قوله : { وَأَنَّهُ تعالى } . قرأ الأخوان وابن عامر وحفص : بفتح «أنَّ » ، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة ، والباقون{[58094]} : بالكسر .
وقرأ أبو بكر{[58095]} وابن عامرٍ :«وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه » بالكسر ، والباقون : بالفتح .
واتفقوا على الفتح في قوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } .
وتلخيص هذا أن «أنَّ » المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام :
قسم : ليس معه واو العطف ، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } ، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } ، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول .
القسم الثاني : أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف في فتحها وهو قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وهذا هو القسمُ الثاني .
والثالث : «وأنه لما قام » يكسرها ابن عامر وأبو بكر ، وفتحها الباقون . كما تقدم تحرير ذلك كله .
والاثنتا عشرة : وهي قوله { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ }[ الجن : 3 ] ، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [ الجن : 4 ] ، { وَأَنَّا ظَنَنَّا } [ الجن : 5 ] ، { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ }[ الجن : 6 ] ، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] ، { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] ، { وَأَنَّأ كُنَّا } [ الجن : 9 ] ، { وَأَنَّا لاَ ندري }[ الجن : 10 ] ، { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } [ الجن : 11 ] ، { وَأَنَّا ظَنَنّا } [ الجن : 12 ] ، { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] ، { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } [ الجن : 14 ] .
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات ، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه .
فقال أبو حاتم في الفتح : هو معطوف على مرفوع «أوحِيَ » ، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله .
ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول «أوحِيَ » ، ألا ترى أنه لو قيل «أوحي إلينا أنا لمسنا السماء ، وأنا كنا ، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون ، وأنا لما سمعنا الهدى ، وأنا منا المسلمون » لم يستقم معناه .
وقال مكيٌّ : وعطف «أن » على «آمنَّا بِهِ » أتم في المعنى من العطف على «أنَّهُ اسْتمَعَ » لأنَّك لو عطفت «وأنا ظننا ، وأنا لما سمعنا ، وأنه كان رجال من الإنس ، وأنا لمسنا » وشبه ذلك على «أنَّهُ اسْتمَعَ » لم يجز ؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم ، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ .
الثاني : أن الفتح في ذلك عطف على محل «بِهِ » من «آمنَّا بِهِ » .
قال الزمخشريُّ : «كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي » .
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال : «والفتح في ذلك على الجمل على معنى : " آمنَّا بِهِ " ، فيه بعدٌ في المعنى ؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا ، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال ، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم ، فالكسر أولى بذلك »
وهذا الذي قاله غير لازم ، فإن المعنى على ذلك صحيح ، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج ، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه ، فإنه قال : فتحت «أن » لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح «أن » نحو : صدقنا ، وشهدنا ، كما قالت العرب : [ الوافر ]
4893 - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا{[58096]} *** . . .
فنصب «العيونَ » لإتباعها «الحواجب » ، وهي لا تزجج إنما تكحل ، فأضمر لها الكحل . انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه .
وقال الزجاج : «لكن وجهه أن يكون محمولاً على " آمنَّا بِهِ " وصدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة » .
الثالث : أنه معطوف على الهاء في «بِهِ » ، أي : آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا ، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين .
وهو ، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى ، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، إلا بإعادة الجار .
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة «البقرة » عند قوله :{ وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام }[ البقرة : 217 ] .
على أن مكياً قد قوى هذا المدرك ، وهو حسن جداً ، فقال : هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في «أن » أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر «إلى » مع «أن » .
ووجه الكسر : العطف على «إن » في قوله : «إنَّا سَمعْنَا » فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا : «إنَّا سَمِعْنَا » ، وقالوا : «إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا » إلى آخرها .
وقال بعضهم : الجملتان من قوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } ، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } معترضتان بين قول الجن ، وهما من كلام الباري تعالى .
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض .
ووجه الكسرِ والفتح في قوله : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } ما تقدم .
ووجه إجماعهم على فتح { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على «أنَّه اسْتَمَعَ » فيكون موحى أيضاً .
والثاني : أنه على حذف حرف الجر ، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي ، أي : فلا تدعوا مع الله أحدا ، لأن المساجد لله . ذكرهما أبو البقاء .
وقال الزمخشريُّ : «أنَّهُ اسْتَمَع » - بالفتح - لأنه فاعل «أوْحِيَ » ، و «إنَّا سَمِعْنَا » بالكسر لأنه مبتدأ ، محكي بعد القول ، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي ، فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجنِّ كسر ، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما : «وأن المساجد ، وأنه لما قام عبد الله يدعوه » ، ومن فتح كلهن ، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في «آمنَّا بِهِ » ، أي : صدقناه وصدقنا به .
والهاء في { أَنَّهُ استمع نَفَرٌ } ، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن ، وما بعده خبر «أن » .
قوله : { جَدُّ رَبِّنَا } . قرأ العامة : { جَدّ رَبَّنَا } بالفتح ل «رَبَّنَا » .
والجدُّ أيضاً : الحظُّ ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «وَلاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ » والجدُّ أيضاً : أبو الأب ، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر .
وقرأ عكرمة{[58097]} : بضم ياء «ربُّنا » وتنوين «جدٌّ » على أن يكون «ربنا » بدلاً من «جد » .
والجد : العظيمُ . كأنه قيل : وأنه تعالى عظم ربنا ، فأبدل المعرفة من النكرة .
وعنه أيضاً{[58098]} : «جداً » على التمييز و «ربنا » فاعل ب «تعَالى » ، وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ التقدير : «جد ربنا » ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد ، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا أنه بكسر الجيم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف ، وربنا فاعل ب «تعالى » ، والتقدير : تعالى ربُّنا تعالياً جداً ، أي : حقاً لا باطلاً .
والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل .
والثاني : أنه منصوب على الحال ، أي : تعالى ربنا حقيقة وتمكناً ، قاله ابن عطية .
وقرأ حميد{[58099]} بن قيس : «جُدُّ ربِّنا » - بضم الجيم - مضافاً ل «ربِّنا » ، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه .
وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها ، إذ الأصل : ربنا العظيم ، نحو : «جرد قطيفة » الأصل : قطيفةُ جرد ، وهو مؤولٌ عن البصريين .
وقرأ ابنُ السميقع{[58100]} : «جدا ربنا » بألف بعد الدال مضافاً ل «ربِّنا » .
والجَدَا والجدوى : النفع والعطاء ، أي : تعالى عطاء ربِّنا ونفعه .
قال القرطبيُّ{[58101]} : الجد في اللغة : العظمةُ والجلالُ ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه - : «كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا » أي : عظم وجل فمعنى «جَدُّ ربِّنَا » أي : عظمته وجلاله ، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة{[58102]} ، وعن مجاهد أيضاً : ذكره{[58103]} .
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً : غناه{[58104]} .
ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود : أي : محظوظ ، وفي الحديث : «وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ » ، قال أبو عبيد والخليل ، أي ذا الغنى منك الغنى ، إنما تنفعه الطاعة .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : قدرته{[58105]} وقال الضحاك : فعله{[58106]} .
وقال القرظي والضحاك : آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه{[58107]} .
وقال أبو عبيد والأخفش : ملكه وسلطانه .
وقال السدي : أمره{[58108]} .
وقال سعيد بن جبير : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } ، أي : تعالى ربنا .
وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب ، ويكون هذا من الجنِّ .
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه{[58109]} .
قال القشيريُّ : ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم ، فتجنُّبُه أولى .
قال القرطبيُّ{[58110]} : «ومعنى الآية : وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما ، أو الحاجة إليهما ، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء » .
وقوله عز وجل : { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } ، مستأنف ، فيه تقرير لتعالي جده .