غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (195)

190

قوله عز من قائل { وأنفقوا } وجه اتصاله بما قبله أنه تعالى لما أمر بالقتال وأنه يفتقر إلى العدد والعدد قد يكون ذو المال عاجزاً عن القتال ، وقد يكون القوي على القتال عديم المال فلهذا أمر الله الأغنياء بالإنفاق في سبيله إعداداً للرجال وتجهيزاً للأبطال ويروى أنه لما نزل { الشهر الحرام بالشهر الحرام } قال رجل من الحاضرين : والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا . فأمر صلى الله عليه وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة ولو بمشقص يحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق قول الرسول صلى الله عليه وسلم . والإنفاق صرف المال في وجوه المصالح . فلا يقال للمضيع : إنه منفق وإنما يقال : مبذر . وسبيل الله دينه فيشمل الإنفاق فيه الإنفاق في الحج والعمرة والجهاد والتجهيز والإنفاق في صلة الرحم وفي الصدقات أو على العيال أو في الزكاة والكفارات أو في عمارة بقاع الخير وغير ذلك . الأقرب في هذه الآية . وقد تقدم ذكر القتال . أن يراد به الإنفاق في الجهاد ، ولكنه تعالى عبر عنه بقوله { في سبيل الله } ليكون كالتنبيه على السبب في وجوب هذا الإنفاق . فالمال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز نفسه ونشط وهان عليه ما دعي إليه . والباء في { بأيديكم } مزيدة مثلها في " أعطى بيده للمنقاد " والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم . وقيل : الأيدي الأنفس كقوله : { فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] { بما قدمت يداك } [ الأنفال : 51 ] أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . وقيل : بل ههنا حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال " أهلك فلان نفسه بيده " إذا تسبب لهلاكها . عن أبي عبيدة والزجاج : إن التهلكة والهلاك والهلك واحد . لم يوجد مصدر على تفعلة بضم العين سوى هذا ، إلا ما حكاه سيبويه من قولهم " التضرة " " والتسرة " ونحوها في الأعيان " التنضبة " لشجر و " التتفلة " لولد الثعلب . ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة بالكسر كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر من هلك مشدد العين ، فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار . وليس الغرض من هذا التكلف على ما ظن تصحيح لفظ القرآن كيلا تنخرم فصاحته فإنه أجل من أن يحتاج في تصحيحه إلى الاستشهاد بكلام الفصحاء من البشر ، وكيف لا وهو حجة على غيره وليس لغيره أن يكون حجة عليه . وإنما الغرض الضبط والتسهيل ما أمكن فتنبه . وللمفسرين في هذا الإلقاء خلاف فمنهم من قال إنه راجع إلى الإنفاق . وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال : نزلت هذه الآية في النفقة . وذلك أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، أو ينفقوا كل مالهم فيحتاجوا ويجتاحوا فيكون نهياً عن التقتير والإسراف وعنهما جميعاً

{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } [ الفرقان : 67 ] أو المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إن أنفقنا نهلك ذلاً وفقراً . نهوا عن أن يحكموا على أنفسهم بالهلاك للإنفاق ، أو أنفقوا ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط منا أو أذى أو رياء وسمعة مثل { ولا تبطلوا أعمالكم } [ محمد : 33 ] ومنهم من قال : إنه راجع إلى غير الإنفاق أي لا تخلوا بالجهاد فتتعرضوا للهلاك الذي هو سخط الله وعذاب النار ، أو لا تقحموا في الحرب حيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل كما روي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقتل بين الصفين . وإنما يجب أن يتقحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل . " روى الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قُتلتُ صابراً محتسباً ؟ قال : لك الجنة " . فانغمس في جماعة العدو فقتلوه . وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة . ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي الرسول . وروي أن رجلاً من الأنصار تخلف من أصحاب بئر معونة فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه . فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك . فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً . وروى أسلم أبو عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفاً عظيماً من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة ! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس ، إنكم تؤوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار . لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون النبي صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه . فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها . فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم . وقيل : إن الآية من تمام ما قبلها أي إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فإن الحرمات قصاص ، ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال . وعن النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب فيقول : لا يغفر لي فأنزل الله تعالى هذه الآية . وذلك أنه يرى أنه لا ينفعه معه عمل فيترك العبودية ويصر على الذنب فنهى عن القنوط من رحمة الله { وأحسنوا } في الإنفاق بأن يكون مقروناً بطلاقة الوجه أو على قضية العدالة بين التقتير والإسراف أو في فرائض الله عن الحسن { إن الله يحب المحسنين } إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وهذا مقام القرب ، والقرب يقتضي الإرادة الذاتية وهذا رمز والله ولي كل خير .

/خ195