التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (195)

قوله : ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) جاء في سبب نزول هذه الآية ما ذكر عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال : حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعناه أبو أيوب الأنصاري فقال ناس : ألقى بيده إلى التهلكة . فقال أبو أيوب : نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله ( ص ) وشهدنا معه المشاهدة ونصرناه ، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ( ص ) ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد قد وضعت الحرب أوزارها ، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد{[263]} .

وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وكثيرون غيرهما في معنى هذه الآية : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل : ليس عندي ما أنفقه .

هذان قولان في سبب نزول هذه الآية من أقوال أخرى كثيرة ومتقاربة يفضي كلها إلى المقصود بإلقاء النفس في التهلكة ، وهما ترك الجهاد والنفقة في سبيل الله . فلا يترك أحد الجهاد ولا يبخل في النفقة في وجوهها المشروعة إلا من أودى بنفسه في التهلكة وهي مصدر فعله هلك يهلك .

وثمة أمثلة نسوقها لنبين فيها حكم الشرع وذلك في ضوء هذه الآية التي تحذر من إلقاء النفس في التهلكة .

فقد اختلف أهل العلم في الرجل يقتحم الحرب ثم يحمل على العدو بمفرده .

والراجح في هذه المسألة أنه إذا كان يقصد بذلك طلب الشهادة وقد خلصت فيه النية لله فلا بأس عليه في ذلك وليس ذلك من التهلكة في شيء . يقول الله سبحانه : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ) فذلك هو الذي يبيع نفسه طلبا لرضوان الله .

ولو حمل الرجل بمفرده على أعداد كثيرة من المحاربين أو اللصوص أو المشركين ، فإن كان في حمله عليهم ما ينكّل بهم أو يحدث فيهم رجة نفسية واضطراباً أو ثغرة ينفذ منها المسلمون إلى قلب العدو فذلك حسن وهو ضرب من الحماسة الشجاعة المندفعة التي يكتب الله به للمتحمس الشهادة إذا ما قُتل .

وكذلك لو حمل مسلم بمفرده على أعداد كثيرة من عساكر العدو في المعركة وهو ينبغي بذلك تجرئة المسلمين على الاندفاع في اقتحام هاجم ، فضلا عن الترعيب الذي يحدثه في نفوس الأعداء فذلك حسن أيضا .

وحول هذا المعنى في مثل هذه المواقف رُوي أن رجلا قال للنبي ( ص ) : أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ؟ قال : " فلك الجنة " فانغمس في العدو حتى قتل .

ومما نسمعه في عصرنا هذا أن يزجي أحد الناس بنفسه في وسط العدو فيموت وإياهم . وذلك كالذي يتمنطق بحزام من الذخيرة المتفجرة فيدفع بنفسه في قلب العدو ليفجر فيهم ما يحوطه من عتاد متفجر موقوت . ومثل هذا الرجل الشجاع كأنما هو في شخصه وجسده قنبلة قابلة للانفجار ساعة إلقائها صوب العدو . فما حكم ذلك . وهل من بأس على المرء الشجاع المندفع في مثل هذه الحال ؟

نقول والله المستعان أن هذا المندفع الهاجم الشجاع وهو يبتغي الشهادة في سبيل الله ، فضلا عن مراده تدمير العدو وإشاعة الرعب في صفوفه ، له من بالغ الأجر والتكريم ما لم يعلم مداه وقدره إلا الله . وهو سبحانه وتعالى أعلم .

وقوله : ( وأحسنوا إن اله يحب المحسنين ) يأمر الله أن يعمل المؤمنون الطاعات على أفضل الدرجات وخير المقامات ، سواء في ذلك الإنفاق أو الجهاد وغير ذلك من جوه الإحسان وهو أرقى الدرجات في مراتب الأعمال والطاعات{[264]} .


[263]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 35.
[264]:- تفسير القرطبي جـ 2 ص 361- 365 وتفسير الطبري جـ 2 ص 119، 120.