{ وأنه تعالى جد ربنا } قرأ أهل الشام والكوفة غير أبي بكر عن عاصم : { وأنه تعالى } بفتح الهمزة وكذلك ما بعده إلى قوله : { وأنا منا المسلمون }( الجن-13 ) وقرأ الآخرون بكسرهن ، وفتح أبو جعفر منها { وأنه } وهو ما كان مردوداً إلى الوحي ، وكسر ما كان حكاية عن الجن . والاختيار كسر الكل لأنه من قول الجن لقومهم فهو معطوف على قوله : { فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً } وقالوا : { وأنه تعالى } من فتح رد على قوله : { فآمنا به } وآمنا بكل ذلك ، ففتح أن لوقوع الإيمان عليه . { جد ربنا } جلال ربنا وعظمته ، قاله مجاهد وعكرمة وقتادة . يقال : جد الرجل ، أي : عظم ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا ، أي : عظم قدره . وقال السدي : { جد ربنا } أي أمر ربنا . وقال الحسن : غنى ربنا . ومنه قيل للحظ ، جد ورجل مجدود . وقال ابن عباس : قدرة ربنا . قال الضحاك : فعله . وقال القرظي : آلاؤه ونعماؤه على خلقه . وقال الأخفش : علا ملك ربنا ، { ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً } قيل : تعالى جلاله وعظمته عن أن يتخذ صاحبةً أو ولداً .
{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } أي : تعالت عظمته وتقدست أسماؤه ، { مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } فعلموا من جد الله وعظمته ، ما دلهم على بطلان من يزعم أن له صاحبة أو ولدا ، لأن له العظمة والكمال{[1244]} في كل صفة كمال ، واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك ، لأنه يضاد كمال الغنى .
( وأنه تعالى جد ربنا ، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) . .
والجد : الحظ والنصيب . وهو القدر والمقام . وهو العظمة والسلطان . . وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام . والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله - سبحانه - وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة - أي زوجة - وولدا بنين أو بنات !
وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، جاءته من صهر مع الجن ! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه ، واستنكاف من هذا التصور أن يكون ! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون ! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين ! وكل تصور يشبه هذه التصورات ، ممن زعموا أن لله ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير !
وأنه تعالى جد ربنا قرأه ابن كثير والبصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول وكذا ما بعده إلا قوله وأن لو استقاموا وأن المساجد وأنه لما قام فإنها من جملة الموحى به ووافقهم نافع وأبو بكر إلا في قوله وأنه لما قام على أنه استئناف أو مقول وفتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار والمجرور في به كأنه قيل صدقنا وأنه تعالى جد ربنا أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقوله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا بيان لذلك وقرىء جدا على التمييز جد ربنا بالكسر أي صدق ربوبيته كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد .
هذا محكي عن كلام الجن ، قرأه الجمهور بكسر همزة { إنه } على اعتباره معطوفاً على قولهم : { إنَّا سمعنا قرآنا عجباً } [ الجن : 1 ] إذ يجب كسر همزة ( إنَّ ) إذا حكيت بالقول .
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء في قوله : { فآمنَّا به } [ الجن : 2 ] أي وآمنا بأنه تعالى جَد ربنا . وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل ، وجوزه الكوفيون ، على أن حرف الجر كثير حذفه مع ( أنّ ) فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على هذا التأويل .
قال في « الكشاف » : { أنه استمع } [ الجن : 1 ] بالفتح لأنه فاعل أوحي ( أي نائب الفاعل ) { وإنَّا سَمِعنا } بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم تحمل عليهما البواقي فما كان من الوحي فُتح وما كان من قول الجن كُسر ، وكُلّهن من قولهم ، إلاّ الثنتين الأخريين : { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] ، { وأنه لما قام عبد الله } [ الجن : 19 ] ومن فتح كُلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في { ءامنا به } [ الجن : 2 ] كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جَدّ ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي اهـ .
والتعالي : شدة العلوّ ، جعل شديد العلوّ كالمتكلف العلوّ لخروج علوّه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلُف .
والجَدّ : بفتح الجيم العظمة والجلال ، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله : { ما اتخذ صاحبة ولا ولَداً } ، لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها ، وكل ذلك من آثار الاحتياج ، والله تعالى الغني المطلق ، وتعالِي جَدّه بغناه المطلق ، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به ، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص .
وضمير { إنه } ضمير شأن وخبره جملة { تعالى جد ربنا .
وجملة { ما اتخذ صاحبة } إلى آخرها بَدل اشتمال من جملة { تعالى جد ربنا .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن .
والاقتصار في بيان تَعالِي جدِ الله على انتفاء الصاحبة عنه والولد ينبىء بأنه كان شائعاً في علم الجن ما كان يعتقده المشركون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وما اعتقاد المشركين إلاّ ناشىء عن تلقين الشيطان وهو من الجن ، ولأن ذلك مما سمعوه من القرآن مثل قوله تعالى : { سبحانه أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } في سورة الأنعام ( 101 ) .
وإعادة { لا } النافية مع المعطوف للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله لدفع توهم نفي المجموع .
وضمير الجماعة في قوله : { ربنا } عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره ، فعلى تقدير أنه من كلام الجن فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأنه تعالى جد ربنا} ارتفع ذكره وعظمته.
{ما اتخذ صاحبة} يعني امرأة {ولا ولدا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: آمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه وقُدرته.
وقال آخرون: عني بذلك جلال ربنا وذكره.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تعالى غنى ربنا.
وقال آخرون: عُنِي بذلك: ذِكْره.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: تعالت عظمة ربنا وقُدرته وسلطانه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن للجدّ في كلام العرب معنيين: أحدهما الجَدّ الذي هو أبو الأب، أو أبو الأم، وذلك غير جائز أن يوصف به هؤلاء النفر الذين وصفهم الله بهذه الصفة، وذلك أنهم قد قالوا: فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، ومن وصف الله بأن له ولدا أو جدّا هو أبو أب أو أبو أمّ، فلا شكّ أنه من المشركين.
والمعنى الآخر: الجَدّ الذي بمعنى الحظّ يقال: فلان ذو جدّ في هذا الأمر إذا كان له حظّ فيه، وهو الذي يُقال له بالفارسية «البَخْت»، وهذا المعنى الذي قصده هؤلاء النفر من الجنّ بقيلهم: وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا إن شاء الله. وإنما عَنَوا أن حظوته من المُلك والسلطان والقدرة والعظمة عالية، فلا يكون له صاحبة ولا ولد، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطرّه الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوِقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجن: علا مُلكُ ربنا وسُلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وِقاع شيء يكون منه ولد. وقد بين عن صحة ما قلنا في ذلك إخبار الله عنهم أنهم إنما نزّهوا الله عن اتخاذ الصاحبة والولد بقوله: "وأنّهُ تَعالى جَدّ رَبّنا ما اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدا".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الحق ألا نتكلف تفسير قوله: {جد ربنا} ههنا لأنه حكاية عن مقالة الجن. فمراد هذه الكلمة إنما يعرف بأخبار الجن.
ثم الشرك في ما جرى به الكتاب على أوجه أربعة:
مرة على العبادة بقوله عز وجل: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [بالكهف: 110] وشرك في الخلق بقوله عز وجل: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه} [الرعد: 16] وشرك في الحكم بقوله تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26].
وشرك في الملك بقوله: {ولم يكن له شريك في الملك} [الإسراء: 111و..].
فثبت أن الشرك يقع مرة في العبادة ومرة في العباد ومرة في الملك ومرة في الحكم.
فهم بقولهم: {ولن نشرك بربنا أحدا} تبرؤوا من الشرك في هذه الأوجه الأربعة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته، أو لسلطانه وملكوته أو لغناه. وقوله: {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيان لذلك.
وفي حديث عمر رضي اللَّه عنه: كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا. وروي في أعيننا، أي: عَظُمَ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وأنه تعالى جد ربنا، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا).. والجد: الحظ والنصيب. وهو القدر والمقام. وهو العظمة والسلطان.. وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام. والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله -سبحانه- وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة -أي زوجة- وولدا بنين أو بنات! وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، جاءته من صهر مع الجن! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه، واستنكاف من هذا التصور أن يكون! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين! وكل تصور يشبه هذه التصورات، ممن زعموا أن لله ولدا سبحانه في أية صورة وفي أي تصوير!