قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الله ولداً } . وقرأ ابن عامر قالوا بلا واو ، وقرأ الآخرون ( وقالوا اتخذ الله ولداً ) نزلت في يهود المدينة حيث قالوا : ( عزير ابن الله ) وفي نصارى نجران حيث قالوا : المسيح ابن الله ، وفي مشركي العرب حيث قالوا : الملائكة بنات الله .
قوله تعالى : { سبحانه } . نزه وعظم نفسه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب عن عبد الرحمن بن أبي حسن عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي ، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً " .
قوله تعالى : { بل له ما في السماوات والأرض } . عبيداً وملكاً .
قوله تعالى : { كل له قانتون } . قال مجاهد وعطاء والسدي : مطيعون وقال عكرمة ومقاتل : مقرون له بالعبودية ، وقال ابن كيسان : قائمون بالشهادة ، وأصل القنوت القيام قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصلاة طول القنوت " ، واختلفوا في حكم الآية ، فذهب جماعة إلى أن حكم الآية خاص ، وقال مقاتل : هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : هو راجع إلى أهل طاعته دون سائر الناس ، وذهب جماعة : إلى أن حكم الآية عام في جميع الخلق لأن لفظ " كل " تقتضي الإحاطة بالشيء بحيث لا يشذ منه شيء ، ثم سلكوا في الكفار طريقين : فقال مجاهد : يسجد ظلالهم لله على كره منهم قال الله تعالى : { وظلالهم بالغدو والآصال } وقال السدي : هذا يوم القيامة دليله { وعنت الوجوه للحي القيوم } وقيل : قانتون مذللون مسخرون لما خلقوا له .
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
{ وَقَالُوا } أي : اليهود والنصارى والمشركون ، وكل من قال ذلك : { اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله ، وأساءوا كل الإساءة ، وظلموا أنفسهم .
وهو - تعالى - صابر على ذلك منهم ، قد حلم عليهم ، وعافاهم ، ورزقهم مع تنقصهم إياه .
{ سُبْحَانَهُ } أي : تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله ، فسبحان من له الكمال المطلق ، من جميع الوجوه ، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه .
ومع رده لقولهم ، أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : جميعهم ملكه وعبيده ، يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك ، وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره ، فإذا كانوا كلهم عبيده ، مفتقرين إليه ، وهو غني عنهم ، فكيف يكون منهم أحد ، يكون له ولدا ، والولد لا بد أن يكون من جنس والده ، لأنه جزء منه .
والله تعالى المالك القاهر ، وأنتم المملوكون المقهورون ، وهو الغني وأنتم الفقراء ، فكيف مع هذا ، يكون له ولد ؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه .
والقنوت نوعان : قنوت عام : وهو قنوت الخلق كلهم ، تحت تدبير الخالق ، وخاص : وهو قنوت العبادة .
فالنوع الأول كما في هذه الآية ، والنوع الثاني : كما في قوله تعالى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
{ وقالوا اتخذ الله ولدا } نزلت لما قال اليهود : { عزير ابن الله } ، والنصارى : { المسيح ابن الله } ، ومشركوا العرب : الملائكة بنات الله ، وعطفه على قالت اليهود ، أو منع ، أو مفهوم قوله تعالى ومن أظلم . وقرأ ابن عامر بغير واو { سبحانه } تنزيه له عن ذلك ، فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ، ألا ترى أن الأجرام الفلكية -مع إمكانها وفنائها- لما كانت باقية ما دام العالم ، لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان والنبات ، اختيارا أو طبعا . { بل له ما في السماوات والأرض } رد لما قالوه ، واستدلال على فساده ، والمعنى أنه تعالى خالق ما في السماوات والأرض ، الذي من جملته الملائكة وعزير والمسيح { كل له قانتون } منقادون لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه ، وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته : فلا يكون له ولد ، لأن من حق الولد أن يجانس والده ، وإنما جاء بما الذي لغير أولي العلم ، وقال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم ، وتنوين كل عوض عن المضاف إليه ، أي كل ما فيهما . ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعا مقرون بالعبودية ، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة ، والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه ، واحتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه ، لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك ، وذلك يقتضي تنافيهما .
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }( 116 )
قرأ هذه الآية عامة القراء «وقالوا » بواو تربط الجملة بالجملة ، أو تعطف على { سعى }( {[1165]} ) [ البقرة : 114 ] ، وقرأ ابن عامر وغيره «قالوا » بغير واو ، وقال أبو علي( {[1166]} ) : وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، وحذف منه الواو يتجه من وجهين ، أحدهما أن هذه الجملة مرتبطة في المعنى بالتي قبلها فذلك يغني عن الواو( {[1167]} ) ، والآخر أن تستأنف هذه الجملة ولا يراعى ارتباطها بما تقدم ، واختلف على من يعود الضمير في { قالوا } ، فقيل : على النصارى ، لأنهم قالوا المسيح ابن الله .
قال القاضي أبو محمد : وذكرهم أشبه بسياق الآية ، وقيل : على اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله ، وقيل : على كفرة العرب لأنهم قالوا الملائكة بنات الله( {[1168]} ) ، و { سبحانه } مصدر معناه تنزيهاً له وتبرئة مما قالوا( {[1169]} ) ، و { ما } رفع بالابتداء ، والخبر في المجرور ، أو في الاستقرار المقدر ، أي كل ذلك له ملك ، والذي قالوا :إن الله اتخذه ولداً داخل في جملة { ما في السماوات والأرض } ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد لا من المخلوقات المملوكات . ( {[1170]} )
والقنوت في اللغة الطاعة ، والقنوت طول القيام في عبادة ، ومنه القنوت في الصلاة ، فمعنى الآية أن المخلوقات كلها تقنت لله أي تخضع وتطيع ، والكفار والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم( {[1171]} ) ، وقيل : الكافر يسجد ظله وهو كاره .
الضمير المرفوع بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث .
وقد قرىء بالواو ( وقالوا ) على أنه معطوف على قوله { وقالت اليهود } [ البقرة : 113 ] وهي قراءة الجمهور . وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافاً كأنَّ السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعاً وتفريقاً تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجباً فهل انتهت مساويهم أم لهم مساوٍ أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساوٍ لا تصدر إلا عن فطر خبيثة .
وقد اجتمع على هذه الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها ، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعاً إلى جمعهم في قَرَن إتماماً لجمع أحوالهم الواقع في قوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] وفي قوله : { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } [ البقرة : 113 ] . وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى : { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] إلى قوله : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } [ البقرة : 118 ] .
والقول هنا على حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضاً لأن الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعْتِقَاد .
وقوله : { اتخذ الله ولداً } جاء بلفظ { اتخذ } تعريضاً بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا يلتئم لأنهم أثبتوا ولداً لله ويقولون اتخذه الله .
والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء من وجود ضده كما يقول قائل : القتلُ جناية عظيمةٌ فلا تكفَّر مثل الردة .
وأصل هذه المقالة بالنسبة للمشركين ناشىء عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشىء عن توغلهما في سوء فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا تؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على حقيقته .
جاء في التوراة في الإصحاح 14 من سفر التثنية « أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم » وفي إنجيل متى الإصحاح 5 « طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدْعَون » وفيه « وصَلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات » وفي الإصحاح 6 « انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها » وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث : " الخلقُ عيال الله " .
وقوله : { سبحانه } تنزيه لله عن شنيع هذا القول . وفيه إشارة إلى أن الوَلَدِيَّة نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالاً في الشاهد لأنها إنما كانت كمالاً في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه .
وقوله : { بل له ما في السماوات والأرض } إضراب عن قولهم لإبطاله ، وأقام الدليل على الإبطال بقوله : { له ما في السماوات والأرض } فالجملة استئناف ابتدائي وَاللام للملك و ( ما في السماوات والأرض ) أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية .
و { ما } من صيغ العموم تقع على العاقل وغيره وعلى المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في « المفصل » واختاره الرضي . وقيل : ( ما ) تَغْلِب أو تختص بغير العقلاء ومَنْ تختص بالعقلاء وربما استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفاً وعليه فهم يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلاً للعقلاء في كونهم من صنع الله بمنزلة مساويةٍ لغيره من بقية الموجودات تصغيراً لشأن كل موجود .
والقنوت الخضوع والانقياد مع خوف وإنما جاء { قانتون } بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليباً لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة .
والمضاف إليه المحذوف بعد { كلّْ } دلّ عليه قوله : { ما في السماوات والأرض } أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين ( كل ) تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : { ولكل وجهة هو موليها } [ البقرة : 148 ] في هذه السورة .
وفي قوله : { له قانتون } حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبرُّ به ولا يقنت ، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مُساوي نقيضه ومُساوي النقيض نقيضٌ وإثبات النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له .
وفصل جملة { كل له قانتون } لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله : { له ما في السماوات والأرض } .
وقد استدل بها بعض الفقهاء على أن من ملك ولده أُعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن .