الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (195)

قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } : في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها : أنها زائدةٌ في المفعول به لأن " ألقى " يتعدَّى بنفسه ، قال تعالى : { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ }

[ الشعراء : 45 ] ، وقال :

حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ *** وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها

فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله :

وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً *** من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو

وهذا قولُ أبي عبيدة ، وإليه ميلُ الزمخشري ، قال : " والمعنى : ولا تَقْبِضُوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم " إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ

الثاني : أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ ، والمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم ، ويكون معناها السبب كقولِك : لا تُفْسِدْ حالَك برأيك . الثالث : أن يضمَّن " ألقى " معنى ما يتعدَّى بالباء ، فيُعدَّى تعديته ، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره : ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة ، كقولك : أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي : طَرَحْتُه على الأرض ، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس ، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ ، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاه عن المبرد أن " ألقى " يتعدَّى بالباء أصلاً من غيرِ تضمينٍ ، فإنه قال : " وقال المبرد : ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيدٍ والأوْلى حَمْلُه على ما ذَكَرْتُ " .

والتَّهْلُكَةُ : مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ ، يُقال : هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة . وقال الزمخشري " ويجوزُ أن يقال : أصلُها التَّهلِكة بكسر اللام كالتَّجْرِبة ، على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللام - فَأُبْدِلَتِ الكسرةُ ضمة كالجِوار والجُوار " ، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذ ودَعْوى إبدالٍ لا دليل عليها ، وذلك أنه جَعَله تَفْعِلة بالكسر مصدر فَعَّل بالتشديد ، ومصدرُه إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على تَفْعيل ، وتَفْعِلة فيه شاذٌّ . وأمَّا تنظيرُه له بالجِوار والجُوار فليس بشيء ، لأن الضمَّ فيه شاذٌّ ، فالأَولى أن يقال : إنَّ الضمَّ أصلٌ غيرُ مُبْدَلٍ من كسر . وقد حكى سيبويه مِمَّا جاء من المصادر على ذلك التَضُرَّة والتَّسُرَّة . قال ابن عطية : " وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام " وهذا يَقَوِّي قولَ الزمخشري .

وزعم ثعلب أن " تَهْلُكَه " لا نظير لها ، وليس كذلك لِما حكى سيبويه . ونظيرها من الأعيان على هذا الوزن : التَّنْفُلة والتنصُبة .

والمشهورُ أنه لا فرقَ بين التَّهْلُكه والهَلاك ، وقال قومٌ : التَّهْلُكَة : ما أمكن التحرُّزُ منه ، والهَلاكُ ما لا يمكن . وقيل : هي نفسُ الشيء المُهْلِك . وقيل : هي ما تَضُرُّ عاقبتُه . والهمزة في " ألقى " للجَعلِ على صفة نحو : أَطْرَدْتُه أي : جعلتُه طريداً فيه ليست للتعدية لأنَّ الفعلَ متعدٍّ قبلَها ، فمعنى أَلْقيتُ الشيء جَعلْتُه لُقَىً فهو فُعَل بمعنى مَفْعول ، كما أن الطريد فَعِيل بمعنى مفعول ، كأنه قيل : لا تَجْعلوا أنفسكم لُقَىً إلى التهلُكَه .