الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (195)

وقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة :125 ]

سبيلُ اللَّهِ هنا : الجهادُ ، واللفظ يتناوَلُ بَعْدُ جميعَ سُبُلِهِ ، وفي الصحيح أنَّ أبا أيُّوب الأنصاريَّ كان على القُسْطَنْطِينِيَّةِ ، فحمل رجُلٌ على عَسْكَر العدُوِّ ، فقال قومٌ : ألقى هذا بيده إِلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : لا ، إِنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في الأنصار ، حين أرادوا ، لمَّا ظهر الإِسلام ، أن يتركوا الجهادَ ، ويَعْمُروا أموالهم ، وأما هذا ، فهو الذي قال اللَّه تعالى فيه : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله } [ البقرة : 207 ] .

وقال ابن عبَّاس ، وحذيفةُ بْنُ اليَمَانِ ، وجمهورُ الناس : المعنى لا تُلْقُوا بأيديكم ، بأنْ تتركُوا النَّفَقَةَ في سَبِيلِ اللَّه ، وتخافوا العَيْلَةَ .

{ وَأَحْسِنُواْ } قيل معناه : في أعمالكم ، بامتثال الطَّاعات ، روي ذلك عن بعض الصحابة ، وقيل : المعنى وأحسنوا في الإِنفاق في سبيل اللَّهِ ، وفي الصَّدَقَات ، قاله زَيْدُ بْنُ أَسْلَم ، وقال عِكْرِمَة : المعنى : وأحْسِنُوا الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ .

( ت ) ولا شَكَّ أن لفظ الآية عامٌّ يتناول جميعَ ما ذكر ، والمخصَّص يفتقر إِلى دليل .

فأما حُسْن الظن باللَّه سبحانه ، فقد جاءَتْ فيه أحاديثُ صحيحةٌ ، فمنها : ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) ، وفي «صحيح مسلم » ، عن جابرٍ ، قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ : ( لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ ) انتهى .

وأخرج أبو بكر بن الخَطِيبِ بسنده ، عن أنسٍ ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ ) ، انتهى .

قال عبد الحَقِّ في «العاقبة » : " أَمَّا حسْنُ الظنِّ باللَّهِ عزَّ وجلَّ عند الموت ، فواجبٌ ، للحديث " ، انتهى .

ويدخل في عموم الآية أنواعُ المعروف ، قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ) ، قَالَ أبُو جُرَيٍّ الُْجَهيْمِيُّ ، " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : ( لاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ ، أَنْ تَأْتِيَهُ ، وَلَوْ أَنْ تُفَرِّغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسْقِي ، وَلَوْ أَنْ تلقى أَخَاكَ ، وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ ) ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام : ( أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا ، هُمْ أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ ) ، وقال عليه الصلاة والسَّلام : ( إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ ، هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ ) ، انتهى من كتابه المسمى ببهجة المَجَالسِ و أُنْس المُجَالِسِ " .