الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ} (14)

وقوله تعالى : { ينادونهم } معناه : ينادي المنافقون المؤمنين : { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } : في الدنيا ، فيردّ المؤمنون عليهم : { بلى } : كنتم معنا ، ولكن عَرَّضْتُمْ أنفسكم للفتنة ، وهي حُبُّ العاجل والقتال عليه ، قال مجاهد : ( فتنتم أنفسكم ) بالنفاق { وَتَرَبَّصْتُمْ } معناه هنا : بإيمانكم فأبطأتم به ، حَتَّى مُتُّم ، وقال قتادة : معناه : تربصتم بِنَا وبمحمد صلى الله عليه وسلم الدوائرَ ، وشككتم ، والارتياب : التشكك ، والأماني التي غرتهم هي قولهم : سَيَهْلَكُ محمد هذا العام ، سَتَهْزِمُهُ قريش ، ستأخذه الأحزاب ، إلى غير ذلك من أمانيهم ، وطول الأمل : غرار لكل أحد ، وأمر اللَّه الذي جاء هو : الفتح وظهور الإسلام ، وقيل : هو موتهم على النفاق المُوجِبِ للعذاب ، و{ الغرور } : الشيطان بإجماع المتأولين ، وينبغي لكل مؤمن أَنْ يعتبر هذه الآيةَ في نفسه ، وتسويفَه في توبته ، واعلم أيها الأخ أَنَّ الدنيا غَرَّارة للمقبلين عليها ، فإنْ أردت الخلاص والفوز بالنجاة ، فازهدْ فيها ، وأقبلْ على ما يعنيك من إصلاح دينك والتزود لآخرتك ، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه » عن أبي الدرداء أَنَّهُ قال يعني لأصحابه : لَئِنْ حَلَفْتُم لي على رجل منكم أَنَّه أزهدكم ، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيركم ، وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال : " يَبْعَثُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِهِ كَانَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَحَدُهُمَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ ، وَالآخَرُ مَوَسَّعٌ عَلَيْهِ فَيُقْبِلُ المَقْتُورُ عَلَيْهِ إلَى الجَنَّةِ ، وَلاَ يَنْثَنِي عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى أَبْوَابِهَا ، فَيَقُولُ حَجَبَتُهَا : إلَيْكَ إلَيْكَ فَيَقُولُ : إذَنْ لاَ أَرْجِعَ ، قال : وَسَيْفُهُ في عُنُقِهِ فَيَقُولُ : أُعْطِيتُ هذا السَّيْفَ في الدُّنْيَا أُجَاهِدُ بِهِ ، فَلَمْ أَزَلْ مُجَاهِداً بِهِ حتى قُبِضْتُ وَأَنَا على ذَلِكَ ، فَيَرْمِي بِسَيْفِهِ إلَى الخَزَنَةِ ، وَيَنْطَلِقُ ، لاَ يُثْنُونَهُ وَلاَ يَحْبِسُونَهُ عَنِ الجَنَّةِ ، فَيَدْخُلُهَا ، فَيَمْكُثُ فِيهَا دَهْراً ، ثُمَّ يَمُرُّ بِهِ أَخُوهُ المُوَسَّعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا فُلاَنُ ، مَا حَبَسَكَ ؟ ! فَيَقُولُ : مَا خُلِّيَ سَبِيلِي إلاَّ الآن ، وَلَقَدْ حُبِسْتُ مَا لَوْ أَنَّ ثَلاَثَمِائَةِ بِعِيرٍ أَكَلَتْ خَمْطاً ، لاَ يَرِدْنَ إلاَّ خِمْساً وَرَدْنَ على عِرْقِي لَصَدَرْنَ مِنْهُ رِيًّا " انتهى .