قوله تعالى : { آمنا واشهد بأنا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } قرأ الكسائي : ( هل تستطيع ) بالتاء .
( ربك ) بنصب الباء ، وهو قراءة علي ، وعائشة ، وابن عباس ومجاهد ، أي : هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك ، وقرأ الآخرون : ( يستطيع ) بالياء ، و( ربك ) برفع الباء ، ولم يقولوا شاكين في قدرة الله عز وجل ، ولكن معناه : هل ينزل ربك أم لا ؟ كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تنهض معي ؟ وهو يعلم أنه يستطيع ، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا ؟ وقيل : يستطيع بمعنى يطيع ، يقال : أطاع ، واستطاع ، بمعنى واحد ، كقوله : أجاب واستجاب ، معناه : هل يعطيك ربك بإباحة سؤالك ؟ وفي الآثار : من أطاع الله أطاعه الله ، وأجرى بعضهم على الظاهر ، فقالوا : غلط القوم ، وقالوا قبل استحكام المعرفة ، وكانوا بشرا ، فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط ، استعظاماً لقولهم : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } أي : لا تشكوا في قدرته .
قوله تعالى : { أن ينزل علينا مائدة من السماء } ، المائدة الخوان الذي عليه الطعام ، وهي فاعلة ، من : ماده يميده إذا أعطاه وأطعمه ، كقوله ماره يميره ، وامتار : افتعل منه ، والمائدة هي الطعمة للآكلين ، وسمي الطعام ، أيضاً مائدة على الجواز ، لأنه يؤكل على المائدة ، وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين ، أي تميل . وقال أهل البصرة : فاعلة ، بمعنى المفعولة ، يعني ميد بالآكلين إليها ، كقوله تعالى { عيشة راضية } أي : مرضية .
قوله تعالى : { قال } ، عيسى عليه السلام مجيباً لهم : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ، فلا تشكوا في قدرته .
وقيل : اتقوا الله أن تسألوه شيئاً لم يسأله الأمم قبلكم ، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان .
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } أي : مائدة فيها طعام ، وهذا ليس منهم عن شك في قدرة الله ، واستطاعته على ذلك . وإنما ذلك من باب العرض والأدب منهم .
ولما كان سؤال آيات الاقتراح منافيا للانقياد للحق ، وكان هذا الكلام الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك ، وعظهم عيسى عليه السلام فقال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإن المؤمن يحمله ما معه من الإيمان على ملازمة التقوى ، وأن ينقاد لأمر الله ، ولا يطلب من آيات الاقتراح التي لا يدري ما يكون بعدها شيئا .
هذه قصة المائدة ، وإليها تنسب السورة فيقال : " سورة المائدة " . وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى ، عليه السلام ، لما أجاب دعاءه بنزولها ، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة .
وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة{[10528]} ليست مذكورة في الإنجيل ، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين ، فالله أعلم .
فقوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } وهم أتباع عيسى{[10529]} عليه السلام : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هذه قراءة كثيرين ، وقرأ آخرون : " هل تَسْتَطيع رَبَّك " أي : هل تستطيع أن تسأل ربك { أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } .
والمائدة هي : الخوان عليه طعام . وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم{[10530]} فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ، ويتقوون بها على العبادة .
قال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : فأجابهم المسيح ، عليه السلام ، قائلا لهم : اتقوا الله ، ولا تسألوا هذا ، فعساه أن يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ قَالَ اتّقُواْ اللّهَ إِن كُنْتُم مّؤْمِنِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : واذكر يا عيسى أيضا نعمتي عليك ، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قالوا لعيسى ابن مريم : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " ف «إذ » الثانية من صلة «أوحيت » .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " يَسْتَطِيعُ رَبّكَ " فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين : «هَلْ تَسْتَطِييِعُ » بالتاء «رَبّكَ » بالنصب ، بمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك ، وهل تستطيع أن تدعو ربك أو هل تستطيع وترى أن تدعوه ؟ وقالوا : لم يكن الحواريون شاكّين أن الله تعالى ذكره قادر أن ينزل عليهم ذلك ، وإنما قالوا لعيسى : هل تستطيع أنت ذلك ؟
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قالت عائشة : كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة ، ولكن قالوا : يا عيسى ، هل تستطيع ربّك ؟
حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة ، عن حيان بن مخارق ، عن سعيد بن جبير أنه قرأها كذلك : «هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبّكَ » وقال : تستطيع أن تسأل ربك ؟ وقال : ألا ترى أنهم مؤمنون ؟
وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والعراق : هَلْ يَسْتَطِيعُ بالياء رَبّكَ بمعنى : أن ينزّل علينا ربّك ، كما يقول الرجل لصاحبه : أتستطيع أن تنهض معنا في كذا ؟ وهو يعلم أنه يستطيع ، ولكنه إنما يريد : أتنهض معنا فيه ؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك : هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزّل علينا ؟
وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ ذلك : هَلْ يَسْتَطِيعُ بالياء رَبّكَ برفع الربّ ، بمعنى : هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه ؟
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب لما بينا قبل من أن قوله : " إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ " من صلة «إذ أوحيت » ، وأن معنى الكلام : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي إذْ قالَ الحَوَارِيّونَ يا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ . فبين إذ كان ذلك كذلك ، أن الله تعالى ذكره قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه ، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قيلهم ذلك ، والإقرار لله بالقدرة على كلّ شيء ، وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار . وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاما منه لما قالوا : " اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " ففي استتابة الله إياهم ، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك ، واستعظام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم ، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع الربّ إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى لو كانوا قالوا له : هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء ؟ أن تستكبر هذا الاستكبار .
فإن ظنّ ظانّ أن قولهم ذلك له إنما هو استعظام منهم ، لأن ذلك منهم كان مسألة آية ، فإن الاية إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذّبا ، ليتقرّر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها ، كما كانت مسألة قريش نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحوّل لهم الصفا ذهبا ويفجّر فجاج مكة أنهارا من سأله من مشركي قومه ، وكما كانت مسألة صالح الناقة من مكذّبي قومه ، ومسألة شعيب أن يسقط كِسْفا من السماء من كفار من أرسل إليهم . وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزّل عليهم مائدة من السماء ، على هذا الوجه كانت مسألتهم ، فقد أحلهم الذين قرأوا ذلك بالتاء ونصب الربّ محلاّ أعظم من المحلّ الذي ظنوا أنهم نزّهوا ربهم عنه ، أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبيّ مبعوث ورسول مرسل ، وأن الله تعالى على ما سألوا من ذلك قادر . فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك ، وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه ، إذا كان فقيرا أن يسأل له ربه أن يغنيه ، وإن عرضت به حاجة أن يسأل له ربه أن يقضيها ، فأنّى ذلك من مسألة الاية في شيء ؟ بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه ، فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له . وخبر الله تعالى عن القوم ينبئ بخلاف ذلك ، وذلك أنهم قالوا لعيسى ، إذ قال لهم : " اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أنْ نَأكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا " . فقد أنبأ هذا من قيلهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم ، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته ، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالطوا قلوبهم مرض وشكّ في دينهم وتصديق رسولهم ، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن عباس ، أنه كان يحدّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم تسألوه فيعطيَكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما " فَهَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " قال عيسى " اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا نُرِيدُ أنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمِئَنّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ . . . إلى قوله : لا أعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالِميَن " قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " قالوا : هل يطيعك ربك إن سألته ؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم فأكلوا منها .
وأما المائدة فإنها الفاعلة ، من ماد فلان القوم يَمِيدُهم مَيْدا : إذا أطعمهم ومارهم ومنه قول رؤبة :
نُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفِينَ الأنْدادْ ***إلى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتادْ
يعني بقوله : الممتاد : المُسْتَعْطَى ، فالمائدة المطعِمة سميت «الخِوانَ » بذلك ، لأنها تطعم الآكل مما عليها . والمائد : المدارُ به في البحر ، يقال : ماد يَمِيدُ مَيْدا .
وأما قوله : " قالَ اتّقُوا اللّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " فإنه يعني : قال عيسى للحواريين القائلين له : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " : راقبوا الله أيها القوم ، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا ، فإن الله لا يعجزه شيء أراده ، وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به ، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين يقول : إن كنتم مصدقيّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم : " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السّماءِ " .
وقوله تعالى : { إذ قال الحواريون } . . الآية اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة ، مضمن الاعتراض إخبار محمد عليه السلام وأمته بنازلة الحواريين في المائدة . إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها يقتدى بمحاسنه ويزدجر عم ينقد منه من طلب الآيات ونحوه ، وقرأ جمهور الناس «هل يستطيع ربُّك » بالياء ورفع الباء من ربك . وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي ، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر ، لكنه بمعنى : هل يفعل تعالى هذا وهل تقع منه إجابة إليه ؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله ؟ أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير «هل تستطيع ربَّك » بالتاء ونصب الباء من ربك . المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك ؟ قالت عائشة رضي الله عنها : كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك{[4795]} .
قال القاضي ابو محمد : نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على ما قد تبين آنفاً . وبمثل هذه القراءة قرأ الكسائي وزاد أنه أدغم اللام في التاء . قال أبو علي : وذلك حسن ، و { أن } في قوله { أن ينزل } على هذه القراءة متعلقة بالمصدر المحذوف الذي هو سؤال . و { أن } مفعول به إذ هو في حكم المذكور في اللفظ وإن كان محذوفاً منه إذ لا يتم المعنى إلا به .
قال القاضي أبو محمد : وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل يستطيع أن يكون المعنى هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده ونحوه هذا ، فيردك المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ ، و «المائدة » فاعلة من ماد إذا تحرك ، هذا قول الزجّاج أو من ماد إذا ماد وأطعم كما قال رؤبة :
تهدى رؤوس المترفين الأنداد *** إلى أمير المؤمنين الممتاد{[4796]}
أي الذي يستطعم ويمتاد منه ، وقول عيسى عليه السلام { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } تقرير لهم كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً ، ولا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وهذا هو ظاهر الآية ، وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويظهر من قوله عليه السلام { اتقوا الله } إنكار لقولهم ذلك ، وذلك على قراءة من قرأ «يستطيع » بالياء من أسفل متوجه على أمرين : أحدهما : بشاعة اللفظ ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت ، وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته .
جملة : { إذ قال الحواريّون } يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلّم الله به عيسى يومَ يجمع الرسل ، فيكون { إذ } ظرفا متعلّقاً بفعل { قالوا آمنّا } [ المائدة : 111 ] فيكون ممّا يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أنّ سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر { قالوا آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون } [ المائدة : 111 ] ؛ فإنّ قولهم { آمنّا } قد يتكرّر منهم بمناسبات ، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى ، أو عندما يشاهدون آيات على يد عيسى ، أو يقولونه لإعادة استحضار الإيمان شأن الصدّيقيين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كلّ معاودة . آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون . وأمّا ما قرّر به « الكشاف » ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به .
ويجوز أن يكون جملة : { إذ قال الحواريّون } ابتدائية بتقدير : اذكر ، على أسلوب قوله تعالى { إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً } في سورة النمل ( 7 ) ، فيكون الكلام تخلّصاً إلى ذكر قصّة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريّين في قوله تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة : 111 ] وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أنّ ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له ، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشّم منه كلفة أن يطيل خطابه طلباً لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود .
وجرى قوله تعالى : { هل يستطيع ربّك } على طريقة عربية في العرض والدعاء ، يقولون للمستطيع لأمر : هل تستطيع كذا ، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه ، وذلك كناية فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول ، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه ، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول ، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته . ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني « أنّ رجلاً قال لعبد الله بن زيد : أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ » . فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك . فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظاً من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال ، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص . وليس شكّاً في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس . فإنّ النفوس بالمحسوس آنس ، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله { ربّ أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] شكّاً في الحال . وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية ، والواحدي ، والبغوي خلافاً لما في « الكشاف » .
وقرأ الجمهور : { يستطيع } بياء الغيبة ورفع { ربُّك } .
وقرأه الكسائي { هل تَستطيع ربَّك } بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة من قوله { ربّك } على أنّ { ربّك } مفعول به ، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك ، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة ، أي إجابة السؤال . وقيل : هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك ، فأقيم المضاف إليه مُقام المضاف في إعرابه . وفي رواية الطبري عن عائشة قالت : كان الحواريّون أعلم بالله عزّ وجل من أن يقولوا : هل يستطيع ربّك ، ولكن قالوا : هل تستطيع ربّك . وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي { هل تستطيع ربّك } .
واسم { مائدة } هو الخوان الموضوع عليه طعام ، فهو اسم لمعنى مركّب يدلّ على طعامٍ وما يوضع عليه . والخِوان بكسر الخاء وضمّها تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل ، اتّفقوا على أنّه معرّب . قال الجواليقي : هو أعجمي . وفي حديث قتادة عن أنس قال : ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قطّ ، ولا في سُكُرُّجَة ، قال قتادة : قلت لأنس : فعلاَم كنتم تأكلون قال : على السُّفَر ، وقيل : المائدة اسم الطعام ، وإن لم يكن في وعاء ولا على خِوان . وجزم بذلك بعض المحقّقين من أهل اللغة ، ولعلّه مجاز مرسل بعلاقة المحلّ . وذكر القرطبي أنّه لم تكن للعرب موائد إنّما كانت لهم السفرة . وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضبّ : لو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله ، إنّما يعني به الطعام الموضوع على سفرة . واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به . وسمّيت سفرة لأنّها يتّخذها المسافر . وإنّما سأل الحواريّون كون المائدة منزّلة من السماء لأنّهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون ممّا صنع في العالم الأرضي فتعيّن أن تكون من عالم علوي .
وقول عيسى حين أجابهم { اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين } أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان ، ولذلك جاء بِ { إن } المفيدة للشكّ في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شكّ في صدق رسولهم ، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به ، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله : { قال أو لم تؤمن } ، أي ألم تكن غنيّاً عن طلب الدليل المحسوس . فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه . وقيل : نهاهم عن طلب المعجزات ، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة .