الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (195)

وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } الآية ، اعلم أن التهلكة : مصدر بمعنى الاهلاك وهو تفعلة من الهلاك .

قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا حامد الخازرنجي يقول : لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة بضم العين إلاّ هذا .

وقال بعضهم : التهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك .

ومعنى قوله { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } لا تأخذوا في ذلك .

ويقال : لكل من بدأ بعمل : قد القى يديه فيه .

قال لبيد يذكر الشمس :

حتّى إذا ألقت يداً في كافر *** وأجّن عورات الثغور ظلامها

أي بدأت في المغيب .

قال المبرد : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } أراد أنفسكم فعبَّر بالبعض عن الكلّ كقوله تعالى { ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] والباء في قوله بأيدكم زائدة كقوله { تَنبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] قال الشاعر :

ولقد ملأت على نصيب جلده *** مّساءة إن الصديق يعاتب

يريد ملأت جلده مساءة .

قالوا : والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلاّ في الشر .

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية .

فقال بعضهم : هذا في البخل وترك النفقة ، يقول : وانفقوا في سبيل الله ولا تمسكوا الإنفاق في سبيل الله فان الامساك عند الانفاق في سبيل الله هو الهلاك وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة والضحاك وابن كيسان .

قال ابن عبّاس : في هذه الآية : إنفق في سبيل الله وإن لم تكن لك إلاَّ سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئاً .

وقال السّدي : فبما أنفق في سبيل الله ولو بمثقالاً . { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } لا تقل ليس عندي شيء .

مجاهد : لا نمنعكم نفقة في حق خيفة العيلة .

الحسن : إنّهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالجهاز إلى الحج ، وقيل : إلى العمرة عام الحديبية ، وكان إذا أراد سفر نادى مناديه بذلك فيعلمهم فيعدّو أهبّة السفر ، فلمّا أمرهم بالتجهيز قام إليه ناس من اعراب حاضري المدينة فقالوا : يا رسول الله بماذا نتجهز فوالله لا من زاد ولا مال نتجهز به ولا يطعمنا أحد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية " .

وقال سعيد بن المسيب ومقاتل بن حيان : لما أمر الله بالأنفاق قال رجال : أمرنا بالنفقة في سبيل الله فإن أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة ، فقال الله { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } يعني انفقوا ولا تخشوا العيلة فإني رازقكم ومخلف عليكم .

الخليل بن عبد الله عن علي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أُمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر وعمران بن حصين كلهم يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال : " من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم " ثمّ تلا هذه الآية { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } .

وروى النضر بن عزيز عن عكرمة { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال : لا تتيمموا الخبيث منه : تُنفقون . [ قال ] زيد بن أسلم : إن رجالاً كانوا يخرجون في بعوث بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة فإما أن يقطع بهم ، وإما كانوا عيالاً فأمرهم الله بالانفاق على أنفسهم في سبيل الله ، وإذا لم يكن عندك ما ينفق فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقي بيديك إلى التهلكة ، والتهلكة : أن يهلك من الجوع أو من العطش ثمّ قال لمن بيده ويبخل { وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .

وقال محمّد بن كعب القرظي : كان القوم يكونّون في سبيل الله فيتزود الرجل فيكون أفضل زاداً من الآخر فينفق النّاس من زاده حتّى لا يبقى منه شيء يحب أن يواسي صاحبه ، فأنزل لله تعالى هذه الآية .

وقال بعضهم : هذه الآية نزلت في ترك الجهاد .

زيد بن أبي حبيب عن أسلم بن عمران قال : غزونا القسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، قال : فوقفنا صفين لم أر قط أعرض ولا أطول منها والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة قال : فحمل رجل منّا على صف الروم حتّى خرقه ثمّ خرج إلينا مقبلاً فصاح الناس وقالوا : سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة .

وقال أبو أيوب الأنصاري : إنكم لتأولون هذه الآية على هذا التأويل ان حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو بلى من نفسه ، نحن أعلم بهذه الآية ، إنها نزلت فينا معشر الأنصار ، إنّا لما أعز الله دينه ونصر رسوله قلنا بيننا [ معاشر الانصار ] سرّاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتّى فشى الإسلام ونصر الله عزّ وجلّ نبيه ، وقد وضعت الحرب أوزارها فلو رجعنا إلى أهلنا وأولادنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله تعالى فينا { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .

والتهلكة : الاقامة في الأهل والمال وترك الجهاد .

قال أبو عمران : فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتّى دفن بالقسطنطينية .

وروى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال : التهلكة عذاب الله عزّ وجلّ يقول : لا تتركوا الجهاد فتعذبوا ؛دليله قوله { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] عن ( يزيد ) بن أبي أنيسة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمّن قال لا إله إلاّ الله لا تكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله عزّ وجلّ إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ( لا يبطله ) جور ولا عدل ، والإيمان بالاقدار " .

أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " .

وقال أبو هريرة وأبو سفيان : هو الرجل يستقبل بين الصفين فيحمل على القوم وحده .

وقال محمّد بن سيرين وعبيد السلماني : الإلقاء في التهلكة هو القنوط من رحمة الله .

قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليست توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله عن ذلك .

قال يمان بن رئاب والمفضل بن سلمة الرجل ألقى بيديه إذا إستسلم للهلاك ويئس من النجاة .

عن شعبة عن أبي إسحاق عن [ أبيه ] في هذه الآية { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قيل له : أهو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف ؟

قال : لا ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول لا توبة لي .

هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال : جاء حبيب بن الحرث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله إني رجل معراض الذنوب . قال : " فتب إلى الله يا حبيب " ، قال : يا رسول الله إني أتوب ثمّ أعود . قال : " فكلمّا اذنبت فتب " قال : إذا يا رسول الله تكثر ذنوبي .

قال : عفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحرث " .

فقال فضيل بن عياض : في هذه الآية { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } باساءة الظن بالله وأحسنوا الظن بالله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } الظن به .

وعن محمّد بن إبراهيم الكاتب قال : " دخلنا على أبي نؤاس الحسن بن هاني نعوده في مرضه الذي مات فيه ومعنا صالح بن علي الهاشمي فقال له صالح : تب إلى الله يا أبا عليّ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وبينك وبين الله هناة ، فقال : أسندوني ، أياي تخوف بالله ، فقد حدثني حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إنّما جعلت شفاعتي لأهل الكبائر من ( أمتي ) أتراني لا أكون منهم " .

وحدثنا حماد عن ثابت عن أنس ان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج رجلان من النّار فيعرضان على الله عزّ وجلّ ثمّ يؤمر بهما إلى النّار فيلتفت أحدهما فيقول : أي ربّ ما كان هذا رجائي ، قال الله وما كان رجاؤك ؟ قال : كان رجائي إذا أخرجتني منها لا تعيدني إليها ، فيرحمه الله عزّ وجلّ فيدخله الجنّة " .