25- ومن لم يستطع منكم نكاح الحرائر المؤمنات فله أن يتجاوزهن إلى ما يستطيع من المملوكات المؤمنات ، والله أعلم بحقيقة إيمانكم وإخلاصكم ، ولا تستنكفوا من نكاحهن ، فأنتم وهن سواء في الدين ، فتزوجوهن بإذن أصحابهن وأدوا إليهن مهورهن التي تفرضونها لهن حسب المعهود بينكم في حسن التعامل وتوفية الحق ، واختاروهن عفيفات ، فلا تختاروا زانية معلنة ولا خليلة ، فإن أتين الزنا بعد زواجهن فعقوبتهن نصف عقوبة الحرة . وإباحة نكاح المملوكات عند عدم القدرة جائز لمن خاف منكم المشقة المفضية إلى الزنا وصبركم عن نكاح المملوكات مع العفة خير لكم ، والله كثير المغفرة ، عظيم الرحمة .
قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً } . أي : فضلاً وسعة .
قوله تعالى : { أن ينكح المحصنات المؤمنات } ، الحرائر .
قرأ الكسائي { المحصنات } بكسر الصاد حيث كان إلا قوله في هذه السورة { والمحصنات من النساء } . وقرأ الآخرون بفتح جميعها .
قوله تعالى : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم } . إمائكم .
قوله تعالى : { المؤمنات } . أي : من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة فليتزوج الأمة المؤمنة ، وفيه دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين : أحدهما :
أن لا يجد مهر حرة ، والثاني أن يكون خائفاً على نفسه من العنت وهو الزنا ، لقوله تعالى في آخر الآية : { ذلك لمن خشي العنت منكم } ، وهو قول جابر رضي الله عنه وبه قال طاووس وعمرو وابن دينار ، وإليه ذهب مالك والشافعي . وجوز أصحاب الرأي للحر نكاح الأمة إلا أن تكون في نكاحه حرة ، أما العبد : فيجوز له نكاح الأمة ، وإن كان في نكاحه حرة أو أمة ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز إذا كانت تحته حرة ، كما يقول في الحر ، وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لأنه قال : { فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } . جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ، وقال في موضع آخر : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } . [ المائدة :5 ] أي : الحرائر ، جوز نكاح الكتابية ، بشرط أن تكون حرة ، وجوز أصحاب الرأي للمسلم نكاح الأمة الكتابية ، وبالاتفاق يجوز وطؤها بملك اليمين .
قوله تعالى : { والله أعلم بإيمانكم } . أي : لا تعترضوا للباطن في الإيمان ، وخذوا بالظاهر فإن الله أعلم بإيمانكم .
قوله تعالى : { بعضكم من بعض } ، قيل : بعضكم إخوة لبعض ، وقيل : كلكم من نفس واحدة ، فلا تستنكفوا من نكاح الإماء .
قوله تعالى : { فانكحوهن } ، يعني : الإماء .
قوله تعالى : { بإذن أهلهن } ، أي : مواليهن .
قوله تعالى : { وآتوهن أجورهن } ، مهورهن .
قوله تعالى : { بالمعروف } . من غير مطل وضرار .
قوله تعالى : { محصنات } . عفائف بالنكاح .
قوله تعالى : { غير مسافحات } ، أي : غير زانيات .
قوله تعالى : { ولا متخذات أخدان } ، أي أحباب . تزنون بهن في السر ، قال الحسن : المسافحة هي أن كل من دعاها تبعته ، وذات خدن أي : تختص بواحد لا تزني إلا معه ، والعرب كانت تحرم الأولى وتجوز الثانية .
قوله تعالى : { فإذا أحصن } ، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الألف والصاد ، أي :حفظن فروجهن ، وقال ابن مسعود : أسلمن ، وقرأ الآخرون : { أحصن } . بضم الألف وكسر الصاد أي تزوجن .
قوله تعالى : { فإن أتين بفاحشة } يعني : الزنا .
قوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات } ، أي : ما على الحرائر الأبكار إذا زنين .
قوله تعالى : { من العذاب } . يعني : الحد ، فيجلد الرقيق إذا زنى خمسين جلدة ، وهل يغرب ؟ فيه قولان : فإن قلنا يغرب فيغرب نصف سنة على القول الأصح ، ولا رجم على العبيد .
روي عن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال : أمرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فئة من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإماء ، خمسين في الزنا . ولا فرق في حد المملوك بين من تزوج أو لم يتزوج عند أكثر أهل العلم ، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى ، لأن الله تعالى قال : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات } . وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال طاووس . ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلام ، وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه ، بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصناً بالتزويج فلا رجم عليه ، إنما حده الجلد بخلاف الحر ، فحد الأمة ثابت بهذه الآية ، وبيان أنها تجلد في الحد هو :
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني الليث عن سعيد يعني المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ، ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فيجلدها الحد ، ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر .
قوله تعالى : { ذلك } ، يعني : نكاح الأمة عند عدم الطول .
قوله تعالى : { لمن خشي العنت منكم } ، ، يعني : الزنا ، يريد المشقة لغلبة الشهوة .
قوله تعالى : { وأن تصبروا } ، عن نكاح الإماء متعففين .
قوله تعالى : { خير لكم } ، لئلا يخلق الولد رقيقاً . { والله غفور رحيم } .
{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ثم قال تعالى { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا } الآية .
أي : ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات أي : الحرائر المؤمنات وخاف على نفسه العَنَت أي : الزنا والمشقة الكثيرة ، فيجوز له نكاح الإماء المملوكات المؤمنات . وهذا بحسب ما يظهر ، وإلا فالله أعلم بالمؤمن الصادق من غيره ، فأمور الدنيا مبنية على ظواهر الأمور ، وأحكام الآخرة مبنية على ما في البواطن .
{ فَانْكِحُوهُنَّ } أي : المملوكات { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } أي : سيدهن واحدا أو متعددا .
{ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : ولو كن إماء ، فإنه كما يجب المهر للحرة فكذلك يجب للأمة . ولكن لا يجوز نكاح الإماء إلا إذا كن { مُحْصَنَاتٍ } أي : عفيفات عن الزنا { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } أي : زانيات علانية . { وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } أي : أخلاء في السر .
فالحاصل أنه لا يجوز للحر المسلم نكاح أمة إلا بأربعة شروط ذكرها الله : الإيمان بهن والعفة ظاهرا وباطنا ، وعدم استطاعة طول الحرة ، وخوف العنت ، فإذا تمت هذه الشروط جاز له نكاحهن .
ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الأولاد للرق ، ولما فيه من الدناءة والعيب . وهذا إذا أمكن الصبر ، فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إلا بنكاحهن وجب ذلك . ولهذا قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن أو أسلمن أي : الإماء { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ } أي : الحرائر { مِنَ الْعَذَابِ }
وذلك الذي يمكن تنصيفه وهو : الجَلد فيكون عليهن خمسون جَلدة . وأما الرجم فليس على الإماء رجم لأنه لا يتنصف ، فعلى القول الأول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد ، إنما عليهن تعزير يردعهن عن فعل الفاحشة .
وعلى القول الثاني : إن الإماء غير المسلمات ، إذا فعلن فاحشة أيضا عزرن .
وختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين " الغفور والرحيم " لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد وكرمًا وإحسانًا إليهم فلم يضيق عليهم ، بل وسع غاية السعة .
ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات ، يغفر الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث . وحكم العبد الذكر في الحد المذكور حكم الأمة لعدم الفارق بينهما .
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها ، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة ، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة ، وخشي المشقة ؛ أو خشي الفتنة :
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات - والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض - فانكحوهن بإذن أهلهن ؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف - محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان - فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم ) .
إن هذا الدين يتعامل مع " الإنسان " في حدود فطرته ، وفي حدود طاقته . وفي حدود واقعه ، وفي حدود حاجاته الحقيقية . . وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية ، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد . . إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه . فواقع الجاهلية هابط ، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع ! إنما هو يعتبر واقع " الإنسان " في فطرته وحقيقته . . واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع . . فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية . . أية جاهلية . . فمن الواقع كذلك مقدرته - بما ركب في فطرته - على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضا ! والله - سبحانه - هو الذي يعلم " واقع الإنسان " كله ، لأنه يعلم " حقيقة الإنسان " كلها . هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه . . ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ؟
وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب ؛ ريثما يتم تدبير أمره . . إما بإطلاق سراحه امتنانا عليه بلا مقابل . وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين ، أو مقابل مال - حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين - وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين - كما جاء في الآية السابقة - لمن هن ملك يمينه . لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا . مباشرتهن إما بزواج منهن - إن كن مؤمنات - أو بغير زواج ، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب ، بحيضة واحدة . . ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج . لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر ؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك !
وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح :
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول - أي القدرة على نكاح الحرة - ذلك أن الحرة تحصنها الحرية ؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها ، وكيف تصون حرمة زوجها . فهن( محصنات ) هنا - لا بمعنى متزوجات ، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات - ولكن بمعنى حرائر ، محصنات بالحرية ؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة ، وما توفره للحياة من ضمانات . فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها ، وهي تخشى العار ، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة ، فهي تأبى السفاح والانحدار . ولا شيء من هذا كله لغير الحرة . ومن ثم فهي ليست محصنة ، وحتى إذا تزوجت ، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها ، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة . فضلا على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه . . مضافا إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر . فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور . . وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية . .
لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر ، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر . وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول . مع المشقة في الانتظار .
ولكن إذا وجدت المشقة ، وخاف الرجال العنت . عنت المشقة أو عنت الفتنة . فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة . فهو يحل - إذن - الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين .
ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر . وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر :
( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
وثانيا : يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن . فهذا حقهن الخالص .
وثالثا : يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق : وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح . لا مخادنة ولا سفاح : والمخادنة أن تكون لواحد . والسفاح أن تكون لكل من أراد . محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان .
وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة - رضي الله عنها - كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعا من البغاء . وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر ، لحساب سادتهن . وكان لعبدالله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه - أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل ! وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها ، ويطهرهم ويزكيهم ، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك !
وكذلك جعل الإسلام طريقا واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء " الفتيات " ، هي طريق النكاح ، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة ، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم . وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقا مفروضا ، لا لتكون أجرا في مخادنة أو سفاح . . وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية ، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية ! والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان ، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان ، لا راية الإسلام !
ولكن - قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية - ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي ، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عندما واجهه المجتمع الإسلامي . إنه لا يسمي الرقيقات : رقيقات . ولا جواري . ولا إماء . إنما يسميهن " فتيات " .
( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني - كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك - إنما يذكر بالأصل الواحد ، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط :
( والله أعلم بإيمانكم ، بعضكم من بعض ) . .
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة . إنما يسميهم " أهلا " :
وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها . فمهرها إنما هو حق لها . لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له . فهذا ليس كسبا ، إنما هو حق ارتباطها برجل :
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن من المال ، إنما هو النكاح والإحصان :
( محصنات غير مسافحات ولامتخذات أخدان ) . .
وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات ، حتى وهن في هذا الوضع ، الذي اقتضته ملابسات وقتية ، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية .
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائدا في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق ، وحرمانه حق الانتساب إلى " إنسانية " السادة ! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه " الإنسانية " . . يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليه كرامة " الإنسان " وهو يرعاها في جميع الأحوال ، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي ، كوضع الاسترقاق .
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا ، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة . وكلنا يعرف حكاية " الترفيه " أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان ! وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال !
ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج ، واضعا في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة ، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة ، مقدرا أن الرق يقلل من الحصانة النفسية ، لأنه يغض من الشعور بالكرامة ، والشعور بشرف العائلة - وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة - كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية ، واختلافها بين الحرة والأمة . وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحا في عرضها ، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها ! يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة - بعد إحصانها - نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها .
( فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب )
ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة . وهي عقوبة الجلد . ولا يكون في عقوبة الرجم . إذ لا يمكن قسمتها ! فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر . أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء . هل تكون هذا الحد نفسه - وهو نصف ما على الحرة البكر - ويتولاه الإمام ؟ أم تكون تأديبا يتولاه سيدها ودون النصف من الحد ؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه .
أما نحن - في ظلال القرآن - فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم ، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف .
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره - كما قلنا - واقع الناس ، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع !
وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات . تجعل الواحدة - ولو كانت متزوجة - أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة . فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة . ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات ، فيعفيها نهائيا من العقوبة .
قوام وسط . يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات .
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة ، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الارض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية ؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف ، وتقسو على الضعاف .
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة . فكان يقول : " ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء ، فعقوبته - إن كان من بيئة كريمة - مصادرة نصف ماله . وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض "
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه " منو " وهو القانون المعروف باسم " منوشاستر " أن البرهمي إن استحق القتل ، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه . أما غيره فيقتل ! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده . . . الخ
وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد .
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه ؛ ولياخذ الجاني بالعقوبة ، مراعيا جميع اعتبارات " الواقع " . وليجعل حد الامة - بعد الإحصان - نصف حد الحرة قبل الإحصان . فلا يترخص فيعفيها من العقوبة ، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف . فهذا خلاف الواقع . ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة - وواقعها يختلف عن واقع الحرة . ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف ! ! !
وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية ، وتغفر للأشراف " البيض " ما لا تغفره للضعاف " الملونين " والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت . والإسلام هو الإسلام . . حيث كان . .
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة . فمن استطاع الصبر - في غير مشقة ولا فتنة - فهو خير . لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء :
( ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم )
إن الله لا يريد أن يعنت عباده ، ولا أن يشق عليهم ، ولا أن يوقعهم في الفتنة . وإذا كان دينه الذي اختاره لهم ، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي ، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية ، وفي حدود طاقتهم الكامنة ، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك . . ومن ثم فهو منهج ميسر ، يلحظ الفطرة ، ويعرف الحاجة ، ويقدر الضرورة . كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط ، ولا يقف أمامهم - وهم غارقون في الوحل - يبارك هبوطهم ، ويمجد سقوطهم . أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي ، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء !
وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر ؛ فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج ، وان تقوم عليهن البيوت ، وأن ينجبن كرام الأبناء ، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشى ء ، وأن يحفظن فراش الأزواج . . فأما إذا خشي العنت : عنت المشقة عند الصبر ، وعنت الفتنة التي لا تقاوم ، فهناك الرخصة ، والمحاولة لرفع مستوى الإماء ، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن . فهن( فتياتكم ) وهم( أهلهن ) . والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان . والله أعلم بالإيمان . ولهن مهورهن فريضة . وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح . . وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة . . ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف :
يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر . ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء . . وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك ، فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة ، ووراء كل اضطرار .
فَمِن مَّا مَلَكَتَ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمًُ المُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيْمانِكُم بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ } قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك بن أنس في المدونة : الطول هنا السعة في المال ، وقال ربيعة وإبراهيم النخعي : الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة ، ثم يكون قوله تعالى : { لمن خشي العنت } على هذا التأويل بياناً في صفة عدم الجلد وعلى التأويل الآخر يكون تزوج الأمة معلقاً بشرطين : عدم السعة في المال وخوف العنت ، فلا يصح إلا باجتماعهما ، وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد أن الحر لا يتزوج الأمة على حال إلا ألا يجد سعة في المال لمهر حرة ، وأن يخشى العنت مع ذلك ، وقال مالك في كتاب محمد : إذا وجد المهر ولكنه لا يقدر على النفقة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة . وقال أصبغ{[3947]} : ذلك جائز ، إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه ، وقال مطرف{[3948]} ، وابن الماجشون : لا يحل للحر أن ينكح أمة ولا يقر إن وقع ، إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى ، وقاله أصبغ ، قال : وقد كان ابن القاسم يذكر أنه سمع مالكاً يقول : نكاح الأمة حلال في كتاب الله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وهو في المدونة ، وقال سحنون في غيرها : ذلك في قوله تعالى : { وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }{[3949]} [ النور : 32 ] وقاله ابن مزين .
قال القاضي أبو محمد : وليس في الآية ما يلزم منه تحليل الأمة لحر دون الشرطين . وقال مالك في المدونة : ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت ، وقال في كتاب محمد : ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول . قال الشيخ أبو الحسن اللخمي : وهو ظاهر القرآن ، وروي نحو هذا عن ابن حبيب ، وقاله أبو حنيفة : فمقتضى هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح أمة ، وإن عدم السعة وخاف العنت ، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة ، وقال به الطبري واحتج له ، و { طولاً } - يصح في إعرابه أن يكون مفعولاً بالاستطاعة ، و { أن ينكح } في موضع نصب بدل من قوله { طولاً } أو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح{[3950]} ، وفي هذا نظر ، ويصح أن يكون { طولاً } نصباً على المصدر والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب ، و { أن ينكح } على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر{[3951]} تقول : طال الرجل طولاً بفتح الطاء إذا تفضل ووجد واتسع عرفه{[3952]} ، و { وطولاً } بضم الطاء في ضد القصر { والمحصنات } في هذا الموضع الحرائر يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء ، وقالت فرقة : معناه العفائف وهو ضعيف لأن الإماء يقعن تحته وقد تقدم الذكر للقراءة في { المحصنات } و { المؤمنات } صفة فأما من يقول في الرجل يجد طولاً لحرة كتابية لا لمؤمنة : إنه يمتنع عن نكاح الإماء ، فهي صفة غير مشترطة ، وإنما جاءت لأنها مقصد النكاح ، إذ الأمة مؤمنة ، وهذا المذهب المالكي ، نص عليه ابن الماجشون في الواضحة . ومن قال في الرجل لا يجد طولاً إلا الكتابية : إنه يتزوج الأمة إن شاء ، فصفة { المؤمنات } عنده في الآية مشترطة في إباحة نكاح الإماء والمسألة مختلف فيها حسبما ذكرناه ، و { ما } في قوله : { فمن ما ملكت أيمانكم } يصح أن تكون مصدرية تقديره : فمن ملك أيمانكم ويصح أن يراد بها النوع المملوك ، فهي واقعة عليه{[3953]} .
والفتاة - وإن كانت واقعة في اللغة على الشابة أية كانت ، فعرفها في الإماء ، وفتى - كذلك وهذه المخاطبات بالكاف والميم عامة ، أي : منكم الناكحون ومنكم المالكون ، لأن الرجل ينكح فتاة نفسه وهذا التوسع في اللغة كثير و { المؤمنات } في هذا الموضع صفة مشترطة عند مالك وجمهور أصحابه ، لأنهم يقولون : لا يجوز زواج أمة غير مسلمة بوجه ، وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي : نكاح الأمة الكتابية جائز ، وقوله { المؤمنات } على جهة الوجه الفاضل ، واحتجوا بالقياس على الحرائر ، وذلك أنه لما لم يمنع قوله { المؤمنات } في الحرائر من نكاح الكتابيات الحرائر ، فكذلك لا يمنع قوله { المؤمنات } في الإماء من نكاح الكتابيات الإماء ، وقال أشهب في المدونة : جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية .
قال القاضي أبو محمد : فالمنع عنده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معاً ، وقوله تعالى : { والله أعلم بإيمانكم } معناه : أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها فإذا كانت الفتاة ظاهرها الإيمان فنكاحها صحيح ، وعلم باطنها إلى الله ، وإنما هذا لئلا يستريب متحير بإيمان بعض الإماء ، كالقريبة عهد بالسباء ، أو كالخرساء وما أشبهه . وفي اللفظ أيضاً تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض من الحرائر ، أي : فلا تعجبوا بمعنى الحرية وقوله : { بعضكم من بعض } قالت طائفة : هو رفع على الابتداء والخبر ، والمقصد بهذا الكلام ، أي{[3954]} إنكم أيها الناس سواء بنو الحرائر وبنو الإماء ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، فهذه توطئة لنفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة ، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها ، أعلموا مع ذلك أن ذلك التهجين لا معنى له{[3955]} . وقال الطبري : هو رفع بفعل تقديره : فلينكح مما ملكت «أيمانكم بعضكم من بعض » فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا قول ضعيف .
{ فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قوله : { بإذن أهلهن } معناه : بولاية أربابهن المالكين ، وقوله : { وآتوهن آجورهن } يعني مهورهن قاله ابن زيد وغيره ، و { بالمعروف } معناه : بالشرع والسنة ، وهذايقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة وهو مذهب مالك قال في كتاب الرهون : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز ، قال سحنون في كتاب{[3956]} " المدونة " : كيف هذا وهو لا يبوئه معها بيتاً ؟ وقال بعض الفقهاء : معنى ما في المدونة : أنه بشرط التبوئة ، فعلى هذا لا يكون قول سحنون خلافاً{[3957]} و { محصنات } وما بعده حال ، فالظاهر أنه بمعنى عفيفات إذ غير ذلك من وجوه الإحصان بعيد إلا_ مسلمات_ فإنه يقرب ، والعامل في الحال { فانكحوهن } ويحتمل أن يكون { فانكحوهن بإذن أهلهن } كلاماً تاماً ، ثم استأنف «وآتوهن أجورهن مزوجات غير مسافحات » فيكون العامل { وآتوهن } ، ويكون معنى الإحصان : التزويج ، و «المسافحات » من الزواني : المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا ، «ومتخذات الأخذان » : هن المتسترات اللواتي يصحبن واحداً واحداً ويزنين خفية ، وهذان كانا نوعين في زنا الجاهلية ، قاله ابن عباس وعامر الشعبي والضحاك وغيرهم ، وأيضاً فهو تقسيم عقلي لا يعطي الوجود إلا أن تكون الزانية : إما لا ترد يد لامس ، وإما أن تختص من تقتصر عليه{[3958]} .
وقوله تعالى : { فإذا أحصنَّ } الآية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «أُحصن » على بناء الفعل للمفعول ، وقرأ حمزة والكسائي على بناء الفعل للفاعل ، واختلف عن عاصم ، فوجه الكلام أن تكون القراءة الأولى بالتزوج ، والثانية بالإسلام أو غيره مما هو من فعلهن ، ولكن يدخل كل معنى منهما على الآخر ، واختلف المتأولون فيما هو الإحصان هنا ، فقال الجمهور : هو الإسلام ، فإذا زنت الأمة المسلمة حدت نصف حد الحرة - وإسلامها هو إحصانها الذي في الآية ، وقالت فرقة : إحصانها الذي في الآية هو التزويج لحر ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها ، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة ، وقالت فرقة : الإحصان - في الآية التزوج ، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة بالسنة ، وهي الحديث الصحيح في مسلم والبخاري ، أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ فأوجب عليها الحد{[3959]} .
قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الحديث والسؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا من القرآن أن معنى { أحصنَّ } تزوجن ، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يقتضي تقرير المعنى ومن أراد أن يضعف قول من قال : إنه الإسلام بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت وتقررت فذلك غير لازم{[3960]} ، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد ، فإذا كن على هذه الحالة المتقدمة من الإيمان { فإن أتين بفاحشة فعليهن } ، وذلك سائغ صحيح ، والفاحشة هنا : الزنى بقرينة إلزام الحد ، و { المحصنات } في هذه الآية الحرائر ، إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل ، والرجم لا يتنصف ، فلم يرد في الآية بإجماع ، ثم اختلف ، فقال ابن عباس والجمهور : على الأمة نصف المائة لا غير ذلك{[3961]} ، وقال الطبري وجماعة من التابعين : على الأمة نصف المائة ونصف المدة ، وهي نفي ستة أشهر والإشارة بذلك إلى نكاح الأمة ، و { العنت } في اللغة : المشقة وقالت طائفة : المقصد به ها هنا الزنا ، قاله مجاهد : وقال ابن عباس : ما ازلحف{[3962]} ناكح الأمة عن الزنا إلا قريباً ، قال : و { العنت } الزنا ، وقاله عطية العوفي والضحاك ، وقالت طائفة : الإثم{[3963]} ، وقالت طائفة : الحد .
قال القاضي أبو محمد : والآية تحتمل ذلك كله ، وكل ما يعنت عاجلاً وآجلاً ، وقوله تعالى : { وأن تصبروا خير لكم } يعني عن نكاح - الإماء - قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي وابن عباس رضي الله عنهما ، وهذا ندب إلى الترك ، وعلته ما يؤدي إليه نكاح الإماء من استرقاق الولد ومهنتهن{[3964]} ، وهذه الجملة ابتداء ، وخبر تقديره : وصبركم خير لكم { والله غفور }{[3965]} ، أي لمن فعل وتزوج .