66- وإن لكم - أيها الناس - في الإبل والبقر والغنم لموعظة تعتبرون بها ، وتنتقلون بتدبر عطائها إلى العلم بالصانع المبدع الحكيم ، ونسقيكم من بعض ما في بطونها من بين فضلات الطعام والدم لبناً صافياً سهل التناول للشاربين{[113]} .
قوله تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرةً } ، لعظة ، { نسقيكم } ، بفتح النون هاهنا وفي المؤمنين ، قرأ ابن نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب والباقون بضمها ، وهما لغتان . { مما في بطونه } ، قال الفراء : رد الكناية إلى النعم ، والأنعام واحد . ولفظ النعم مذكر . قال أبو عبيدة ، والأخفش : النعم يذكر ويؤنث ، فمن أنث : فالمعنى الجمع ، ومن ذكر : فحكم اللفظ . قال الكسائي : رده إلى ما يعني في بطون ما ذكرنا . وقال المؤرخ : الكناية مردودة إلى البعض والجزء ، كأنه قال : نسقيكم مما في بكونه اللبن ، إذ ليس لكلها لبن ، واللبن فيه مضمر . { من بين فرث } ، وهو ما في الكرش من الثقل ، فإذا خرج منه لا يسمى فرثاً . { ودم لبناً خالصاً } ، من الدم والفرث ، ليس عليه لون دم ، ولا رائحة الرفث . { سائغاً للشاربين } ، هنيئاً ، يجري على السهولة في الحلق . وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط . قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف ، واستقر في كرشها ، وطحنته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه اللبن ، وأعلاه الدم ، والكبد مسلطة عليها ، تقسمها بتقدير الله تعالى ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو .
{ 66 - 67 } { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
أي : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ } ، التي سخرها الله لمنافعكم . { لَعِبْرَةً } ، تستدلون بها على كمال قدرة الله وسعة إحسانه ، حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم ، فأخرج من بين ذلك لبنا خالصا من الكدر ، سائغا للشاربين للذته ؛ ولأنه يسقي ويغذي ، فهل هذه إلا قدرة إلهية لا أمور طبيعية .
فأي شيء في الطبيعة يقلب العلف الذي تأكله البهيمة والشراب الذي تشربه من الماء العذب والملح لبنا خالصا سائغا للشاربين ؟
يقول تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ } ، أيها الناس . { فِي الأنْعَامِ } وهي : الإبل والبقر والغنم ، { لَعِبْرَةً } ، أي : لآية ودلالة على قدرة خالقها ، وحكمته ولطفه ورحمته ، { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } ، وأفرد هاهنا [ الضمير ]{[16521]} ، عودًا على معنى النعم ، أو الضمير{[16522]} عائد على الحيوان ؛ فإن الأنعام حيوانات ، أي : نسقيكم مما في بطن{[16523]} هذا الحيوان .
وفي الآية الأخرى : { مِمَّا فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] ، ويجوز هذا وهذا ، كما في قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } [ المدثر : 54 ، 55 ] ، وفي قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 35 ، 36 ] أي : المال .
وقوله : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا } ، أي : يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته ، من بين فرث ودم ، في باطن الحيوان ، فيسري كلٌ إلى موطنه ، إذا نضج الغذاء في معدته ، تصرف{[16524]} منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع{[16525]} ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ، ولا يتغير به .
وقوله : { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } ، أي : لا يغص به أحد{[16526]} .
هذه حُجّة أخرى ومنّة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام ، أدمج في منّتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعاً لقوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } إلى قوله : { لرؤوف رحيم } [ سورة النحل : 5 7 ] .
ومناسبة ذكر هذه النّعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماءِ السماء ، وأن لآثار ماء السماء أثراً في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى .
واختصّت هذه العبرة بما تنبّه إليه من بديع الصّنع والحكمة في خلق الألبان بقوله : { مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً } ، ثم بالتذّكير بما في ذلك من النّعمة على الناس إدماجاً للعبرة بالمنّة .
فجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } معطوفة على جملة { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] ، أي كما كان القوم يسمعون عِبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضاً ، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القومَ الذين يسمعون .
وضمير الخطاب التفات من الغيبة . وتوكيدها ب { إن } ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها .
و { الأنعام } : اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز .
والعبرة : ما يُتّعظ به ويُعتبر . وقد تقدم في نهاية سورة يوسف .
وجملة { نسقيكم مما في بطونه } واقعة موقع البيان لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .
والبطون : جمع بطن ، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد وأمْعاء .
و ( من ) في قوله تعالى : { مما في بطونه } ابتدائية ، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون . وما صْدَقُ « ما في بطونه » العلف . ويجوز جعلها تبْعيضية ويكون ما صدق « ما في بطونه » هو اللبن اعتداداً بحالة مُروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع .
و { من } في قوله تعالى : { من بين فرث } زائدة لتوكيد التوسّط ، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم .
ووقع البيان ب { نسقيكم } دون أن يقال : تشربون أو نحوه ، إدماجاً للمنّة مع العبرة .
ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة ، ثم الكَبِد ، ثم غدد الضرع ، مائعاً يسقى وهو مفرز من بين أفراز فرث ودم .
والفرث : الفضلات التي تركها الهضم المَعِدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فَرثا . والدمّ : إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يَدور كذلك بواسطة القلب . وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة والدم } في سورة العقود ( 3 ) .
ومعنى كون اللّبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدّم وإفراز الفرث . وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمرّ بجوار الفضلات البوليّة والثفلية ، فتفرزه غدد الضرع لبَناً كما تفرزه غدد الكليتين بَولاً بدون معالجة زائدة ، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثَفلاً بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمَنِيّ لتوقّفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها .
وليس المراد أن اللّبن يتميّع من بين طبقتيّ فرث ودم ، وإنما الذي أوهم ذلك مَن تَوهمه حمْله { بينَ } على حقيقتها من ظرف المكان ، وإنما هي تستعمل كثيراً في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم : الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن . فمن بلاغة القرآن هذا التعبيرُ القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم ، مع كونه موافقاً للحقيقة .
والمعنى : إفراز ليس هو بدم لأنه أليَنُ من الدم ، ولأنه غير باققٍ في عروق الضرع كبقاء الدّم في العروق ، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه ، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز طاهر نافع مغذّ ، وليس قذراً ضاراً غير صالح للتغذية كالبول والثفل .
وموقع { من بين فرث ودم } موقع الصفة ل { لبناً } ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة ، فكان لها مزيد اهتمام ، وقد صارت بالتقديم حالاً .
ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولاً ل { نَسقيكم } ، وجعل { مما في بطونه } تبييناً لمصدره لا لمَورده ، فليس اللبن مما في البطون ؛ ولذلك كان { مما في بطونه } متقدماً في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل { نسقيكم } وليس وصفاً لِْلّبن .
وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها لِلْلّبن قوله تعالى : { خالصاً سائغاً للشاربين } . فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل ، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شَربه ، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهّمه .
وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية ، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذٍ أن يعرف دقائق تكوينه ، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وَصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمعَ .
وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى : { مما في بطونه } مراعاة لكون اللفظ مفرداً لأن اسم الجمع لفظ مفرد ، إذ ليس من صيغ الجموع ، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفرداً ، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع ، كما في آية سورة المؤمنين ( 21 ) { نسقيكم مما في بطونها } والخالص : المجرّد مما يكدّر صفاءه ، فهو الصافي . والسائغ : السهل المرور في الحلق .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { نسقيكم } بفتح النون مضارع سَقى . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم النون على أنه مضارع أسْقى ، وهما لغتان ، وقرأه أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضاً عن النون على أن الضمير للأنعام .