جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (195)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، ومن عَنَى بقوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة فقال بعضهم : عنى بذلك : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وسبيل الله : طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوّه من المشركين لجهادهم وحربهم ، وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة يقول : ولا تتركوا النفقة في سبيل الله ، فإن الله يعوّضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلاً . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، والحسن بن عرفة قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سفيان ، عن حذيفة : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : يعني في ترك النفقة .

حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الأعمش وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم جميعا ، عن شقيق ، عن حذيفة ، قال : هو ترك النفقة في سبيل الله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي صالح ، عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : تنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلا مِشْقَصٌ أو سهم ( شعبة الذي يشك في ذلك ) .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن منصور ، عن أبي صالح الذي كان يحدّث عنه الكلبي ، عن ابن عباس قال : إن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص أنفقته .

حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : في النفقة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله ، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عكرمة ، قال : نزلت في النفقات في سبيل الله ، يعني قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : كان القوم في سبيل الله ، فيتزوّد الرجل ، فكان أفضل زادا من الاَخر أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء أحبّ أن يواسي صاحبه ، فأنزل الله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا شيبان ، عن منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح مولى أم هانىء ، عن ابن عباس في قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : لا يقولنّ أحدكم إني لا أجد شيئا إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهز به في سبيل الله .

حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود يعني ابن أبي هند ، عن عامر : أن الأنصار كان احتبس عليهم بعض الرزق ، وكانوا قد أنفقوا نفقات ، قال : فساء ظنهم وأمسكوا . قال : فأنزل الله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَةِ قال : وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : تمنعكم نفقةً في حق خيفةُ العَيْلة .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : وكان قتادة يحدّث أن الحسن حدثه أنهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم ، أو قال : لا ينفقون في ذلك ، فأمرهم الله أن ينفقوا في مغازيهم في سبيل الله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة يقول : لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : أنفقْ في سبيل الله ولو عقالاً ، وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة تقول : ليس عندي شيء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا خصيف ، عن عكرمة في قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : لما أمر الله بالنفقة فكانوا أو بعضهم يقولون : ننفق فيذهب مالنا ولا يبقى لنا شيء ، قال : فقال أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : أنفقوا وأنا أرزقكم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : نزلت في النفقة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا ابن همام الأهوازي ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن في التهلكة ، قال : أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله ، وأخبرهم أن ترك النفقة في سبيل الله التهلكة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عن قوله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : يقول : أنفقوا في سبيل الله ما قلّ وكثر قال : وقال لي عبد الله بن كثير : نزلت في النفقة في سبيل الله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لا يقولنّ الرجل : لا أجد شيئا قد هلكت ، فليتجهز ولو بمشقص .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة يقول : أنفقوا ما كان من قليل أو كثير ، ولا تستسلموا ، ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : التهلكة : أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة فتدعوا النفقة في سبيل الله .

وقال آخرون ممن وجهوا تأويل ذلك إلى أنه معنية به النفقة : معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوّة . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : إذا لم يكن عندك ما تنفق فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقي بيديك إلى التهلكة .

وقال آخرون : بل معناه أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم فيما أصبتم من الاَثام إلى التهلكة ، فتيأسوا من رحمة الله ، ولكن ارجوا رحمته واعملوا الخيرات . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب في قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : هو الرجل يصيب الذنوب فيلقي بيده إلى التهلكة ، يقول : لا توبة لي .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء ، قال : سأله رجل أحمل على المشركين وحدي فيقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ فقال : لا إنما التهلكة في النفقة بعث الله رسوله ، فقال : فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ .

حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع ، قالا : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب في قول الله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : هو الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله له .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء وسأله رجل فقال : يا أبا عمارة أرأيت قول الله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة أهو الرجل يتقدم فيقاتل حتى يقتل ؟ قال : لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي ، ثم يلقي بيده ولا يتوب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء وسأله رجل فقال : الرجل يحمل على كتيبة وحده فيقاتل ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ فقال : لا ولكن التهلكة : أن يذنب الذنب فيلقي بيده ، فيقول : لا تقبل لي توبة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن الجراح ، عن أبي إسحاق ، قال : قلت للبراء بن عازب : يا أبا عمارة الرجل يلقى ألفا من العدوّ فيحمل عليهم وإنما هو وحده ، أيكون ممن قال : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة ؟ فقال : لا ، ليقاتل حتى يقتل ، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا هشام . وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن محمد قال : وسألت عبيدة عن قول الله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة الآية . فقال عبيدة : كان الرجل يذنب الذنب قال : حسبته قال العظيم فيلقي بيده فيستهلك زاد يعقوب في حديثه : فنهوا عن ذلك ، فقيل : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن ذلك ، فقال : هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويلقي بيده إلى التهلكة ، ويقول : لا توبة له . يعني قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة في قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة قال : القنوط .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن يونس ، وهشام عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، قال : هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ، يقول : لا توبة لي ، فيلقي بيده .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : حدثني أيوب عن ابن سيرين ، عن عبيدة أنه قال : هي في الرجل يصيب الذنب العظيم ، فيلقي بيده ويرى أنه قد هلك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأنفقوا في سبيل الله ولا تتركوا الجهاد في سبيله . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني حيوة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران ، قال : غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد . قال : فصففنا صفين لم أر صفين قط أعرض ولا أطول منهما ، والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة ، قال : فحمل رجل منا على العدوّ ، فقال الناس : مَهْ لا إله إلا الله ، يلقي بيده إلى التهلكة .

قال أبو أيوب الأنصاري : إنما تتأوّلون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو يُبلي من نفسه إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . إنا لما نصر الله نبيه ، وأظهر الإسلام ، قلنا بيننا معشر الأنصار خفيّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه ، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله الخبر من السماء : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة الآية ، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة : أن نقيم في أموالنا ونصلحها ، وندع الجهاد . قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، وعبد الله بن أبي زياد قالا : حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد ، قال : أخبرني حيوة وابن لهيعة ، قالا : حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، قال : حدثني أسلم أبو عمران مولى تجيب ، قال : كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج من المدينة صفّ عظيم من الروم ، قال : وصففنا صفا عظيما من المسلمين ، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم ، ثم خرج إلينا مقبلاً ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله ، ألقى بيده إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل ، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار : إنا لما أعزّ الله دينه وكثر ناصريه ، قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سرّا من رسول الله إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أنا أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله في كتابه يردّ علينا ما هممنا به ، فقال : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها ، فأمرنا بالغزو فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله بقوله : وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وسبيله : طريقه الذي شرعه لعباده وأوضحه لهم .

ومعنى ذلك : وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحرب على الكفر بي ، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، فقال : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة . وذلك مثلٌ ، والعرب تقول للمستسلم للأمر : أعطى فلان بيديه ، وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به أعطى بيديه .

فمعنى قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَة ولا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمتكم فتهلكوا ، والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداء فرض الله عليه في ماله . وذلك أن الله جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله ، فقال : { إنّمَا الصّدَقاتُ للفُقَراءِ وَالمَساكِين إلى قوله : وفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ ، }فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلما وبيديه للتهلكة ملقيا . وكذلك الاَيس من رحمة الله لذنب سلف منه ، ملق بيديه إلى التهلكة ، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال : { وَلا تَيأسُوا مِنْ رَوحِ اللّهِ إنّهُ لا يَيْأسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ . }وكذلك التارك غزو المشركين وجهادهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه ، مضيع فرضا ، ملق بيده إلى التهلكة .

فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَةِ ولم يكن الله عزّ وجل خصّ منها شيئا دون شيء ، فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا ، والاستسلام للهلكة ، وهي العذاب ، بترك ما لزمنا من فرائضه ، فغير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكره الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن الأغلب من تأويل الآية : وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله ، ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلى التّهْلُكَةِ قال : التهلكة : عذاب الله .

قال أبو جعفر : فيكون ذلك إعلاما منه لهم بعد أمره إياهم بالنفقة ، ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله من العقوبة في المعاد .

فإن قال قائل : فما وجه إدخال الباء في قوله : وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ وقد علمت أن المعروف من كلام العرب ألقيت إلى فلان درهما ، دون ألقيت إلى فلان بدرهم ؟ قيل : قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل في الباء في قوله : جذبت بالثوب ، وجذبت الثوب ، وتعلقت به ، وتعلقته ، وتَنْبُتُ بالدّهْنِ وإنما هو تُنِبت الدهنَ .

وقال آخرون : الباء في قوله : وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ أصل للكلمة ، لأن كل فعل واقع كُني عنه فهو مضطّر إليها ، نحو قولك في رجل : «كلّمته » ، فأردت الكناية عن فعله ، فإذا أردت ذلك قلت : «فعلت به » قالوا : فلما كانت الباء هي الأصل جاز إدخال الباء وإخراجها في كل فعل سبيله سبيل كلمته . وأما التهلكة ، فإنها التفعلة من الهلاك .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأحْسِنُوا إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنينَ . }

يعني جل ثناؤه بقوله : وأحْسِنُوا : أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي ، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من معاصيّ ، ومن الإنفاق في سبيلي ، وعود القويّ منكم على الضعيف ذي الخَلّة ، فإني أحبّ المحسنين في ذلك . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق عن رجل من الصحابة في قوله : وأحْسِنُوا إنّ اللّهَ يُحِبّ المُحْسِنِينَ قال : أداء الفرائض .

وقال بعضهم : معناه : أحسنوا الظنّ بالله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : وأحْسِنُوا إن اللّهَ يُحِبُ المُحْسِنِينَ قال : أحسنوا الظنّ بالله يبركم .

وقال آخرون : أحسنوا بالعود على المحتاج . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وأحْسِنُوا أن اللّهَ يُحِبّ المحْسنِينَ عودوا على من ليس في يده شيء .