قوله تعالى : { ينادونهم } روي عن عبد الله بن عمر قال : إن السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن { فضرب بينهم بسور له باب } هو سور بيت المقدس الشرقي ، { باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب } ، وادي جهنم . وقال شريح : كان كعب يقول : في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس : إنه الباب الذي قال الله عز وجل : { فضرب بينهم بسور له باب }الآية . { ينادونهم } يعني : ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور حين حجز بينهم بالسور وبقوا في الظلمة : { ألم نكن معكم } في الدنيا نصلي ونصوم ؟ { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات ، وكلها فتنة ، { وتربصتم } بالإيمان والتوبة . قال مقاتل : وتربصتم بمحمد الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه ، { وارتبتم } ، شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به ، { وغرتكم الأماني } الأباطيل وما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين ، { حتى جاء أمر الله } يعني الموت ، { وغركم بالله الغرور } يعني الشيطان ، قال قتادة : ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار .
فينادي المنافقون المؤمنين ، فيقولون لهم تضرعا وترحما : { أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } في الدنيا نقول : { لا إله إلا الله } ونصلي ونصوم ونجاهد ، ونعمل مثل عملكم ؟ { قَالُوا بَلَى } كنتم معنا في الدنيا ، وعملتم [ في الظاهر ] مثل عملنا ، ولكن أعمالكم أعمال المنافقين ، من غير إيمان ولا نية [ صادقة ] صالحة ، بل { فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } أي : شككتم في خبر الله الذي لا يقبل شكا ، { وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ } الباطلة{[982]} ، حيث تمنيتم أن تنالوا منال المؤمنين ، وأنتم غير موقنين ، { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } أي : حتى جاءكم الموت وأنتم بتلك الحال الذميمة .
{ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } وهو الشيطان ، الذي زين لكم الكفر والريب ، فاطمأننتم به ، ووثقتم بوعده ، وصدقتم خبره .
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } أي : ينادي المنافقون المؤمنين : أما{[28262]} كنا معكم في الدار الدنيا ، نشهد معكم الجمعات ، ونصلي معكم الجماعات ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم الغزوات ، ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ { قَالُوا بَلَى } أي : فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى ، قد كنتم معنا ، { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي : أخرتم التوبة من وقت إلى وقت .
وقال قتادة : { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالحق وأهله { وَارْتَبْتُمْ } أي : بالبعث بعد الموت { وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } أي : قلتم : سيغفر لنا . وقيل : غرتكم الدنيا { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } أي : ما زلتم في هذا حتى جاء الموت { وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي : الشيطان .
قال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان ، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار .
ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين : إنكم كنتم معنا [ أي ] {[28263]} بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها ، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تُراؤون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا .
قال مجاهد : كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم ، وكانوا معهم أمواتا ، ويعطون النور جميعًا يوم القيامة ، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ، ويُماز بينهم حينئذ .
وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله به عنهم ، حيث يقول - وهو أصدق القائلين - : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 38 - 47 ] ،
فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ . ثم قال تعالى : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] ، كما قال تعالى هاهنا : { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }
وقوله تعالى : { ينادونهم } معناه : ينادي المنافقون المؤمنين { ألم نكن معكم } في الدنيا ؟ فيرد المؤمنون عليهم : { بلى } كنتم معنا ، ولكنكم عرضتم أنفسكم للفتنة ، وهو حب العاجل والقتال عليه ، قال مجاهد : { فتنتم أنفسكم } بالنفاق .
{ وتربصتم } معناه هنا : بأمانكم { فأبطأتم } به حتى متم . وقال قتادة معناه : تربصتم بنا وبمحمد عليه السلام الدوائر وشككتم في أمر الله . والارتياب : التشكك . و : { الأماني } التي غرتهم هي قولهم : سيهلك محمد هذا العام ستهزمه قريش ، ستأخذه الأحزاب ، إلى غير ذلك من أمانيهم ، وطول الأمل غرار لكل أحد ، و { أمر الله } الذي { جاء } هو الفتح وظهور الإسلام ، وقيل هو موت المنافقين وموافاتهم على هذه الحال الموجبة للعذاب و : { الغرور } الشيطان بإجماع من المتأولين .
وقرأ سماك بن حرب بضم الغين ، وأبو حيوة . وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته .