4 - فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضربوا رقابهم ، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فاحكموا قيد الأساري ، فإما أن تمنوا بعد انتهاء المعركة مناً بإطلاقهم دون عوض ، وإمَّا أن تقبلوا أن يفتدوا بالمال أو بالأسرى من المسلمين . وليكن هذا شأنكم مع الكافرين ، حتى تضع الحرب أثقالها وينتهي ، فهذا حكم الله فيهم ، ولو شاء الله لانتصر منهم بغير قتال ، وليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يُبطل أعمالهم{[203]} ، سيهديهم ويصلح قلوبهم ، ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم .
قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } نصب على الإغراء ، أي : فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم . { حتى إذا أثخنتموهم } بالغتم في القتل وقهرتموهم ، { فشدوا الوثاق } يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم ، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل ، كما قال : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ( الأنفال-67 ) ، { فإما مناً بعد وإما فداءً } يعني : بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم مناً بإطلاقهم من غير عوض ، وإما أن تفادوهم فداء . واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم }( الأنفال-57 ) ، وبقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( التوبة-5 ) وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي ، قالوا : لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء . وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة ، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم ، فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال ، أو بأسارى المسلمين ، وإليه ذهب ابن عمر ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وأكثر الصحابة والعلماء ، وهو قول الثوري والشافعي ، وأحمد وإسحاق . قال ابن عباس : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى : { فإما مناً بعد وإما فداء } وهذا هو الأصح والاختيار ، لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : ما عندي إلا ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن أيوب ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين قال : " أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف " . قوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } أي : أثقالها وأحمالها ، يعني حتى يضع أهل الحرب السلاح ، فيمسكوا عن الحرب . وأصل الوزر : ما يحمله الإنسان ، فسمى الأسلحة أوزاراً لأنها تحمل . وقيل : الحرب هم المحاربون ، كالشرب والركب . وقيل : الأوزار الآثام ، ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها ، بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله . وقيل : حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ، ومعنى الآية : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ، ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال ، وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليهما السلام ، وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " . وقال الكلبي : حتى يسلموا أو يسالموا . وقال الفراء : حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم . { ذلك } الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار ، { ولو يشاء الله لانتصر منهم } فأهلكهم كفاكم أمرهم بغير قتال ، { ولكن } أمركم بالقتال ، { ليبلو بعضكم ببعض } فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكفار إلى العذاب ، { والذين قتلوا في سبيل الله } قرأ أهل البصرة وحفص : ( قتلوا ) بضم القاف وكسر التاء خفيف ، يعني الشهداء ، وقرأ الآخرون : ( قاتلوا ) بالألف من المقاتلة ، وهم المجاهدون ، { فلن يضل أعمالهم } قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل .
{ 4-6 } { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }
يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم ، ونصرهم على أعدائهم- : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } في الحرب والقتال ، فاصدقوهم القتال ، واضربوا منهم الأعناق ، حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم ، فإذا فعلتم ذلك ، ورأيتم الأسر أولى وأصلح ، { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } أي : الرباط ، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا ، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم ، فإذا كانوا تحت أسركم ، فأنتم بالخيار بين المن عليهم ، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء ، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم ، أو يشتريهم أصحابهم بمال ، أو بأسير مسلم عندهم .
وهذا الأمر مستمر { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : حتى لا يبقى حرب ، وتبقون في المسألة والمهادنة ، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل حال حكما ، فالحال المتقدمة ، إنما هي إذا كان قتال وحرب .
فإذا كان في بعض الأوقات ، لا حرب فيه لسبب من الأسباب ، فلا قتل ولا أسر .
{ ذَلِكَ } الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ، ومداولة الأيام بينهم ، وانتصار بعضهم على بعض { وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير ، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا ، حتى يبيد المسلمون خضراءهم .
{ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ليقوم سوق الجهاد ، ويتبين بذلك أحوال العباد ، الصادق من الكاذب ، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة ، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة ، فإنه إيمان ضعيف جدا ، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا .
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } لهم ثواب جزيل ، وأجر جميل ، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا .
فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم ، أي : لن يحبطها ويبطلها ، بل يتقبلها وينميها لهم ، ويظهر من أعمالهم نتائجها ، في الدنيا والآخرة .
يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أي : إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف ، { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا } أي : أهلكتموهم قتلا { فشدوا } [ وثاق ] {[26607]} الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه . والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله ، سبحانه ، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء ، والتقلل من القتل يومئذ فقال : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 67 ، 68 ] .
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية - المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه - منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ] } {[26608]} الآية [ التوبة : 5 ] ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقاله قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جُرَيْج .
وقال الآخرون - وهم الأكثرون - : ليست بمنسوخة .
ثم قال بعضهم : إنما الإمام مُخَيَّر بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله .
وقال آخرون منهم : بل له أن يقتله إن شاء ، لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعَيط من أسارى بدر ، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : إن تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ ، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعطَ منه ما شئت{[26609]} .
وزاد الشافعي ، رحمه الله ، فقال : الإمام مخير بين قتله أو المن عليه ، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا . وهذه المسألة مُحَرّرة في علم الفروع ، وقد دللنا على ذلك في كتابنا " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ] . {[26610]} وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال " {[26611]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي {[26612]} ، عن جُبَير بن نُفيَر ؛ أن سلمة بن نُفيَل أخبرهم : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني سَيَّبْتُ الخيل ، وألقيت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، وقلت : " لا قتال " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " الآن جاء القتال ، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ{[26613]} الله قلوب أقوام فيقاتلونهم : ويرزقهم الله {[26614]} منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . ألا إن عُقْرَ دار المؤمنين الشام ، والخيلُ معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " .
وهكذا رواه النسائي من طريقين ، عن جُبَيْر بن نُفَير ، عن سلمة بن نُفَيْل السكوني ، به{[26615]} .
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رُشَيْد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ، عن جبير بن نُفَير ، عن النواس بن سمعان قال : لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتْح فقالوا : يا رسول الله ، سيبت الخيل ، ووضعت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، قالوا : لا قتال ، قال : " كذبوا ، الآن ، جاء القتال ، لا يزال الله يُرَفِّع {[26616]} قلوب قوم يقاتلونهم ، فيرزقهم منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، وعُقْر دار المسلمين بالشام " .
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رُشَيْد ، به {[26617]} . والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نُفَيْل كما تقدم . وهذا يقوي القول بعدم النسخ ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب .
وقال قتادة : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك . وهذا كقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [ البقرة : 193 ] . ثم قال بعضهم : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : أوزار المحاربين ، وهم المشركون ، بأن يتوبوا إلى الله عز وجل . وقيل : أوزار أهلها {[26618]} بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله ، عز وجل .
وقوله : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده ، { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي : ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ، ويبلو أخباركم . كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي " آل عمران " و " براءة " في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] .
وقال في سورة براءة : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ] .
ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثيرٌ من المؤمنين ، قال : { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها . ومنهم من يجري عليه عمله في طول بَرْزَخه ، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال :
حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن كثير بن مُرّة {[26619]} ، عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه : يُكَفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حُلَّة {[26620]} الإيمان " {[26621]} . تفرد {[26622]} به أحمد رحمه الله .
حديث آخر : قال أحمد{[26623]} أيضا : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن بَحِير{[26624]} ابن سعيد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دَفْعَة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حُلَّة{[26625]} الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويَأمَن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويُشَفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه " .
وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه{[26626]} .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو ، وعن أبي قتادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن " {[26627]} . وروي من حديث جماعة من الصحابة ، وقال أبو الدرداء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " . ورواه أبو داود{[26628]} . والأحاديث في فضل الشهيد{[26629]} كثيرة جدا .
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10349]} [ التوبة : 5 ] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد ، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه{[10350]} . وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه : إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك ، والمن والفداء ثابت ، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، وقاله الحسن ، وقال : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل ، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين . وقالت فرقة : هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ، ففيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل . وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان . وقوله هنا : { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10351]} [ التوبة : 5 ] وصرح هنا بذكر المن والفداء ، ولم يصرح به هنالك ، وهو مراد متقرر ، وهذا هو القول القوي .
وقوله : { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل ، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره ، والمراد : اقتلوهم بأي وجه أمكن ، وقد زادت آية : { واضربوا منهم كل بنان }{[10352]} [ الأنفال : 12 ] وهي من أنكى ضربات الحرب ، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده ، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها . و : { أثخنتموهم } معناه : بالقتل . والإثخان في القوم : أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، والمعنى : فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر . و : { مناً } و : { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين . وقرأ جمهور الناس : «فداء » . وقرأ شبل عن ابن كثير : «فدى » مقصوراً .
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه : القتل ، أو الاسترقاق ، أو ضرب الجزية ، أو الفداء ، أو المن . ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك .
وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه : حتى تذهب وتزول أثقالها . والأوزار : الأثقال فيها والآلات لها ، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
وأعددت للحرب أوزارها . . . رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا{[10353]}
وقال الثعلبي : وقيل الأوزار في هذه الآية : الآثام ، جمع وزر ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين .
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها } ، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها . وقال حذاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم .
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد : إنك تفعله دائماً .
وقوله تعالى : { ذلك } تقديره : الأمر ذلك . ثم قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .
وقرأ جمهور الناس : «قاتلوا » وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه : «قَتَلوا » بفتح القاف والتاء . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش : «قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء . وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء : «قُتِّلوا » بضم القاف وكسر التاء وشدها ، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى .