7- ما رده الله على رسوله من أموال أهل القرى بغير إيجاف خيل أو ركوب ، فهو لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ؛ كيلا تكون الأموال متداولة بين الأغنياء منكم خاصة ، وما جاءكم به الرسول من الأحكام فتمسكوا به ، وما نهاكم عنه فاتركوه ، واجعلوا لكم وقاية من غضب الله . إن الله شديد العقاب .
قوله عز وجل : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } يعني من أموال كفار أهل القرى ، قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ، { فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء . إن مال الفيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل الله . واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده ، وللشافعي فيه قولان : أحدهما- هو للمقاتلة ، والثاني : لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح . واختلفوا في تخميس مال الفيء : فذهب بعضهم إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح ، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق ، قرأ عمر بن الخطاب :{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }( الحشر 7-12 ) ، حتى بلغ : { للفقراء المهاجرين والذين جاؤوا من بعدهم } ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، وقال : ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم . { كيلا يكون دولةً } قرأ العامة بالياء دولة نصب أي لكيلا يكون الفيء دولة ، وقرأ أبو جعفر : تكون بالتاء " دولة " بالرفع على اسم كان ، أي : كيلا يكون الأمر إلى دولة ، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له . والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ، { بين الأغنياء منكم } يعني بين الرؤساء والأقوياء ، معناه كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه ، وهو المرباع ، ثم يصطفي منها بعد المرباع ما شاء ، فجعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمر به ، ثم قال : { وما آتاكم } أعطاكم ، { الرسول } من الفيء والغنيمة ، { فخذوه وما نهاكم عنه } من الغلول وغيره ، { فانتهوا } وهذا نازل في أموال الفيء ، وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول : قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته أما قرأت : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }( الحشر- 7 ) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .
وحكمه العام ، كما ذكره الله في قوله : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } عموما ، سواء أفاء الله في وقت رسوله أو بعده ، لمن يتولى من بعده أمته{[1034]}
{ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وهذه الآية نظير الآية التي في سورة الأنفال ، في{[1035]} قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } .
خمس لله ولرسوله يصرف في مصالح المسلمين [ العامة ] ، وخمس لذوي القربى ، وهم : بنو هاشم وبنو المطلب ، حيث كانوا يسوى [ فيه ] بين ، ذكورهم وإناثهم ، وإنما دخل بنو المطلب في خمس الخمس ، مع بني هاشم ، ولم يدخل بقية بني عبد مناف ، لأنهم شاركوا بني هاشم في دخولهم الشعب ، حين تعاقدت قريش على هجرهم وعداوتهم{[1036]} فنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف غيرهم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ، في بني عبد المطلب : " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام "
وخمس لفقراء اليتامى ، وهم : من لا أب له ولم يبلغ ، وخمس للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل ، وهم الغرباء المنقطع بهم في غير أوطانهم .
وإنما قدر الله هذا التقدير ، وحصر الفيء في هؤلاء المعينين ل { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً } أي : مدوالة واختصاصا { بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } فإنه لو لم يقدره ، لتداولته الأغنياء الأقوياء ، ولما حصل لغيرهم من العاجزين منه شيء ، وفي ذلك من الفساد ، ما لا يعلمه إلا الله ، كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر ، ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام ، فقال : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وهذا شامل لأصول الدين وفروعه ، ظاهره وباطنه ، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه ، ولا تحل مخالفته ، وأن نص الرسول على حكم الشيء كنص الله تعالى ، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه ، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله ، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح [ والدنيا والآخرة ] ، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم ، وبإضاعتها الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي ، فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } على من ترك التقوى ، وآثر اتباع الهوى .
( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . وما آتاكم الرسول فخذوه . وما نهاكم عنه فانتهوا . واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . .
وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا . ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والإجتماعي في المجتمع الإسلامي : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) . . كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . . ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه ، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي .
والقاعدة الأولى ، قاعدة التنظيم الاقتصادي ، تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام . فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية . ولكنها محددة بهذه القاعدة . قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، ممنوعا من التداول بين الفقراء . فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الإغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله . وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد .
ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة . ففرض الزكاة . وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية ، وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات . وما يعادل ذلك في الأنعام . وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي . وهي نسب كبيرة . ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء . وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة - أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها . وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء . وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال . وحرم الاحتكار . وحظر الربا . وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى .
ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية ، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي ، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه ، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار ، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير . نشأ وحده . وسار وحده ، وبقي حتى اليوم وحده . نظاما فريدا متوازن الجوانب ، متعادل الحقوق والواجبات ، متناسقا تناسق الكون كله . مذ كان صدوره عن خالق الكون . والكون متناسق موزون !
فأما القاعدة الثانية - قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . . فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية . فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قرآنا أو سنة . والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول . فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان ، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان . . وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية ، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات ، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء ، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان . فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها - والإمام نائب عن الأمة في هذا - وفي هذا تنحصر حقوق الأمة . فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع .
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول . وهذا لا ينقض تلك النظرية ، إنما هو فرع عنها . فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص . وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه . وتنحصر سلطة الأمة - والإمام النائب عنها - في هذه الحدود . وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية . وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله . وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله . كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون ، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح !
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول . . وهو الله . . فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله : ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . . وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه ، ولا هروب منه . فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر ، خبير بالأعمال ، وإليه المرجع والمآب . وعلموا أنه شديد العقاب . وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم ، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة ، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب . .
ولقد كان توزيع ذلك الفيء - فيء بني النضير - على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء ، تحقيقا لقاعدة : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) . . فأما الحكم العام ، فهو أن يكون للفقراء عامة . من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال . وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق .
{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }بيان للأول ولذلك لم يعطف عليه { فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل }اختلف في قسم الفيء فقيل يسدس لظاهر الآية ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد وقيل يخمس لأن ذكر الله للتعظيم ويصرف الآن سهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإمام على قول وإلى العساكر والثغور على قول وإلى مصالح المسلمين على قول وقيل يخمس خمسه كالغنيمة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم الخمس كذلك ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء والآن على الخلاف المذكور ، { كيلا يكون }ي الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء وقرأ هشام في رواية بالتاء { دولة بين الأغنياء منكم } ، الدولة ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية وقرىء دولة بمعنى كيلا يكون الفيء ذا تداول بينهم أو أخذه غلبة تكون بينهم وقرأ هشام دولة بالرفع على كان التامة أي كيلا يقع دولة جاهلية . { وما آتاكم الرسول }وما أعطاكم من الفيء أو من الأمر { فخذوه }لأنه حلال لكم أو فتمسكوا به لأنه واجب الطاعة ، { وما نهاكم عنه }عن أخذه منه أو عن إتيانه { فانتهوا }عنه { واتقوا الله }في مخالفة رسوله { إن الله شديد العقاب }لمن خالفه .
{ أهل القرى } المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى ، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية ، وحكمها مخالف لبني النضير ، ولم يحبس من هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئاً بل أمضاها لغيره ، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت ، واختلف الناس في صفة فتحها فقيل : عن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث بعثاً إلى كل مكان فطاع وأعطاه أهله فكان مما لم يوجف عليه ، وكان حكمه حكم خمس الغنائم ، وليس في الآية نسخ على هذا التأويل ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً . وقال قتادة وزيد بن رومان : كانت هذه القرى قد أوجف عليها ، ولكن هذا حكم ما يوجف عليه ، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية الأنفال فجعل فيها الخمس لهذه الأصناف وبقيت الأربعة الأخماس للمقاتلة ، وآية هذه السورة لم يكن فيها للمقاتلة شيء ، وهذا القول يضعف ، لأن آية الأنفال نزلت إثر بدر وقبل بني النضير وقبل أمر هذه القرى بسنة ونيف . و { القربى } في هذه الآية قرابة النبي صلى الله عليه وسلم منعوا الصدقة وعوضوا من الفيء .
وقوله تعالى : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } مخاطبة للأنصار لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غني ، وقرأ جمهور الناس «يكون » بالياء ، وقرأ أبو جعفر وابن مسعود وهشام عن ابن عامر : بالتاء وهي كان التامة . وقرأ جمهور الناس : «دُولةً » بضم الدال ونصب الهاء . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «دَولةً » بفتح الدال ونصب الهاء . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وهشام عن ابن عامر : «دُولةٌ » بضم الدال والهاء . وقال عيسى بن عمر هما بمعنى واحد . وقال الكسائي وحذاق النظرة الفتح في المُلك : بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر والضم في المِلك بكسر الميم . والمعنى أنها كالعواري فيتداول ذلك المال الأغنياء بتصرفاتهم ويبقى المساكين بلا شيء ولا حظ في شيء من هذه الأموال ليتيم غني ولا لابن سبيل حاضر المال ، وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال ، وروي : أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا فنزل قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } الآية ، مؤدباً في ذلك وزاجراً ثم اطرد بعد معنى الآية في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه حتى قال قوم إن الخمر محرمة في كتاب الله بهذه الآية ، وانتزع منها ابن مسعود : لعنة الواشمة والمستوشمة الحديث{[11023]} . ورأى محرماً في ثيابه المخيطة . فقال له : اطرح هذا عنك ، فقال له الرجل : أتقرأ علي بذلك آية من كتاب الله تعالى فقال ابن مسعود : نعم ، وتلا هذه الآية .
{ مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنيآء مِنكُمْ } .
جمهور العلماء جعلوا هذه الآية ابتداء كلام ، أي على الاستئناف الابتدائي ، وأنها قصد منها حكم غير الحكم الذي تضمنته الآية التي قبلها . ومن هؤلاء مالك وهو قول الحنفية فجعلوا مضمون الآية التي قبلها أموالَ بني النضير خاصة ، وجعلوا الآية الثانية هذه إخباراً عن حكم الأَفيَاء التي حصلت عند فتح قرىً أخرى بعد غزوة بني النضير . مثل قريظة سنة خمس ، وفَدكٍ سنة سبع ، ونحوهما فعيّنته هذه الآية للأصناف المذكورة فيها ، ولا حق في ذلك لأهل الجيش أيضاً وهذا الذي يجري على وفاق كلام عمر بن الخطاب في قضائه بين العباس وعلي فيما بأيديهما من أموال بني النضير على احتمال فيه ، وهو الذي يقتضيه تغيير أسلوب التعْبير بقوله هنا : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } بعد أن قال في التي قبلها { وما أفاء الله على رسوله منهم } [ الحشر : 6 ] فإن ضمير { منهم } راجع ل { الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 2 ] وهم بنو النضير لا محالة . وعلى هذا القول يجوز أن تكون هذه الآية نزلت عقب الآية الأولى ، ويجوز أن تكون نزلت بعد مدة فإن فتح القُرى وقع بعد فتح النضير بنحو سنتين .
ومن العلماء من جعل هذه الآية كلمة وبياناً للآية التي قبلها ، أي بياناً للإِجمال الواقع في قوله تعالى : { فما أوجفتم عليه من خيل } الآية [ الحشر : 6 ] ، لأن الآية التي قبلها اقتصرت على الإِعلام بأن أهل الجيْش لا حقّ لهم فيه ، ولم تبين مستحقَّه وأشعر قولُه { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } [ الحشر : 6 ] أنه مَالٌ لله تعالى يضعه حيث شاء على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فقد بيّن الله له مستحقّيه من غير أهل الجيش . فموقع هذه الآية من التي قبلها موقع عطف البيان . ولذلك فصلت .
وممن قال بهذا الشافعيّ وعليه جرى تفسير صاحب « الكشاف » . ومقتضى هذا أن تكون أموال بني النضير مما يُخَمّس ولم يرو أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمّسها بل ثبت ضدُّه ، وعلى هذا يكون حكم أموال بني النضير حكماً خاصاً ، أو تكون هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها إن كانت نزلت بعدها بمدة .
قال ابن الفرس : آية { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } . وهذه الآية من المشكلات إذا نُظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال . ولا خلاف في أن قوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم الآية } [ الحشر : 6 ] إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف ، وبذلك فسّرها عُمر ولم يخالفه أحد .
وأما آية الأنفال فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف ، وأما الآية الثانية من الحشر فاختلف أهل العلم فيها فمنهم من أضافها إلى التي قبلها ، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها ، وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر .
ومنهم من قال : إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين : واختلف الذاهبون إلى هذا : فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال ، وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار ( فتكون تخصيصاً لآية الأنفال ) وإلى هذا ذهب مالك . والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة . ومنهم من ذهب إلى تخيير الإمام اهـ .
والتعريف في قوله تعالى : { من أهل القرى } تعريف العهد وهي قرى معروفة عُدّت منها : قريظة ، وفَدَك ، وقرى عُرينة ، واليُنْبُع ، ووادي القُرى ، والصفراء ، فتحت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في فتحها أكان عنوة أو صلحاً أو فَيئاً . والأكثر على أن فَدَك كانت مثل النضير .
ولا يختص جعله للرسول بخصوص ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بل مثله فيه أيمة المسلمين .
وتقييد الفيء بفيء القرى جَرى على الغالب لأن الغالب أن لا تفتح إلا القرى لأن أهلها يحاصَرون فيستسلمون ويعطُون بأيديهم إذا اشتد عليهم الحصار ، فأما النازلون بالبوادي فلا يُغلبون إلا بعد إيجاف وقتال فليس لقيد { من أهل القرى } مفهوم عندنا ، وقد اختلف الفقهاء في حكم الفيء الذي يحصل للمسلمين بدون إيجاف . فمذهب مالك أنه لا يخمَّس وإنما تخمس الغنائم وهي ما غنمه المسلمون بإيجاف وقتال .
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين . فأما غير الأرضين فهو مخمّس ، وأما الأرضون فالخيار فيها للإِمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء ، وإن شاء تركها على ملك أهلها وجعل خراجاً عليها وعلى أنفسهم .
وذهب الشافعي إلى أن جميع أموال الحرب مخمّسة وحمل حكم هاته الآية على حكم آية سورة الأنفال بالتخصيص أو بالنسخ .
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين . فأما غير الأرضين فهو مخمّس ، وأما الأرضون فالتفويض فيها للإِمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء ، وإن شاء أقرّ أهلها بها وجعل خراجاً عليها وعلى أنفسهم .
وهذه الآية اقتضت أن صنفاً مما أفاء الله على المسلمين لم يجعل الله فيه نصيباً للغزاة وبذلك تحصل معارضة بين مقتضاها وبين قصر آية الأنفال التي لم تجعل لمن ذكروا في هذه الآية إلا الخمس ، فقال جمع من العلماء : إن آية الأنفال نسخت حكم هذه الآية . وقال جمع : هذه الآية نسخت آيةَ الأنفال .
وقال قتادة : كانت الغنائم في صدر الإِسلام لهؤلاء الأصناف الخمسة ثم نسخ ذلك بآية الأنفال ، وبذلك قال زيد بن رومان : قال القرطبي ونحوه عن مالك ا ه . على أن سورة الأنفال سابقة في النزول على سورة الحشر لأن الأنفال نزلت في غنائم بدر وسورة الحشر نزلت بعدها بسنتين .
إلا أن يقول قائل : إن آية الأنفال نزلت بعد آية الحشر تجديداً لما شرعه الله من التخميس في غنائم بدر ، أي فتكون آية الحشر ناسخة لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة مغانم بدر ، ثم نسخت آية الأنفال آية الحشر . فيكون إلحاقها بسورة الأنفال بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي : قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال ، واتفقوا على أن تخميس الغنائم هو الذي استقر عليه العمل ، أي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبالإِجماع .
وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة ، فشُرع لها حكم خاص بها ، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونُسخ حكمها واستقرّ الأمر على انحصار الفتوح في حالتين : حالة الفيء المجرد وما ليس مجردَ فيء . وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإِجماع . والإِجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخاً لأنه يتضمن ناسخاً . وعن معمر أنه قال : بلغني أن هذه الآية أي آية { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } نزلت في أرض الخراج والجزْية .
ومن العلماء من حملها على أرض الكفار إذا أخذت عنوة مثل سواد العراق دون ما كان من أموالهم غير أرض . كل ذلك من الحيرة في الجمع بين هذه الآية وآية سورة الأنفال مع أنها متقدمة على هذه مع ما روي عن عمر في قضية حكمه بين العباس وعلي ، ومع ما فعله عُمر في سواد العراق ، وقد عرفت موقع كل . وستعرف وجه ما فعله عمر في سواد العراق عند الكلام على قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] .
ومن العلماء من جعل محمل هذه الآية على الغنائم كلها بناء على تفسيرهم الفيء بما يرادف الغنيمة . وزعموا أنها منسوخة بآية الأنفال . وتقدم ما هو المراد من ذكر اسم الله تعالى في عداد من لهم المغانم والفيءُ والأصناف المذكورة في هذه الآية تقدم بيانها في سورة الأنفال .
و { كي لا يكون دولة } الخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكاً لأصناف كثيرة الأفراد ، أي جعلناه مقسوماً على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دُولة بين الأغنياء من المسلمين ، أي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهلَ الحاجة نصيب منه .
والمقصود من ذلك . إبطال ما كان معتاداً في العرب قبل الإِسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي : المرباع ، والصفايا ، وما صالح عليه عدوّه دون قتال ، والنشيطة ، والفضول .
قال عبد الله بن عَنمة الضبّيّ يخاطب بِسطام بنَ قيس سيد بني شيبان وقائدَهم في أيامهم :
لك المِرباع منها والصفايا *** وحُكْمك والنشيطَةُ والفُضُول
فالمرباع : ربُع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش .
والصفايا : النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتتعذر قسمته ، كان يستأثر به قائد الجيش ، وأما حُكمه فهو ما أعطاه العدوُّ من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش .
والنشيطة : ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوّهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال .
والفُضُول : ما يبْقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغُزاة مثل بعيرٍ وفرس .
وقد أبطل الإِسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفاً إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسدّ حاجاتهم العامة والخاصة ، فإن ما هو لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف .
وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دُولة بين الأمة الإِسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل المَوات ، والفيء ، واللقطات ، والركاز ، أو كان جزءاً معيناً مثل : الزكاة ، والكفارات ، وتخميس المغانم ، والخراج ، والمواريث ، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل : القراض والمغارسة ، والمساقاة ، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل : الفيء والرّكاز ، وما ألقاه البحر ، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميتُه « مقاصد الشريعة الإِسلامية » .
والدُولة بضم الدال : ما يتداوله المتداولون . والتداول : التعاقب في التصرف في شيء . وخصها الاستعمال بتداول الأموال .
والدَولة بفتح الدال : النوبة في الغلبة والملك . ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال .
وقرأ الجمهور { كي لا يكون دولة } بنصب { دولةً } على أنه خبر { يكون } . واسم { يكون } ضمير عائد إلى ما أفاء الله ، وقرأه هشام عن ابن عامر ، وأبو جعفر برفع { دولةٌ } على أنَّ { يكون } تامة و { دولةٌ } فاعله .
وقرأ الجمهور { يكون } بتحتية في أوله . وقرأه أبو جعفر { تكونَ } بمثناة فوقية جرياً على تأنيث فاعله . واختلف الرواة عن هشام فبعضهم روى عنه موافقة ( أي جعفر ) في تاء { تكون } وبعضهم روى عنه موافقة الجمهور في الياء .
والخطاب في قوله تعالى : { بين الأغنياء منكم } للمسلمين لأنهم الذين خوطبوا في ابتداء السورة بقوله : { ما ظننتم أن يخرجوا } [ الحشر : 2 ] ثم قوله : { ما قطعتم من لينة } [ الحشر : 5 ] وما بعده . وجعله ابن عطية خطاباً للأنصار لأن المهاجرين لم يكن لهم في ذلك الوقت غنى .
والمراد ب { الأغنياء } الذين هم مظنة الغنى ، وهم الغُزاة لأنهم أغنياء بالمغانم والأنفال .
{ وَمَآ ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
اعتراض ذيّل به حكم فَيْء بني النضير إذ هو أمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما جاءت به هذه الآيات في شأن فيْء النضير ، والواو اعتراضية ، والقصد من هذا التذييل إزالة ما في نفوس بعض الجيش من حزازة حرمانهم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض النضير .
والإِيتاء مستعار لتبليغ الأمر إليهم ، جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كما قال تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة } [ البقرة : 63 و93 ] واستعير الأخذ أيضاً لقبول الأمر والرضى به والعمل .
وقرينة ذلك مقابلته بقوله تعالى : { وما نهاكم عنه فانتهوا } وهو تتميم لنوعي التشريع . وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وفعل فيندرج فيها جميع أدلة السنة . وفي « الصحيحين » عن ابن مسعود : أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن الله الواشمات والمستوشمات " . الحديث . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب فجاءته فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال لها : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول . فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأتِ : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } .
وعطف على هذا الأمر تحذير من المخالفة فأمرهم بتقوى الله فيما أمر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف الأمر بالتقوى على الأمر بالأخذ بالأوامر وترك المنهيات يدل على أن التقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي .
والمعنى : واتقوا عقاب الله لأن الله شديد العقاب ، أي لمن خالف أمره واقتحم نهيه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} يعني قريظة والنضير وخيبر وفدك وقريتي عرينة، {فلله وللرسول ولذي القربى} يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم {واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة} يعني يكون المال دولة {بين الأغنياء منكم} يعني لئلا يغلب الأغنياء الفقراء على الفيء، فيقسمونه بينهم؛ فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الفيء للمهاجرين، ولم يعط الأنصار غير رجلين، منهم سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة، أعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم أرضا من أرض النضير.
قوله: {وما آتاكم الرسول} يقول: ما أعطاكم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الفيء، {فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله} يخوفهم الله من المعاصي، ثم خوفهم، فقال: {إن الله شديد العقاب} إذا عاقب أهل المعاصي...
- الخازن: قال مالك بن أنس: من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآية: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [الحشر: 7].
قال الشافعي: وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستن؛ عن المطلب بن حنطب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أن لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب». قال الشافعي: وقد قيل: ما لم يتل قرآنا إنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله، فكان وحيا إليه. وقيل: جعل الله إليه بما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم أن يسُن. وأيهما كان فقد ألزمهما الله تعالى خلقه، ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن لهم، وفرض عليهم اتباع سنته. (الأم: 7/299. ون الأم: 7/286 و 7/15.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جلّ ثناؤه: "ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى" الذي ردّ الله عزّ وجلّ على رسوله من أموال مشركي القرى. واختلف أهل العلم في الذي عني بهذه الآية من الألوان؛
فقال بعضهم: عني بذلك الجزية والخراج.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوّهم من أهل الحرب بالقتال عنوة.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي أوجف عليها المسلمون بالخيل والركاب، وأخذت بالغلبة، وقالوا كانت الغنائم في بدوّ الإسلام لهؤلاء الذين سماهم الله في هذه الآيات دون المرجفين عليها، ثم نسخ ذلك بالآية التي في سورة الأنفال.
وقال آخرون: عني بذلك: ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم، وقالوا قوله {ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ} الآيات، بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية، وذلك قوله: {ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب} وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها، وذلك أن الآية التي قبلها مال جعله الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره، لم يجعل فيه لأحد نصيبا، وبذلك جاء الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فإذَا كانت هذه الآية التي قبلها مضت، وذكر المال الذي خصّ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لأحد معه شيئا، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله الله لأصناف شتى، كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه غير المال الذي جعله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، ولم يجعل له شريكا.
وقوله: {وَلِذي القُرْبى} يقول: ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب." واليتامى ": وهم أهل الحاجة من أطفال المسلمين الذين لا مال لهم." والمساكين ": وهم الجامعون فاقة وذلّ المسئلة. " وابن السبيل": وهم المنقطع بهم من المسافرين في غير معصية الله عزّ وجلّ.
وقوله: {كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ} يقول جلّ ثناؤه: وجعلنا ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى لهذه الأصناف، كيلا يكون ذلك الفيء دُولة يتداوله الأغنياء منكم بينهم، يصرفه هذا مرّة في حاجات نفسه، وهذا مرّة في أبواب البرّ وسُبُل الخير، فيجعلون ذلك حيث شاءوا، ولكننا سننا فيه سنة لا تُغير ولا تُبدّل. وقوله: {وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ} يقول تعالى ذكره: وما أعطاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه من أهل القرى فخذوه.
{وَما نهاكُمْ عَنْهُ} من الغَلول وغيره من الأمور {فانْتَهُوا} وكان بعض أهل العلم يقول نحو قولنا في ذلك غير أنه كان يوجه معنى قوله {وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ} إلى ما آتاكم من الغنائم.
وقوله: {وَاتّقُوا اللّهَ} يقول: وخافوا الله، واحذروا عقابه في خلافكم على رسوله بالتقدّم على ما نهاكم عنه، ومعصيتكم إياه.
{إنّ الله شَدِيدُ العِقابِ} يقول: إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من أهل معصيته لرسوله صلى الله عليه وسلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الدولة -بضم الدال- نقلة النعمة من قوم إلى قوم. وبفتح الدال المرة من الاستيلاء والغلبة.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
أخبرنا سعيد بن نصر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد ابن إسماعيل، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة أن امرأة من بني أسد أتت عبد الله بن مسعود، فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت والواشمة والمستوشمة، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول، وإني لأظن على أهلك منها، فقال لها عبد الله: فادخلي فانظري، فدخلت فنظرت، فلم تر شيئا، فقال لها عبد الله: أما قرأت: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، قالت: بلى، قال: فهو ذاك. (جامع بيان العلم وفضله: 2/230).
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} هذا أصل من أصولِ وجوبِ متابعتِه، ولزومِ طريقته وسيرته -وفي العِلْم تفصيلُه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الثَّالِثُ: مَا أَمَرَكُمْ بِهِ من طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ من مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ تَنَاوَلَ الْكُلَّ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: وَقَعَ الْقَوْلُ هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ...
المسألة الثَّالِثَةُ: إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا. وَلِذَلِكَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»...
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا الْأَمْرُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ». فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً من بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: [إنَّهُ بَلَغَنِي] أَنَّك لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ: لَئِنْ كُنْت قَرَأْته لَقَدْ وَجَدْته؛ أَمَا قَرَأْت: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش، بين مصرف غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صلى الله عليه وسلم بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال: هل يعم هذا الحكم كل فيء يكون بعد بني النضير: {ما أفاء الله} أي الذي اختص بالعزة والحكمة والقدرة، {على رسوله} ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم أعظم من هذا التسليط، قال ليكون علماً من أعلام النبوة: {من أهل القرى} أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية {فلله} أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده، {وللرسول} لأنه أعظم خلقه، فرتبته تلي رتبته، وهذان يتراءى أنهما قسمان وليس كذلك، هما قسم واحد، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركاً، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم، وتعظيماً لرسوله صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا، وإنما رضاه رضا مولاه، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو مظهره ومجلاه، وسهمه صلى الله عليه وسلم يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة. ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله، ولذلك أعاد العامل فقال: {ولذي القربى} أي منه، لأن رتبتهم من بعد رتبته. ولما ذكر أهل الشرف، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم: {واليتامى} أي الذين هم أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير، {والمساكين} فإنهم في الضعف على أثرهم ودخل فيهم الفقراء فإنه إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر، وإنما يفرق إذا جمع بينهما، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا جاز أن يدخل كل في الآخر، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، والغنيمة ما حصل بذلك، {وابن السبيل} وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار: {كي لا يكون} أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء {دولة} أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة جاهلية. ولما كان التقدير: فافعلوا ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت بهم، عطف عليه قوله: {وما} أي وكل شيء {آتاكم} أي أحضر إليكم وأمكنكم منه {الرسول} أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره {فخذوه} أي فتقبلوه تقبل من حازه {وما نهاكم عنه} من جميع الأشياء {فانتهوا} لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه، فمن قبل ذلك هانت عليه الأمور. ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً بمال على وجه الرئاسة، رهب من المخالفة فيه بقوله: {واتقوا الله} أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل المخالف فعل المنكر: {إن الله} أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق {شديد العقاب *} أي العذاب الواقع بعد الذنب، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي قبل هذه بمدة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم. وما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا. واتقوا الله إن الله شديد العقاب).. وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا. ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والإجتماعي في المجتمع الإسلامي: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).. كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).. ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي. والقاعدة الأولى، قاعدة التنظيم الاقتصادي، تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام؛ فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية. ولكنها محددة بهذه القاعدة، قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، ممنوعا من التداول بين الفقراء. فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الإغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله. وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد. ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة؛ ففرض الزكاة، وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية، وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات. وما يعادل ذلك في الأنعام. وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي. وهي نسب كبيرة. ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء. وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة -أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها. وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء. وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال. وحرم الاحتكار. وحظر الربا. وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء. وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى. ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير؛ نشأ وحده، وسار وحده، وبقي حتى اليوم وحده. نظاما فريدا متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات، متناسقا تناسق الكون كله. مذ كان صدوره عن خالق الكون. والكون متناسق موزون.
فأما القاعدة الثانية- قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).. فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول [صلى الله عليه وسلم] قرآنا أو سنة. والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول. فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان.. وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول [صلى الله عليه وسلم] والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها -والإمام نائب عن الأمة في هذا- وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع. فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول. وهذا لا ينقض تلك النظرية، إنما هو فرع عنها. فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص. وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه. وتنحصر سلطة الأمة -والإمام النائب عنها- في هذه الحدود. وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية. وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله. وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله، كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح!
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول.. وهو الله.. فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله: (واتقوا الله إن الله شديد العقاب).. وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه، ولا هروب منه. فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر، خبير بالأعمال، وإليه المرجع والمآب. وعلموا أنه شديد العقاب. وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب.. ولقد كان توزيع ذلك الفيء -فيء بني النضير- على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء، تحقيقا لقاعدة: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).. فأما الحكم العام، فهو أن يكون للفقراء عامة، من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال. وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق...