ، التي في تركها هلاك للروح والدين .
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان ، أمر بالإحسان عموما فقال : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان ، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء ، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم .
ويدخل فيه الإحسان بالجاه ، بالشفاعات ونحو ذلك ، ويدخل في ذلك ، الإحسان بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتعليم العلم النافع ، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس ، من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييع جنائزهم ، وإرشاد ضالهم ، وإعانة من يعمل عملا ، والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك ، مما هو من الإحسان الذي أمر الله به ، ويدخل في الإحسان أيضا ، الإحسان في عبادة الله تعالى ، وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك "
فمن اتصف بهذه الصفات ، كان من الذين قال الله فيهم : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره .
{ وأنفقوا في سبيل الله } ولا تمسكوا كل الإمساك . { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } بالإسراف وتضييع وجه المعاش ، أو بالكف عن الغزو والإنفاق فيه ، فإن ذلك يقوي العدو ويسلطهم على إهلاكهم . ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال : لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت ، أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدي إلى الهلاك المؤيد ، ولذلك سمي البخل هلاكا وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد ، والإلقاء : طرح الشيء ، وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء ، والباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس ، والتهلكة والهلاك والهلك واحد فهي مصدر كالتضرة والتسرة ، أي لا توقعوا أنفسكم في الهلاك وقيل : معناه لا تجعلوها آخذه بأيديكم ، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول . { وأحسنوا } أعمالكم وأخلاقكم ، أو تفضلوا على المحاويج . { إن الله يحب المحسنين } .
{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }( 195 )
{ سبيل الله } هنا الجهاد ، واللفظ يتناول بعد جميع سبله( {[1803]} ) .
وقال أبو عبيدة وقوم : الباء في قوله { بأيديكم } زائدة ، التقدير تلقوا أيديكم( {[1804]} ) .
وقال الجمهور : ذلك ضرب مثل ، تقول ألقى فلان بيده في أمر كذا إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيده ، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : «والله إن إلقاءنا بأيدينا إلى الموت لعجز »( {[1805]} ) .
وقال قوم : التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم( {[1806]} ) ، كما تقول لا تفسد حالك برأيك ، و «التهلُكة » بضم اللام مصدر من هلك ، وقرأ الخليل { التهلِكة } بكسر اللام( {[1807]} ) ، وهي تفعلة من «هلّك » بشد اللام .
وروي عن أبي أيوب الأنصاري( {[1808]} ) أنه كان على القسطنطينية ، فحمل رجل على عسكر العدو ، فقال قوم ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : لا إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا لما ظهر الإسلام أن يتركوا الجهاد ويعمروا أموالهم ، وأما هذا فهو الذي قال الله فيه : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }( {[1809]} ) [ البقرة : 207 ] .
وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وجمهور الناس : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة ، فيقول الرجل ليس عندي ما أنفق .
وقال قوم : المعنى لا تقنطوا من التوبة .
وقال البراء بن عازب وعبيدة السلماني : الآية في الرجل يقول قد بالغت في المعاصي فلا فائدة في التوبة فينهمك بعد ذلك( {[1810]} ) ، وقال زيد بن أسلم : المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد ، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق أو الكون على عالة الناس ، وقوله { وأحسنوا } ، قيل : معناه في أعمالكم بامتثال الطاعات( {[1811]} ) ، وروي ذلك عن بعض الصحابة ، وقيل : المعنى أحسنوا في الإنفاق في سبيل الله في الصدقات ، قاله زيد بن أسلم .
وقال عكرمة : المعنى وأحسنوا الظن بالله( {[1812]} ) .
هذه الجملة معطوفة على جملة { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] الخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله ، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين .
ووجه الحاجة إلى هذا الأمر . مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي ، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيماناً بالله وثقة به ، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيراً بقوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها ، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم ، ولم يفرطوا في شيء ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم ، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلة ، إذ هم يؤمئذٍ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شيء ، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم ، ويفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون ، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم ، ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين .
والإنفاق تقدم في قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 ] .
و ( سبيل الله ) طريقه ، والطريق إذا أضيف إلى شيء فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه ، ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس تعيَّن أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه ، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد ، وقد غلب ( سبيل الله ) في اصطلاح الشرع في الجهاد . أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته ، و ( في ) للظرفية لأن النفقة تكون بإعطاء العَتاد ، والخيل ، والزاد ، وكل ذلك مظروف للجهاد على وجه المجاز وليست ( في ) هنا مستعملة للتعليل .
وقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } عطف غرض على غرض ، عُقِّب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغاً للنصيحة والإرشاد لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبَة العدو ، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب وحفظ النفوس ، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد .
والإلقاء رمي الشيء من اليد وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى المرمى إليه بإلى وإلى المرمى فيه بفي .
والظاهر أن الأيدي هي المفعول إذ لم يذكر غيره ، وأن الباء زائدة لتوكيد اتصال الفِعل بالمفعول كما قالوا للمنقاد « أَعطى بيده » أي أعطى يده لأن المستسلم في الحرب ونحوه يُشَد بيده ، فزيادة الباء كزيادتها في { وهُزى إليك بجِذْع النخلة } [ مريم : 25 ] وقول النابغة :
* لَك الخَيْرُ إِنْ وارتْ بك الأرضُ وَاحِدا *
والمعنى ولا تعطوا الهلاكَ أيديَكم فيأخذكم أخذ الموثَقِ ، وجل التهلكة كالآخِذِ والآسِرِ استعارة بجامع الإحاطة بالملقى ، ويجوز أن تُجعل اليد مع هذا مجازاً عن الذات بعلاقة البعضية لأن اليد أَهم شيء في النفس في هذا المعنى ، وهذا في الأمرين كقول لبيد :
* حَتَّى إذَا أَلْقَتْ يَداً في كَافِرٍ *
أي ألقت الشمس نفسها . وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار والمفعول محذوف أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم .
والتهلكة بضم اللام اسم مصدر بمعنى الهلاك ، وإنما كان اسم مصدر لأنه لم يعهد في المصادر وزن التَّفْعلة بضم العين وإنما في المصادر التفعلة بكسر العين لكِنَّه مصدرُ مضاعفِ العين المعتل اللام كزكَّى وغطَّى ، أو المهموز اللام كَجزَّأَ وهيأ ، وحكى سيبويه له نظيرين في المشتقات التَّضُرَّة والتَّسُرَّة بضم العين من أضر وأَسر بمعنى الضُّر والسُّرور ، وفي الأسماء الجامدة التَّنْضُبة والتَّتْفُلة ( الأول اسم شجر ، والثاني ولَدُ الثعلب ) .
وفي « تاج العروس » أن الخليل قرأها ( التهلِكة ) بكسر اللام ولا أحسب الخليل قرأ كذلك ؛ فإن هذا لم يرو عن أحد من القراء في المشهور ولا الشاذ فإن صح هذا النقل فلعل الخليل نطق به على وجه المثال فلم يضبط من رواه عنه حق الضبط ، فإن الخليل أجل من أن يقرأ القرآن بحرف غير مأثور .
ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوممِ عن تحقق الهلاك بدون أن يجتنَى منه المقصودُ .
وعُطِف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الْامر به فإنَّ ترك الإنفاق في سبيل الله والخروجَ بدون عُدة إلقاءٌ باليد للهلاك كما قيل :
* كساعٍ إلى الهَيْجَا بغير سِلاَح *
فلذلك وجب الإنفاق ، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزم الأعداء اعتقادٌ غير صحيح ، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى ، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعاً وهذا من أبدع الإيجاز .
وفي البخاري عن ابن عباس وجماعة من التابعين في معنى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } لا تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العَيْلة وإن لم يمن إلاَّ سهم أو مشقص فأْتِ به .
وقد قيل في تفسير { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أقوال :
الأول أَنَّ { أنفقوا } أمرٌ بالنفقة على العيال ، والتهلكة : الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة ، ويبعده قوله { في سبيل الله } وأن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد .
الثاني أنها النفقة على الفقراء أي الصدقة والتهلكة الإمساك وببعده عدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك .
الثالث الإنفاق في الجهاد ، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد .
الرابع الإلقاء باليد إلى التهلكة : الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر .
الخامس أنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم .
روى الترمذي عن أسلم أبي عمران قال : كنا بمدينة الروم ( القسطنطينية ) فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لما أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا : { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو اهـ ، والآية تتحمل جميع المعاني المقبولة .
ووقوع فعل { تلقوا } في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهياً عنه محرماً ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدماً على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك . فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين .
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي أيوب وهو اقتحام الرجل الواحد على صف العدو فقال القاسم بن محمد ( من التابعين ) وعبد الملك بن الماجشون وابن خويز منداد ( من المالكية ) ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة : لا بأس بذلك إذا كان فيه قوة وكان بنية خالصة لله تعالى وطمع في نجاة أو في نكاية العدو أو قصد تجرئة المسلمين عليهم ، وقد وقع ذلك من بعض المسلمين يوم أحد بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن كذلك كان من الإلقاء إلى التهلكة .
وقوله تعالى : { وأحسنوا } الإحسان فعل النافع الملائم ، فإذا فعل فعلاً نافعاً مؤلماً لا يكون محسناً فلا تقول إذا ضربت رجلاً تأديباً : أحسنت إليه ولا إذا جاريته في ملذات مضرة أَحسنت إليه ، وكذا إذا فعل فعلاً مضراً ملائماً لا يسمى محسناً .
وفي حذف متعلق { أحسنوا } تنبيه على أن الإحسان مطلوب في كل حال ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء " .
وفي الأمر بالإحسان بعد ذكر الأمر بالاعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة إشارة إلى أنّ كلّ هاته الأحوال يلابسها الإحسان ويحفّ بها ، ففي الاعتداء يكون الإحسان بالوقوف عند الحدود والاقتصاد في الاعتداء والاقتناع بما يحصل به الصلاح المطلوب ، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرفق بالأسير والمغلوب وبحفظ أموال المغلوبين وديارهم من التخريب والتحريق ، والعرب تقول : « ملكت فأسجح » ، والحذر من الإلقاء باليد إلى التهلكة إحسان .
وقوله : { إن الله يحب المحسنين } تذييل للترغيب في الإحسان ، لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخرة ، واللام للاستغراق العرفي والمراد المحسنون من المؤمنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأنفقوا في سبيل الله}، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ساروا من المدينة إلى مكة محرمين بعمرة في العام الذي أدخله الله عز وجل مكة، فقال ناس من العرب منازلهم حول المدينة: والله ما لنا زاد، وما يطعمنا أحد، فأمر الله عز وجل بالصدقة عليهم، فقال سبحانه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، أي ولا تكفوا أيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وقال رجل من الفقراء: يا رسول الله، ما نجد ما نأكل، فبأي شيء نتصدق، فأنزل الله عز وجل: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، فإن أمسكتم عنها فهي التهلكة. {وأحسنوا} النفقة في سبيل الله.
{إن الله يحب المحسنين}: من أحسن في أمر النفقة في طاعة الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية، ومن عَنَى بقوله:"وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك: "وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ"، وسبيل الله: طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوّه من المشركين لجهادهم وحربهم. "وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة": ولا تتركوا النفقة في سبيل الله، فإن الله يعوّضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلاً.
وقال آخرون ممن وجهوا تأويل ذلك إلى أنه معنية به النفقة: معنى ذلك: "وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوّة. وقال آخرون: بل معناه أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم فيما أصبتم من الآثام إلى التهلكة، فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رحمته واعملوا الخيرات...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله ولا تتركوا الجهاد في سبيله:
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله بقوله: "وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ"، وسبيله: طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم.
ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال: "وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة". وذلك مثلٌ، والعرب تقول للمستسلم للأمر: أعطى فلان بيديه، وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به أعطى بيديه.
فمعنى قوله: "وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة": ولا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمتكم فتهلكوا، والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداء فرض الله عليه في ماله. وذلك أن الله جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله، فقال: {إنّمَا الصّدَقاتُ للفُقَراءِ وَالمَساكِين إلى قوله: وفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ،} فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلما وبيديه للتهلكة ملقيا. وكذلك الاَيس من رحمة الله لذنب سلف منه، ملق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: {وَلا تَيأسُوا مِنْ رَوحِ اللّهِ إنّهُ لا يَيْأسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ.} وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه، مضيع فرضا، ملق بيده إلى التهلكة.
فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَةِ ولم يكن الله عزّ وجل خصّ منها شيئا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة، وهي العذاب، بترك ما لزمنا من فرائضه، فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكره الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي. {وأحْسِنُوا إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنينَ}: أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من معاصيّ، ومن الإنفاق في سبيلي، وعود القويّ منكم على الضعيف ذي الخَلّة، فإني أحبّ المحسنين في ذلك. وقال بعضهم: معناه: أحسنوا الظنّ بالله.
وقال آخرون: أحسنوا بالعود على المحتاج.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: (وأحسنوا)؛ قيل: أحسنوا إلى أصحابكم بالإعانة والتصدق، وقيل: أحسنوا الظن بالله في الإنفاق، وقيل: أحسنوا الظن بربكم في الخروج إلى الغزو، ويحتمل: (وأحسنوا) أي: أسلموا. وعلى ذلك يخرج قوله: (إن الله يحب المحسنين) يعني المؤمنين...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى جميع المكلفين المتمكنين من الإنفاق في سبيل الله: أن ينفقوا في سبيله، وسبيل الله: هو كل طريق شرعه الله تعالى لعباده، يدخل فيه الجهاد، والحج، وعمارة القناطر، والمساجد، ومعاونة المساكين، والأيتام، وغير ذلك...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
61- أحسن ما قيل في معنى قول الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، ذلك في ترك النفقة في سبيل الله – والله أعلم. (س: 14/299)...
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين:
الأول: أنه تعالى لما أمر بالقتال، والاشتغال بالقتال لا يتيسر إلا بالآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال، وربما كان ذو المال عاجزا عن القتال وكان الشجاع القادر على القتال فقيرا عديم المال، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال والثاني: يروى أنه لما نزل قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص} قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم...
واعلم أن الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح، فلذلك لا يقال في المضيع: إنه منفق فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله، فالمراد به في طريق الدين، لأن السبيل هو الطريق، وسبيل الله هو دينه. فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء كان إنفاقا في حج أو عمرة أو كان جهادا بالنفس، أو تجهيزا للغير، أو كان إنفاقا في صلة الرحم، أو في الصدقات أو على العيال، أو في الزكوات والكفارات، أو عمارة السبيل وغير ذلك، إلا أن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد، بل قال: {وأنفقوا في سبيل الله} لوجهين:
الأول: أن هذا كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق، وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال
الثاني: أن هذه الآية إنما نزلت وقت ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لقضاء العمرة، وكانت تلك العمرة لا بد من أن تفضي إلى القتال إن منعهم المشركون، فكانت عمرة وجهادا، واجتمع فيه المعنيان، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم قال تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله} ولم يقل: وأنفقوا في الجهاد والعمرة... الوجه السادس: يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط، وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة، ونظيره قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}...
أما قوله تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} ففيه مسائل:...
المسألة الثانية: قوله: {وأحسنوا} فيه وجوه
أحدها: قال الأصم: أحسنوا في فرائض الله
وثانيها: وأحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطا فلا تسرفوا ولا تقتروا، وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله ويمكن حمل الآية على جميع الوجوه...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
روى البخاري عن حذيفة:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة... التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم.
وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم.
ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة.
ويقال: "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة "يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" [البقرة: 267]
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{إن الله يحب المحسنين} هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاماً بأن الله يحب من الإحسان صفة له، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائماً بحيث لا يخلو منه محبة الله دائماً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت النفقة من أعظم دعائم الجهاد وكان العيش في أول الإسلام ضيقاً والمال قليلاً فكان ذلك موجباً لكل أحد أن يتمسك بما في يده ظناً أن في التمسك به النجاة وفي إنفاقه الهلاك أخبرهم أن الأمر على غير ما يسول به الشيطان من ذلك {الشيطان يعدكم الفقر} [البقرة: 268]
قال الحرالي: ولمكان ما لزم العفو من العز الذي جاء على خلاف غرض النفس نظم به تعالى ما يجيء على خلاف مدرك الحس في الإنفاق الذي يحصل به الزكاء والنماء، وأيضاً لما أسس تعالى حكم الجهاد الذي هو أشق الأعمال على النفس نظم به أمر الجود والإنفاق الذي هو أشق منه على الأنفس، ومن حيث إن القتال مدافعة يشتمل على عدة وزاد لم يكن أمره يتم إلاّ بأعمال الغريزتين: الشجاعة والجود، ولذلك كان أشد الآفات في الدين البخل والجبن...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فسر الجلال {سبيل الله} "بطاعته: الجهاد وغيره "{والتهلكة} "بالإمساك عن النفقة وترك الجهاد". قال: لأنه يقوي العدو عليكم.
قال الأستاذ الإمام: أصاب مفسرنا وأجاد في تفسير هذه الآية...
فالمعنى: إذا لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد فقد أهلكتكم أنفسكم... وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية سورة براءة (التوبة) التي يسمونها آية السيف. وهاك ما قاله الأستاذ الإمام: محصل تفسير الآيات ينطبق على ما ورد من سبب نزولها وهو إباحة القتل للمسلمين في الإحرام بالبلد الحرام والشهر الحرام إذا بدأهم المشركون بذلك، وأن لا يبقوا عليهم إذا نكثوا عهدهم واعتدوا في هذه المرة، وحكمها باق مستمر لا ناسخ ولا منسوخ، فالكلام فيها متصل بعضه ببعض في واقعة واحدة فلا حاجة إلى تمزيقه، ولا إلى إدخال آية براءة فيه، وقد نقل عن ابن عباس أنه لا نسخ فيها، ومن حمل الأمر بالقتال فيها على عمومه ولو مع انتفاء الشرط فقد أخرجها عن أسلوبها وحملها ما لا تحمل وآيات سورة آل عمران نزلت في غزوة أحد وكان المشركون هم المعتدون. وآيات الأنفال نزلت في غزوة بدر الكبرى وكان المشركون هم المعتدون أيضا. وكذلك آيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين ولذلك قال: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} وقال بعد ذكر نكثهم: {ألا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة} (التوبة: 13) الآيات.
كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 99) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويتعدى على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الروح ولا لأجل الطمع في الكسب.
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المنتصرة من يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعواته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك 228.
وجملة القول في القتال إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتها يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان، أمر بالإحسان عموما فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم. ويدخل فيه الإحسان بالجاه، بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس، من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملا، والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك، مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضا، الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" فمن اتصف بهذه الصفات، كان من الذين قال الله فيهم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وقاتلوا في سبيل الله} الخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين...
ووجه الحاجة إلى هذا الأمر. مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيماناً بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيراً بقوله: {واعلموا أن الله مع المتقين} نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شيء ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلة، إذ هم يؤمئذٍ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شيء، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، ويفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم، ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
[و أحسنوا إن الله يحب المحسنين] الإحسان في لغة القرآن الكريم يطلق بإطلاقين،
أحدهما، الإتقان والإجادة في العمل والقيام بالطاعات على وجهها، ومن ذلك قوله تعالى: [إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا 30] (الكهف)، وقول تعالى: [الذي أحسن كل شيء خلقه7] (السجدة).
والثاني: التفضل على غيره بالعطاء والزيادة فيه، وعندي أن هذا في الجملة يعود إلى الأول لأن ذلك من قبيل إتقان العبادة، والإخلاص الكامل فيها. و على ذلك نرى أن الإحسان هنا هو الإجادة والإتقان، وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بعد الأمر بالقتال أن يجيدوا كل أعمالهم كل الإجادة، وأن يحتاطوا في كل ما هو متصل بحياتهم الشخصية وأحوالهم الاجتماعية، وشؤون دولتهم وما يقيم أودها ويصلح أمرها، ففي الحرب جلاد وجهاد وفداء، وفي السلم إعداد واستعداد ومحبة وولاء، ومودة بينهم وإخاء، ليكونوا كما وصف الله الأسلاف [أشداء على الكفار رحماء بينهم...29] (الفتح) [أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين...54] (المائدة) فإن لم يكونوا كذلك فقدوا عون الله ونصرته، بعد أن فقدوا عزة الإسلام وهدايته، لأن الله مع من يحسن، ولا يحب سواه، إذ قال: [إن الله يحب المحسنين].
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
الموضوع [الرئيس] في هذا الربع من سورة البقرة يكاد ينحصر في إعادة تنظيم فريضة الحج، وإرجاعها إلى أصلها الأصيل، حسبما كانت عليه في ملة إبراهيم الخليل، بغية تخليصها من جميع شوائب الشرك، وتطهيرها تطهيرا تاما من تقاليد الجاهلية ونزغاتها وشعاراتها {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. -{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أَفَضتُم مِّن عَرَفَاتٍ فاذكُرُوا اللهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَراَمِ، واذكُرُوهُ كَماَ هَداكُم وَإن كُنتُم مَّن قَبلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاستَغفِرُوا اللهَ، إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُم فاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُمُ آبَاءَكُمُ أَوَ أَشَدَّ ذِكْراً}.
وإذن، فالهلاك الذي هو معنى التهلكة إنما يكون في الواقع إذا اقتصر المسلمون على خدمة مصالحهم المادية، وانهمكوا في ترضية شهواتهم الشخصية، وتركوا حماهم مستباحا دون قوة و لا قدرة على الدفاع عن أنفسهم، فيستولي عليهم العدو دون تعب كبير. كما أن هلاك المسلمين يكون نتيجة للشح والبخل، على عكس ما يتوقعه بعض ضعفاء الإيمان، من أن الإنفاق والبذل في سبيل الله هما اللذان يؤديان إلى الضياع والخسران، إذ إنه عندما تنقبض الأيدي عن البذل في وجوه البر والخير ينقلب المجتمع إلى مجتمع بائس عاجز ضعيف منقسم على نفسه، بل ينقلب إلى مجتمع مشلول الحركة عديم النفع من جميع الوجوه {وَأَحسِنُوا، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ (195)}...