المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا} (3)

وقرأ عيسى «إلى الرُّشد » ومن كسر الألف من قوله «وإنه تعالى »فعلى القطع ويعطف الجملة على قوله { إنا سمعنا } ، ومن فتح الألف من قوله «وأنه تعالى » اختلفوا في تأويل ذلك ، فقال بعضهم هي عطف على { إنه استمع } ، فيجيء على هذا قوله { تعالى } مما أمر أن يقول إنه أوحي إليه وليس يكون من كلام الجن ، وفي هذا قلق .

وقال بعضهم بل هي عطف على الضمير في { به } فكأنه يقول فآمنا به وبأنه تعالى . وهذا القول ليس في المعنى ، لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض وذلك لا يحسن . وقرأ جمهور الناس «جدُّ ربنا » بفتح الجيم وضم الدال وإضافته إلى الرب ، وقال جمهور المفسرين معناه عظمته .

وروي عن أنس أنه قال : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران ، جد في أعيننا أي عظم . وقال أنس بن مالك والحسن : { جد ربنا } معناه ، فهذا هو من الجد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد »{[11359]} ، وقال مجاهد : ذكره كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة ، فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان الباهر والصفات العلية والعظمة ، ومن هذا قول اليهودي حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة : «يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون »{[11360]} أي حظكم من الخيرات وبختكم . وقال علي بن الحسين رضي الله عنه وأبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس ليس لله جد ، وهذه مقالة قوم جهلة من الجن ، جعلوا الله جداً أبا أب . قال كثير من المفسرين هذا قول ضعيف . وقوله : { ولن نشرك بربنا أحداً } يدفعه ، وكونهم فيما روي على شريعة متقدمة وفهمهم للقرآن . وقرأ محمد بن السميفع اليماني «جِد ربنا » وهو من الجد والنفع . وقرأ عكرمة «جَدٌّ ربُّنا » بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب كأنه يقول تعالى عظيم هو ربنا ف «ربنا » بدل والجد العظيم في اللغة . وقرأ حميد بن قيس{[11361]} «جُد ربنا » بضم الجيم . ومعناه ربنا العظيم حكاه سيبويه وبإضافته إلى الرب فكأنه قال عظيم ، وهذه إضافة تجديد يوقع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف ، كما تقول جاءني كريم زيد تريد زيداً الكريم ويجري مجرى هذا عند بعضهم .

قول المتنبي [ البسيط ]

عظيم الملك في المقل{[11362]}*** أراد الملك العظيم قال بعض النحاة ، وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير ، وقرأ عكرمة أيضاً «جَداً ربُّنا » بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع الرب ونصب «جداً » على التمييز كما تقول تفقأت شحماً{[11363]} وتصببت عرقاً ، وقرأ قتادة «جِداً ربُّنا » بكسر الجيم ورفع الباء وشد الدال ، فنصب جداً على الحال ومعناه تعالى حقيقة ومتمكناً .

وهذا معنى غير الأول ، وقرأ أبو الدرداء «تعالى ذكر ربنا » ، وروي عنه «تعالى جلال ربنا » .


[11359]:أخرجه البخاري في الأذان والاعتصام والقدر والدعوات، ومسلم في الصلاة والمساجد، وأبو داود في الصلاة والوتر والأدب، والترمذي في الصلاة، والنسائي في السهو، والدارمي في الصلاة، ومالك في القدر من موطئه، وأحمد في مسنده (3/87، 4/93، 97، 98، 101)، ولفظه كما جاء فيه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، ومعنى ذلك أن من كان له حظ في الدنيا لم ينفعه ذلك الحظ في الآخرة.
[11360]:جاء هذا في حديث طويل عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري في مناقب الأنصار عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
[11361]:هو حميد بن قيس المكي الأعرج، أبو صفوان القاريء قال عنه في "تقريب التهذيب" ليس به بأس، وعده من الطبقة السادسة، وقال: إنه مات سنة ثلاثين، وقيل: بعدها.
[11362]:هذا جزء من بيت قاله المتنبي في قصيدة له وردت في الديوان تحت عنوان: (أنا الغريق فما خوفي من البلل)؟ وهي قصيدة قالها في مدح سيف الدولة، والبيت بتمامه: مطاعة اللحظ في الألحاظ مالكة لمقلتيها عظيم الملك في المقل واللحظ: النظر بجانب العين من الخارج، والمقلة: العين، يصف جمال عينيها ونظراتها فيقول: إن لحظها مطاع بين ألحاظ النساء الحسان، إذا دعا أحدا إلى هواها أجاب مطيعا، فهي مالكة بين ذوات القناع تعلوهن جمالا ودلالا، ومقلتاها مالكتان في دولة المقل لهما من دون هذه الدولة الأمر النافذ، وابن عطية يستشهد بأن كلمة "عظيم" صفة لكلمة "الملك" وهي مضافة إليها، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف، ولقد اعترض بعض النحاة على ذلك بما ذكر المؤلف.
[11363]:الفقء: الشق، يقال: فقأ الثمرة فقأ: شقها ، وتفقؤا مصدر تفقأ، ومعنى تفقأت شحما: امتلأت شحما حتى تشقق جلدي.