اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين :
الأول : أنَّه تعالى ، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال ، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال ، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً ، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال{[2809]} .
والثاني : يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } قال رجلٌ من الحاضرين : واللَّهِ ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ ، وليس أحدُ يُطْعمنَا ؛ فأمر رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله ، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة ، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا ، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم{[2810]} - .
واعلم : أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالحِ ؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع : إنَّه مُنفقٌ ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر " سَبِيلِ اللَّهِ " ، فالمرادُ به في طريق الدِّين ؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ ، وسبيلُ الله هو دينُهُ ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة ، سواءٌ كان في حجٍّ ، أو عُمرةٍ ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم ، أو في الصَّدقات ، أو على القتالِ ، أو في الزَّكاةِ ، أو الكَفَّارة ، أو في عمارة السَّبيل ، وغير ذلك ، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد ، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد ؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة ، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - لعُمرة القضاء ، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً ، فاجتمعَ فيها المعنيانِ ؛ فلا جَرَم ، قال تعالى { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } .
أحدها : أنها زائدةٌ في المفعول به ؛ لأن " أَلْقَى " يتعدَّى بنفسه ؛ قال تبارك وتعالى { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ } [ الشعراء : 45 ] ، وقال القائل : [ الكامل ]
976 - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ *** وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا{[2811]}
فزيدت الباءُ في المفعول ، كما زيدَت في قوله : [ الطويل ]
977 - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً *** مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو{[2812]}
وهذا قولُ أبي عبيدة ، وإليه ميلُ الزمخشري ، قال : " والمعنى : ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ " ، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ ، إنما جاءت في الضَّرورة ؛ كقوله : [ البسيط ]
978 - . . . *** سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ{[2813]}
الثاني : أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ ، والمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم ، ويكُونُ معناها السَّبَبَ ؛ كقولك : لا تُفْسِد حالك برأيك .
الثالث : أن يُضمَّن " أَلْقَى " معنى ما يتعدَّى بالباء ؛ فيُعدَّى تعديته ، فيكون المفعولُ به في الحقيقة هو المجرور بالباء ، تقديره : ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة ؛ كقولك : أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض ، أي : طرحتُهُ على الأرض ، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله : { بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] لأنَّ بها البَطشَ والحركة ، وظاهرُ كلام أبي البقاء{[2814]} فيما حكاهُ عن المُبرِّد : أن " ألْقَى " يتعدَّى بالباء أصلاً ك " مَرَرْتُ بزيدٍ " ، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه .
والهمزة في " أَلْقَى " لِلْجعل على صفةٍ ، نحو : أطْرَدْتُهُ ، أي : جعلتُهُ طريداً ، الهمزة فيه : ليست للتعدية ؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها ، فمعنى " ألقَيْتُ الشيْءَ " : جَعَلْتُه لُقى ، فهو " فُعَلٌ " بمعنى " مَفْعُول " ؛ كما أن الطريد " فَعِيلٌ " بمعنى " مَفْعُول " ؛ كأنه قيل : لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة . والتَّهْلُكَةُ : مصدرٌ بمعنى " الهلاكِ ، يُقَالُ : هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً ، وهَلاكاً ، وهَلْكَاءَ ، على وزن فعلاء ، ومَهْلِكاً ومَهْلُكَةً ، مثلَّث العين ، وتَهْلُكَةً ، وقال الزمخشري : " ويجوزُ أن يقال : أصلُها التَّهْلِكَةُ ؛ بكسر اللام ، كالتَّجْرِبة ؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللامِ - فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً ؛ كالجِوار والجُوار " ، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذٍّ ودَعوى إبدال ، لا دليلَ عليها ؛ وذلك أنه أنه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر ، مصدرَ " فَعَّلَ " بالتشديد ، ومصدرُه ، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على " تَفْعِيل " و " تَفْعِلَةٌ " فيه شاذٌّ ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار ، فليس بشيء ، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ ، فالأولى أنْ يُقال : إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ ، وقد حكى سيبويه{[2815]} ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة .
قال ابن عطيَّة : " وقرأ{[2816]} الخليلُ التَّهْلِكَةَ ، بكسر اللام ، وهي تَفْعِلَةٌ ، من هَلَّكَ بتشديد اللام " وهذا يُقَوِّي قول الزمشخري .
وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ " تَهْلُكَةً " لا نظير لها ، وليس كذلك . قال أبو علي : حكى سيبويه التَّضُرَّة والتَّسُرَّة قال : " ولا نعلمُهُ جاء صفةً{[2817]} " .
قال ابن الخطيب{[2818]} - رحمه الله تعالى - إنّي لأَتَعَجَّبُ كثيراً من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلاً عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه ، ففرحُوا به ، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً ، ودليلاً قاطِعاً ، وقالُوا : قد نُقِلَ هذا عن العرب ؛ فكيف ، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف بالفصاحة ، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء ، وتحدَّاهم " بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ " و " بِعَشْرِ سُوَرٍ " و " بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ " [ فقال تعالى : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ{[2819]} وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] وقال : { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ }
[ هود : 13 ] وقال في موضع آخر : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة ، وفصاحتها ، واستقامتها .
والمشهور : أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة ، والهلاك ، وقال قومٌ : التَّهْلُكَةُ : ما أمكن التحرُّز منه ، والهلاكُ : ما لا يمكن التحرُّز منه ، وقيل : هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ ، وقيل : هي ما تضُرُّ عاقبته .
فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة
اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة .
فقال قومٌ : إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة{[2820]} .
وقال آخرون : إنَّه راجعٌ إلى غيرها{[2821]} ، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً :
أحدها : قال ابن عبَّاس ، وحذيفة ، وعطاءٌ ، وعكرمةٌ ، ومجاهدٌ ، والجمهور ، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رضي الله عنهم - ولم يذْكُروا غيره : ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم ؛ فيستولي العَدُوُّ عليهم ، ويهلكهم ؛ فكأنَّه قيل : إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله ، وفي طلب مرضاته ، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا ، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ ، والضَّرَر عن نفسِكَ{[2822]} .
وثانيها : أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال ؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول ، والمشروب ، والملبوسِ ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه : { وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] .
وقيل : الإلقاءُ في التَّهْلُكَة : هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ{[2823]} ، وقد فعل ذلك قومٌ ، فانقطعوا في الطَّريق .
وأما القائلون : بأنَّ المراد منه غير النَّفقة ، فذكروا وجوهاً :
أحدها : أن يخلُّوا بالجهاد ، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار .
ثانيها : لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية ، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ ، فليس له الإقدام عليه ، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب{[2824]} ، ونقل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال في هذا : هو رجُلٌ يتنقّل بين الصفينِ{[2825]} . وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل ؛ وقال : هذا القتلُ غير محرمٍ ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ .
الأول : روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ ؛ فصاح به الناس ؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة ؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ : نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة ، وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه وشهدنا المشاهد ، فلما قويَ الإسلام ؛ وكثر أهله ؛ رجعنا إلى أهالينا ، وأموالنا ، ومصالحنا ؛ فنزلت الآية ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل ، والمال ، وترك الجهاد{[2826]} . فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله ؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية ، فتوفِّي هناك ، ودُفن في أصل سور القسطنطينية ، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به{[2827]} .
ورُوِيَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنَّة ؛ فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله ، إن قتلت صابراً محتسباً ؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - " لك الجنة " ؛ فانغمس في العدوِّ ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأنَّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه ، حين ذكر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - الجنة .
ورُوِيَ أنَّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية ، فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه ؛ فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدوِّح فيقتلونني ، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك ؛ فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً{[2828]} .
وروي أنَّ قوماً حاصروا حصناً ؛ فقاتل رجلٌ حتى قتل ؛ فقيل : ألقى بيده إلى التَّهلكة ، فبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذلك ؛ فقال : كذبوا قال الله تعالى : { مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ }{[2829]} [ البقرة : 207 ] .
ولقائلٍ أن يجيب عن هذه الآية ؛ فيقول : إنَّما حرمنا إلقاء النفس في صفِّ العدوِّ ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم ، فأما إذا توقع ، فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنَّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع ؟
الوجه الثالث من تأويل الآية : أن يكون هذا متَّصلاً بقوله سبحانه :
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] أي : فلا تحملنَّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم ، فتهلكوا بترككم القتال ، فإنَّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة{[2830]} .
الوجه الرابع : أنَّ المعنى : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تقولوا : إنَّا نخاف الفقر ، فنهلك إن أنفقنا ، ولا يبقى معنا شيءٌ ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك ؛ كما يقال جعل فلانٌ فلاناً هلاكاً ، وألقاه في الهلاك ؛ إذا حكم عليه بذلك{[2831]} .
الوجه الخامس : قال محمد بن سيرين ، وعبيدة السَّلمانيُّ : هو أنَّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل ؛ فيستهلك في المعاصي ، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة{[2832]} ؛ فحاصله أنَّ معناه النَّهيُ عن القنوط من رحمة الله تعالى ؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية ، والإصرار على الذنب{[2833]} .
الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة ، والإحباط ؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه ، إما بذكر المنَّة ، أو بذكر وجوه الرياء ، والسُّمعة ؛ ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] .
وروي عن عكرمة{[2834]} : الإلقاء في التهلكة ، قال تبارك وتعالى :
{ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] .
وقال الطَّبَرِيُّ : هو عامٌّ في جميع ما ذُكر ، لأن اللفظ يحتمله .
قوله " وَأَحْسِنُوا " اختلفوا في اشتقاق " المحْسِنِ " ، فقيل : مشتقٌّ من فعل الحسن ، وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٌ في نفسه ، وعلى هذا [ التَّقْدِيرِ ] فالضربُ ، والقتلُ إذاً حَسُنَا ، كان فاعلهما محسناً .
وقيل : مشتقٌّ من الإحسان ؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً ؛ إلاَّ إذا كان فعله حسناً ، وإحساناً معاً ؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين .
قال الأصَمُّ : أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ{[2835]} .
وقيل : أحسنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته ، والمقصود منه أن يكون ، ذلك الإنفاق وسطاً من غير إسراف ، ولا تقتير ، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله ، ويمكن حمل الآية على الجميع .