في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، وهو الجهاد ، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله ، والباء في قوله : { بِأَيْدِيكُمْ } زائدة ، والتقدير : ولا تلقوا أيديكم ، ومثله : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } [ العلق : 14 ] وقال المبرد : { بِأَيْدِيكُمْ } أي : بأنفسكم تعبيراً بالبعض عن الكل ، كقوله : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم } [ الشورى : 30 ] وقيل : هذا مثل مضروب ، يقال فلان ألقى بيده في أمر كذا : إذا استسلم ؛ لأن المستسلم في القتال يلقى سلاحه بيديه ، فكذلك فعل كل عاجز في أيّ فعل كان . وقال قوم : التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم .
والتهلكة : مصدر من هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة ، أي : لا تأخذوا فيما يهلككم . وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها ، وبيان سبب نزول الآية . والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين ، أو الدنيا ، فهو داخل في هذا ، وبه قال ابن جرير الطبري . ومن جملة ما يدخل تحت الآية ، أن يقتحم الرجل في الحرب ، فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص ، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين ، ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب ، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها ، وهو ظنّ تدفعه لغة العرب . وقوله : { وَأَحْسِنُوا } أي : في الإنفاق في الطاعة ، أو أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، والبخاري ، والبيهقي في سننه ، عن حذيفة في قوله : { وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } قال : نزلت في النفقة . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو ترك النفقة في سبيل الله مخافة العيلة . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عكرمة نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب عنه قال : هو البخل .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم في الآية قال : كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة ، فإما يقطع لهم ، وإما كانوا عيالاً ، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، والتهلكة : أن تُهْلَك رجالٌ من الجوع ، والعطش ، ومن المشي . وقال لمن بيده فضل : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، والبغوي في معجمه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مانع ، والطبراني ، عن الضحاك بن أبي جبير ؛ أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل الله ، ويتصدّقون ، فأصابتهم سنة ، فساء ظنهم ، وأمسكوا عن ذلك ، فأنزل الله الآية .
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أسلم بن عمران قال : كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد ، فخرج صفّ عظيم من الروم ، فصففنا لهم ، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس ، وقالوا : سبحان الله ! يلقي بيده إلى التهلكة ؟ فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس ، إنكم تؤوّلون الآية هذا التأويل . وإنما أنزلت فينا هذه الآية معشر الأنصار ، إنا لما أعزّ الله دينه ، وكثر ناصروه ، قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموال الناس قد ضاعت ، وإن الله قد أعزّ الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ؟ فأنزل الله على نبيه يردّ علينا : { وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } فكانت التهلكة الإقامة في الأموال ، وإصلاحها ، وترك الغزو .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، والبيهقي ، عن البراء بن عازب ، قال في تفسير الآية : هو : الرجل يذنب الذنب ، فيلقي بيديه ، فيقول : لا يغفر الله لي أبداً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، عن النعمان بن بشير نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، قال في تفسير الآية : إنه القنوط . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : التهلكة عذاب الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، أنهم حاصروا دمشق ، فأسرع رجل إلى العدوّ وحده ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص ، فأرسل إليه فردّه ، وقال : قال الله : { وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } . وأخرج ابن جرير ، عن رجل من الصحابة في قوله : { وَأَحْسِنُوا } قال : أدّو الفرائض . وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي إسحاق مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عكرمة قال : أحسنوا الظنّ بالله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.