على وزن تفعلة ، مصدر لهلك ، وتفعلة مصدراً قليلٌ ، حكى سيبويه منه : التضرة والتسرة ، ومثله من الأعيان : التنصبة ، والتنفلة ، يقال : هلك هلكاً وهلاكاً وتهلكةً وهلكاءً على وزن فعلاء ، ومفعل من هلك جاء بالضم والفتح والكسر ، وكذلك بالتاء ، هو مثلث حركات العين ، والضم في مهلك نادر ، والهلاك في ذي الروح : الموت ، وفي غيره : الفناء والنفاد .
وكون التهلكة مصدراً حكاه أبو علي عن أبي عبيدة ، وقلة غيره من النحويين قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما على أنها مصدر من هلك ، يعني المشدّد اللام ، فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار .
وما ذهب إليه ليس بجيد ، لأن فيها حملاً على شاذ ، ودعوى إبدال لا دليل عليه ، أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصل تفعله ذات الضم ، على تفعله ذات الكسر ، وجعل تهلكة مصدراً لهلك المشدّد اللام ، وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل ، نحو : كسر تكسيراً ، ولا يأتي على تفعله ، إلا شاذاً ، فالأَوْلى جعل تهلكة مصدراً ، إذ قد جاء ذلك نحو : التضرة .
وأما تهلكة فالأحسن أيضاً أن يكون مصدراً لهلك المخفف اللام ، لأن بمعنى تهلكة بضم اللام ، وقد جاء في مصادر فعل : تفعلة قالوا : جل الرجل تجلة ، أي جلالاً ، فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدراً لهلك المشدّد اللام ، وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ ، وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعى فيه الإبدال ، بل يبني المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذاً .
وزعم ثعلب أن التهلكة مصدر لا نظير له ، إذ ليس في المصادر غيره ، وليس قوله بصحيح ، إذ قد حكينا عن سيبويه أنه حكى التضرة والتسرّة مصدرين .
وقيل : التهلكة ما أمكن التحرز منه ، والهلاك ما لا يمكن التحرز منه ، وقيل التهلكة : الشيء المهلك ، والهلاك حدوث التلف ، وقيل : التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك .
{ وأنفقوا في سبيل الله } هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام ، فكل ما كان سبيلاً لله وشرعاً له كان مأموراً بالانفاق فيه ؛ وقيل : معناه الأمر بالانفاق في أثمان آلة الحرب ، وقيل : على المقلين من المجاهدين ، قاله ابن عباس ، قال : نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : بماذا نتجهز ؟ فوالله ما لنا زاد وقيل : في الجهاد على نفسه وعلى غيره ، وقيل : المعنى : إبذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله .
وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقاً مجازاً واتساعاً كقول الشاعر :
وأنفقت عمري في البطالة والصبا***
والأظهر القول الأول ، وهو : الأمر بصرف المال في وجوه البرّ من حج ، أو عمرة ، أو جهاد بالنفس ، أو بتجهيز غيره ، أو صلة رحم ، أو صدقة ، أو على عيال ، أو في زكاة ، أو كفارة ، أو عمارة سبيل ، أو غير ذلك .
ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به ، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة .
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } قال عكرمة : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، وقال النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله لي ، فنزلت .
وفي حديث طويل تضمن أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم ، ودخل فيهم وخرج ، فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الانصاري : تأوّلتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلاَّ فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت .
أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب .
الثاني : ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة ، قاله حذيفة ، وإبن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وابن جبير .
الثالث : التقحم في العدّو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي .
الرابع : التصدّق بالخبيث ، قاله عكرمة .
الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } قاله أبو علي .
السادس : الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته ، قاله البراء ، وعبيدة السلماني .
السابع : القنوط من التوبة ، قاله قوم .
الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله زيد بن أسلم ، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم إلى الإنقطاع في الطريق ، أو إلى كونهم عالة على الناس .
التاسع : إحباط الثواب إمّا بالمنّ أو الرياء والسمعة ، كقوله : { ولا تبطلوا أعمالكم }
وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية .
والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ، فإن الجهاد في سبيل الله مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى ، وقد ردّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو : أن يقتل في سبيل الله ثم يحيى ، فيقاتل فيقتل ، أو كما جاء في الحديث ؛ ويقال : ألقى بيده في كذا ، أو إلى كذا ، إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : والله إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز .
وألقى يتعدى بنفسه ، كما قال تعالى : { فألقى مويى عصاه } وقال الشاعر :
وجاء مستعملاً بالباء لهذه الآية ، وكقول الشاعر :
من الجوع وهناً ما يمرّ وما يحلى
وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين ، فقال أبو عبيدة وقوم : الباء زائدة ، التقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، ويكون عبّر باليد عن النفس ، كأنه قيل : ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة .
وقد زيدت الباء في المفعول كقوله .
سود المحاجر لا يقرأن بالسور***
أي : لا يقرأن السور ، إلاَّ أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس ، وقيل : مفعول ألقى محذوف ، التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وتتعلق الباء بتلقوا ، أو تكون الباء للسبب ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك .
والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو : بأيديكم ، لكنه ضمن : ألقى ، معنى ما يتعدى بالباء ، فعداه بها ، كأنه قيل : ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة .
كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحت جنبي على الأرض ، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي ، لأن بها الحركة والبطش والامتناع ، فكأنه يقول : إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك ، ولا يهمل ما وضع له ، ويفضي به إلى الهلاك وتقدّمت معاني : أفعل ، في أول البقرة ، وهي أربعة وعشرون معنى ، وعرضتها على لفظ : ألقى ، فوجدت أقرب ما يقال فيه : أن : أفعل ، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول : أن تجعله كقولك : أخرجته ، أي : جعلته يخرج ، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية .
القسم الثاني : أن تجعله على صفة ، كقوله : أطردته ، فالهمزة فيه ليست للتعدية ، لأن الفعل كان متعدّياً دونها ، وإنما المعنى : جعلته طريداً .
والقسم الثالث : أن تجعله صاحب شيء بوجه مّا ، فمن ذلك : أشفيت فلاناً ، جعلت له دواء يستشفى به ، وأسقيته : جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي .
ومن هذا النوع : أقبرته ، وأنعلته ، وأركبته ، وأخدمته ، وأعبدته : جعلت له قبراً ، ونعلاً ، ومركوباً ، وخادماً ، وعبداً .
فأما : ألقى ، فإنها من القسم الثاني ، فمعنى : ألقيت الشيء : جعلته لقى ، واللقى فعل بمعنى مفعول ، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول ، فكأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك .
وقد حام الزمخشري نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه ، فقال : الباء في : بأيديكم ، مثلها في أعطى بيده للمنقاد ، والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، مالكة لكم ، انتهى كلامه .
وفي كلامه أن الباء مزيدة ، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس .
{ وأحسنوا } هذا أمر بالإحسان ، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين .
وقال عكرمة : المعنى : وأحسنوا الظنّ بالله ، وقال زيد بن أسلم : وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله ، وفي الصدقات .
وقيل : وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ، قال ذلك بعض الصحابة قيل وأحسنوا ، معناه : جاهدوا في سبيل الله ، والمجاهد محسن .
{ إن الله يحب المحسنين } هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاماً بأن الله يحب من الإحسان صفة له ، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائماً بحيث لا يخلو منه محبة الله دائماً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.