الأولى : روى البخاري عن حذيفة : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : نزلت في النفقة . وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال : غزونا القسطنطينية ، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد ، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل على العدو ، فقال الناس : مه{[1693]} مه ! لا إله إلا الله ، يلقي بيديه إلى التهلكة ! فقال أبو أيوب : سبحان الله ! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه ، قلنا : هلم نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأنزل الله عز وجل : " وأنفقوا في سبيل الله " الآية . والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد . فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية ، فقبره هناك . فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله ، وأن الآية نزلت في ذلك . وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك .
قلت : وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال : " كنا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة . فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس ، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد عليه ما قلنا : " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح " . وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة ، فيقول الرجل : ليس عندي ، ما أنفقه . وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره ، والله أعلم . قال ابن عباس : أنفق في سبيل الله ، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص{[1694]} ، ولا يقولن أحدكم : لا أجد شيئا . ونحوه عن السدي : أنفق ولو عقالا ، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول : ليس عندي شيء . وقول ثالث . قاله ابن عباس ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة فقالوا : بماذا نتجهز ! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد ، فنزل قوله تعالى : " وأنفقوا في سبيل الله " يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله ، يعني في طاعة الله . " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا ، وهكذا قال مقاتل . ومعنى ابن عباس : ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا ، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء ، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا . وقول رابع - قيل للبراء بن عازب في هذه الآية : أهو الرجل يحمل على الكتيبة ؟ فقال لا ، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول : قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة ، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي . فالهلاك : اليأس من الله ، وقاله عبيدة السلماني . وقال زيد بن أسلم : المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد ، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق ، أو يكون عالة على الناس . فهذه خمسة أقوال . " سبيل الله " هنا : الجهاد ، واللفظ يتناول بعد جميع سبله . والباء في " بأيديكم " زائدة ، التقدير تلقوا أيديكم . ونظيره : " ألم يعلم بأن الله يرى{[1695]} " [ العلق : 14 ] . وقال المبرد : " بأيديكم " أي بأنفسكم ، فعبر بالبعض عن الكل ، كقوله : " فبما كسبت أيديكم{[1696]} " ، [ الشورى : 30 ] ، " بما قدمت يداك{[1697]} " [ الحج : 10 ] . وقيل : هذا ضرب مثل ، تقول : فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : [ والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز{[1698]} ] وقال قوم : التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك . التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة ، أي لا تأخذوا فيما يهلككم ، قاله الزجاج وغيره . أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم . وقيل : إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم ، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم . ومعنى آخر : ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة . ويقال : " لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا . ونحوه عن عكرمة قال : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال : " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " [ البقرة : 267 ] وقال الطبري : قوله " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه ، إذ اللفظ يحتمله .
الثانية : اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده ، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة ، وكان لله بنية خالصة ، فان لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة . وقيل : إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل ؛ لأن مقصوده واحد منهم ، وذلك بين في قوله تعالى : " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله{[1699]} " [ البقرة : 207 ] . وقال ابن خويز منداد : فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان : إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن ، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا . وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة ، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له : إنه قاتلك . فقال : لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين . وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة ، قال رجل{[1700]} من المسلمين : ضعوني في الحَجَفة{[1701]} وألقوني إليهم ، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب .
قلت : ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ؟ قال : ( فلك الجنة ) . فانغمس في العدو حتى قتل . وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد{[1702]} يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما رهقوه{[1703]} قال : ( من يردهم عنا وله الجنة ) أو ( هو رفيقي في الجنة ) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل . [ ثم رهقوه أيضا فقال : ( من يردهم عنا وله الجنة ) أو ( هو رفيقي في الجنة ) . فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ]{[1704]} . فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما أنصفنا أصحابنا ) . هكذا الرواية ( أنصفنا ) بسكون الفاء ( أصحابنا ) بفتح الباء ، أي لم ندلهم{[1705]} للقتال حتى قتلوا . وروي بفتح الفاء ورفع الباء ، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه ، والله أعلم . وقال محمد بن الحسن : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده ، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ؛ لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين . فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه . وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه . وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم{[1706]} " [ التوبة : 111 ] الآية ، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه . وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء ، قال الله تعالى : " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور{[1707]} " [ لقمان : 17 ] . وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله ) . وسيأتي القول في هذا في " آل عمران " إن شاء تعالى .
الثالثة : قوله تعالى : " وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " أي في الإنفاق في الطاعة ، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم . وقيل : " أحسنوا " في أعمالكم بامتثال الطاعات ، روي ذلك عن بعض الصحابة .