قوله تعالى :{ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليست بسلفع من السماء خراجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء ، { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } قال أبو حازم سلمة بن دينار : لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب ، ولكن كان جائعاً فلم يجد بداً من الذهاب ، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت ، ففعلت ذلك ، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذ بالله ، فقال شعيب : ولم ذاك ألست بجائع ؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما ، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي ، نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى وأكل . { فلما جاءه وقص عليه القصص } يعني : أمره أجمع ، من قتله القبطي وقصد فرعون قتله ، { قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يعني : فرعون وقومه ، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على أهل مدين .
فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى ، فجاءته { تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } وهذا يدل على كرم عنصرها ، وخلقها الحسن ، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة ، وخصوصا في النساء .
ويدل على أن موسى عليه السلام ، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير والخادم الذي لا يستحى منه عادة ، وإنما هو عزيز النفس ، رأت من حسن خلقه ومكارم أخلاقه ، ما أوجب لها الحياء منه ، ف { قَالَتِ } له : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي : لا لِيمُنَّ عليك ، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان ، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك ، فأجابها موسى .
{ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } من ابتداء السبب الموجب لهربه ، إلى أن وصل إليه { قَالَ } مسكنا روعه ، جابرا قلبه : { لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : ليذهب خوفك وروعك ، فإن اللّه نجاك منهم ، حيث وصلت إلى هذا المحل ، الذي ليس لهم عليه سلطان .
لما رجعت المرأتان سراعا{[22246]} بالغنم إلى أبيهما ، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا ، فسألهما عن خبرهما ، فقصتا عليه ما فعل موسى ، عليه السلام . فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها قال الله تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } أي : مشي الحرائر ، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، أنه قال : كانت مستتَرة بكم درْعها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا [ أبي ، حدثنا ]{[22247]} أبو نعيم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمر بن ميمون قال : قال عمر رضي الله عنه : جاءت تمشي على استحياء ، قائلة بثوبها على وجهها ، ليست بسلفع{[22248]} خَرَّاجة ولاجة . هذا إسناد صحيح .
قال الجوهري : السلفع من الرجال : الجسور ، ومن النساء : الجريئة السليطة ، ومن النوق : الشديدة .
{ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } ، وهذا تأدب في العبارة ، لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة ، بل قالت : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } يعني : ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا ، { فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } أي : ذكر له ما كان من أمره ، وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده ، { قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } . يقول : طب نفسا وَقرّ عينا ، فقد خرجتَ من مملكتهم فلا حُكْم لهم في بلادنا . ولهذا قال : { نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل : مَنْ هو ؟ على أقوال : أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام{[22249]} الذي أرسل إلى أهل مدين . وهذا هو المشهور عند كثيرين ، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد . ورواه ابن أبي حاتم .
حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا مالك بن أنس ؛ أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه موسى القصص قال : { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد العنزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " مرحبا بقوم شعيب وأَخْتان موسى ، هُديت " {[22250]} .
وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب . وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب . وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى ، عليه{[22251]} السلام ، بمدة طويلة ؛ لأنه قال لقومه : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [ هود : 95 ] . وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل ، عليه السلام{[22252]} بنص القرآن ، وقد علم أنه كان بين موسى والخليل ، عليهما السلام ، مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة ، كما ذكره غير واحد . وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة ، إنما هو - والله أعلم - احتراز من هذا الإشكال ، ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا . وما جاء في{[22253]} بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى{[22254]} لم يصح إسناده ، كما سنذكره قريبا إن شاء الله . ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه : " ثبرون " ، والله أعلم .
وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : وأثرون{[22255]} وهو ابن أخي شعيب عليه السلام .
وعن أبي حمزة{[22256]} عن ابن عباس : الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين . رواه ابن جرير ، ثم قال : الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر ، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك .
{ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } .
عرفت أن الفاء تؤذن بأن الله استجاب له فقيّض شعيباً أن يرسل وراء موسى ليضيفه ويزوجه بنته ، فذلك يضمن له أنساً في دار غربة ومأوى وعشيراً صالحاً . وتؤذن الفاء أيضاً بأن شعيباً لم يتريث في الإرسال وراءه فأرسل إحدى البنتين اللتين سقى لهما وهي ( صفورة ) فجاءته وهو لم يزل عن مكانه في الظل .
وذكر { تمشي } ليبني عليه قوله { على استحياء } وإلا فإن فعل ( جاءته ) مغن عن ذكر { تمشي } .
و { على } للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف . والمعنى : أنها مستحيية في مشيها ، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة . وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها ، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء . والاستحياء مبالغة في الحياء مثل الاستجابة قال تعالى { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن إلى قوله ليعلم ما يخفين من زينتهن } [ النور : 31 ] .
وجملة { قالت } بدل من ( جاءته ) . وإنما بيّنت له الغرض من دعوته مبادرة بالإكرام .
والجزاء : المكافأة على عمل حسن أو سيّىء بشيء مثله في الحسن أو الإساءة ، قال تعالى { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] وقال تعالى { ذلك جزيناهم بما كفروا } [ سبأ : 17 ] .
وتأكيد الجملة في قوله { إن أبي يدعوك } حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به .
والأجر : التعويض على عمل نافع للمعوض ، ومنه سمي ثواب الطاعات أجراً ، قال تعالى { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } [ محمد : 36 ] . وانتصب { أجر ما سقيت لنا } على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير ، وهو أن أراد ضيافته ، وليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة .
والجزاء : إكرام ، والإجارة : تعاقد . ويدل لذلك قوله عقبه { قالت إحداهما يا أبت استأجره } [ القصص : 26 ] فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى . وكان فعل موسى معروفاً محضاً لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما ، وكان فعل شعيب كرماً محضاً ومحبة لقري كل غريب ، وتضييف الغريب من سُنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه السلام .
و { ما } في قوله { ما سقيت لنا } مصدرية ، أي سقيك ، ولام { لنا } لام العلة .
{ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } .
كانت العوائد أن يفاتح الضيف بالسؤال عن حاله ومقدمه فلذلك قصّ موسى قصة خروجه ومجيئه على شعيب . وذلك يقتضي أن شعيباً سأله عن سبب قدومه ، و { القصص } : الخبر . و { قص عليه } أخبره .
والتعريف في { القصص } عوض عن المضاف إليه ، أي قصصه ، أو للعهد ، أي القصص المذكور آنفاً . وتقدم نظيره في أول سورة يوسف .
فطمأنه شعيب بأنه يزيل عن نفسه الخوف لأنه أصبح في مأمن من أن يناله حكم فرعون لأن بلاد مدْين تابعة لملك الكنعانيين وهم أهل بأس ونجدة . ومعنى نهيه عن الخوف نهيه عن ظن أن تناله يد فرعون .
وجملة { نجوت من القوم الظالمين } تعليل للنهي عن الخوف . ووصف قوم فرعون بالظالمين تصديقاً لما أخبره به موسى من رومهم قتله قصاصاً عن قتل خطأ . وما سبق ذلك من خبر عداوتهم على بني إسرائيل .
{فلما جاءه وقص عليه القصص}. 720- ابن كثير: روى ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز الأزدي حدثنا مالك ابن أنس، أنه بلغه أن شعيبا-عليه السلام- هو الذي قص عليه موسى القصص..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فجاءت موسى إحدى المرأتين اللتين سَقَى لهما تمشي على استحياء من موسى... [عن] الحسن يقول، في قوله:"فَجاءَتْهُ إحْداهُما تَمْشِي عَلى اسْتِحْياءٍ" قال: بعيدة من البَذَاء...
وقوله: "قالَتْ إن أبي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيكَ أجْرَ ما سَقَيْتَ لنَا "يقول تعالى ذكره: قالت المرأة التي جاءت موسى تمشي على استحياء: إن أبي يدعوك ليجزيك: تقول: يثيبَك أجر ما سقيت لنا.
وقوله: "فَلَمّا جاءَهُ وَقَصّ عَلَيْهِ القَصَصَ" يقول: فمضى موسى معها إلى أبيها، فلما جاء أباها وقصّ عليه قصصه مع فرعون وقومه من القبط، قال له أبوها: "لا تَخَفْ" فقد "نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظالِمِينَ" يعني: من فرعون وقومه، لأنه لا سلطان له بأرضنا التي أنت بها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{على استحياء}: على التستر والتغطية.
وقوله تعالى: {قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} هذا يدل على أن لا بأس أن يؤخذ على المعروف الذي صنع إلى آخر أجر. والأفضل على من صنع إليه المعروف والتبرع أن يعطي لمعروفه وتبرعه بدلا وأجرا. والأفضل على المتبرع وعلى صانع المعروف ألا يأخذ على ذلك بدلا. إلا أن موسى كان قد اشتدت به الحاجة. لذلك كان ما ذكر وأخذ لمعروفه ما ذكر بدلا، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف صح له أخذ الأجر على البرّ والمعروف؟ قلت: يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف. وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ. كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب؟ ومثله حقيق بأن يضيَّف ويكرم خصوصاً في دار نبيّ من أنبياء الله، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلباً للأجر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...اختلف الناس في الرجل الداعي لموسى عليه السلام من هو، فقال الجمهور هو شعيب عليه السلام وهما ابنتاه، وقال الحسن: هو ابن أخي شعيب واسمه ثروان، وقال أبو عبيدة: يثرون، وقيل هو رجل صالح ليس من شعيب بنسب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، وهذا تأدب في العبارة، لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة، بل قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} يعني: ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان سماعهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب عليه الصلاة والسلام له، قال بانياً على ما تقديره: فذهبت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه بخبرهما و بإحسانه إليهما، فأمر بدعائه ليكافئه: {فجاءته} أي بسبب قول الأب وعلى الفور {إحداهما} أي المرأتين حال كونها {تمشي} ولما كان الحياء كأنه مركب لها وهي متمكنة منه، مالكة لزمامه، عبر بأداة الاستعلاء فقال: {على استحياء} أي حياء موجود منها لأنها كلفت الإتيان إلى رجل أجنبي تكلمه وتماشيه؛ ثم استأنف الإخبار عما تشوف إليه السامع من أمرها فقال: {قالت} وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه في قولها: {إن أبي} وصورت حاله بالمضارع فقالت: {يدعوك ليجزيك} أي يعطيك مكافأة لك، لأن المكافأة من شيم الكرام، وقبولها لا غضاضة فيه {أجر ما سقيت لنا} أي مواشينا، فأسرع الإجابة لما بينهما من الملاءمة، ولذلك قال: {فلما} بالفاء {جاءه} أي موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام {وقص} أي موسى عليه الصلاة والسلام {عليه} أي شعيب عليه الصلاة والسلام {القصص} أي حدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله، وتتبع له الأمور على ما هي عليه لما توسم فيه بما آتاه الله من الحكم والعلم من النصيحة والشفقة، والعلم والحكمة، والجلال والعظمة.
ولما كان من المعلوم أنه لا عيشة لخائف، فكان أهم ما إلى الإنسان الأمان، قدم له التأمين بأن {قال} أي شعيب له عليهما الصلاة والسلام: {لا تخف} أي فإن فرعون لا سلطان له على ما ههنا، ولأن عادة الله تعالى جرت أن تواضعك هذا ما كان في أحد إلا قضى الله برفعته، ولذلك كانت النتيجة: {نجوت} أي يا موسى {من القوم الظالمين} أي هو و غيره وإن كانوا في غاية القوة والعراقة في الظلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما نكاد نستغرق مع موسى -عليه السلام- في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج، معقبا في التعبير بالفاء، كأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب. فجاءته إحداهما تمشي على استحياء. قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجرما سقيت لنا.. يا فرج الله: ويا لقربه ويا لنداه! إنها دعوة الشيخ الكبير استجابة من السماء لدعوة موسى الفقير. دعوة للإيواء والكرامة والجزاء على الإحسان. دعوة تحملها: (إحداهما) وقد جاءته (تمشي على استحياء) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. (على استحياء). في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله، يحكيه القرآن بقوله: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا). فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح؛ لا التلجلج والتعثر والربكة. وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة. فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب. الاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج؛ إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب، ولا تزيد. وينهي السياق هذا المشهد فلا يزيد عليه، ولا يفسح المجال لغير الدعوة من الفتاة، والاستجابة من موسى. ثم إذا مشهد اللقاء بينه وبين الشيخ الكبير. الذي لم ينص على اسمه. وقيل: إنه ابن أخي شعيب النبي المعروف. وإن اسمه يثرون. (فلما جاءه وقص عليه القصص، قال: لا تخف. نجوت من القوم الظالمين).. فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن؛ كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور: (لا تخف) فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل: (نجوت من القوم الظالمين) فلا سلطان لهم على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والجزاء: المكافأة على عمل حسن أو سيّئ بشيء مثله في الحسن أو الإساءة، قال تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] وقال تعالى {ذلك جزيناهم بما كفروا} [سبأ: 17]. وتأكيد الجملة في قوله {إن أبي يدعوك} حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به. والأجر: التعويض على عمل نافع للمعوض، ومنه سمي ثواب الطاعات أجراً، قال تعالى {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم} [محمد: 36]. وانتصب {أجر ما سقيت لنا} على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير، وهو أن أراد ضيافته، وليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة. والجزاء: إكرام، والإجارة: تعاقد. ويدل لذلك قوله عقبه {قالت إحداهما يا أبت استأجره} [القصص: 26] فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى. وكان فعل موسى معروفاً محضاً لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما، وكان فعل شعيب كرماً محضاً ومحبة لقري كل غريب، وتضييف الغريب من سُنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه السلام.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ـ أين كانت مدين؟! «مدين»: اسم مدينة كان يقطنها «شعيب» وقبيلته، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة [وشمال الحجاز وجنوب الشامات] وأهلها من أبناء إسماعيل «الذبيح» ابن إبراهيم الخليل (عليها السلام)، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان. أمّا اليوم فيطلق على «مدين» اسم «معان». كما أن بعضاً من المفسّرين يعتقدون أن مدين اسم لجماعة كانت تعيش ما بين خليج العقبة وجبل سينا المعروف بطور سيناء، وجاء اسمها في التوراة بـ «مديان» أيضاً. كما يرى البعض: إنّ أساس تسمية هذه المدينة «بمدين» هو لأنّ أحد أبناء إبراهيم الخليل واسمه «مدين» كان يعيش في هذه المدينة. وفي الوقت الحاضر يبدو في الخرائط الجغرافية للأردن أن إحدى مدنها في الجنوب الغربي منها، واسمها «معان» تحمل الأوصاف ذاتها التي كانت في مدين.. وتنطبق عليها تماماً.
ـ دروس كثيرة توحي بالعبر: في هذا القسم من قصّة موسى (عليه السلام) دروس كثيرة توحي بالعبر:
أ ـ إنّ أنبياء الله هم حماة المظلومين دائماً، فموسى سواءً كان في مصر أو كان في مدين كان يسيئهُ أن يرى ظلماً وتجاوزاً على حقوق الآخرين، وكان ينهض لنصرة المظلوم.. ولم لا يكون كذلك، وأحد أهداف بعثة الأنبياء نصرة المظلوم.
ب ـ أداء عمل صغير لله له بركات كثيرة! لم يفعل موسى سوى أنّه جلب دلواً من الماء وسقى الأغنام للبنتين، ولم يكن له هدف سوى مرضاة الله الخالق سبحانه! ولكن كم كان لهذا العمل الصغير من خير وبركة؟! لأنّه صار سبباً لأن يصل إلى منزل شعيب نبي الله، وأن يتخلّص من الغربة، وأن يجد مأوى يطمئن إليه، وصار من نصيبه الأكل الهنيء والثياب والزوجة الصالحة، وأهم من كل ذلك.. إنّه وصل إلى شعيب، ذلك الشيخ الكبير الذي يتمتع بضمير حي وله دين سماوي، فعاش معه عشر سنين وأصبح مهيأً لقيادة الأُمة في ذلك الوقت..
ج ـ إنّ رجال الله لا يتركون أي عمل سدىً، وخاصّة ما يعمله المخلصون، دون أن يؤدوا أجره.. ولهذا السبب فإنّ شعيباً حين بلغه ما قدمه موسى (عليه السلام) من عمل، وهو شاب لم يكن معروفاً هناك، لم يقرّ حتى أرسل خلفه ليعطيه أجره.
د ـ وهذه المسألة تثير الانتباه، وهي أن موسى كان يذكر الله دائماً، ويطلب منه العون في كل أمر، يوكل حل مشاكله إليه. فحين قتل القبطي وعرف أنّه «ترك الأولى» استغفر ربّه فوراً و (قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي). وحين خرج من مصر سأل الله أن يحفظه و (قال ربّ نجني من القوم الظالمين). وحين وصل أرض مدين (قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل!). وحين سقى أغنام «شعيب» وتولى إلى الظل دعا ربّه و (قال ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير). وهذا الدعاء الأخير ـ خاصة ـ الذي دعا به في وقت تحوط فيه الأزمات وهو في أشدّ الحاجات، دعا به وهو في غاية التأدب والخشوع، ولم يسأل الله أن يحقق له ما يحتاج، بل سأل المزيد وقال: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير)..