قوله عز وجل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن ناسا من أهل الشرك ، كانوا قتلوا ، وأكثروا ، وزنوا ، وأكثروا ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة ، فنزلت هذه الآية . وقال عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك ، وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق آثاماً ، يضاعف له العذاب ، وأنا قد فعلت ذلك كله ؟ فأنزل { إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً } ( مريم-60 ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه ، فهل غيره ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء-48 ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا ؟ فأنزل الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } فقال وحشي : نعم ، هذا فجاء وأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ فقال : بل للمسلمين عامة . وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر من المسلمين ، كانوا قد أسلموا ، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً . قوم أسلموا ، ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وإلى أولئك النفر ، فأسلموا وهاجروا . وروى مقاتل بن حيان ، عن نافع عن ابن عمر ، قال : كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } ( محمد-33 ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها ، قلنا : قد هلك ، فنزلت هذه الآية ، فكففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر . وروي عن ابن مسعود : أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص ، وهو يذكر النار ، والأغلال ، فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ؟ ثم قرأ :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا أبو محمد عبد بن أحمد الحموي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد الله بن حميد ، حدثنا حيان بن هلال ، وسليمان بن حرب ، وحجاج بن منهال ، قالوا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ولا يبالي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن عدي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله ، هل لي من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمل به المائة ، فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا ، فأدركه الموت ، فنأى بصدره نحوها ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي ، وأوحى إلى هذه أن تباعدي ، وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " . ورواه مسلم بن الحجاج ، عن محمد بن المثنى العنبري ، عن معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن قتادة بهذا الإسناد ، وقال : " فدل على راهب فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله ، وكمل به مائة ، ثم سئل عن أعلم أهل الأرض ، فدل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن به أناساً يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأتاهم ملك في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم حكما ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال رجل - لم يعمل خيراً قط - لأهله إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين . قال : فلما مات فعلوا ما أمرهم ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ، فغفر له " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة ، بن عمار ، حدثنا ضمضم بن حوشب ، قال : دخلت المدينة فناداني شيخ ، فقال : يا يماني تعال وما أعرفه ، فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الله الجنة ، قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة قال : فقلت : إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله ، إذا غضب ، أو لزوجته ، أو لخادمه ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة ، والآخر كان مذنبا ، فجعل يقول له : أقصر عما أنت فيه ، قال : فيقول : خلني وربي ، قال : حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيباً ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبداً ، ولا يدخلك الجنة أبداً ، قال : فبعث الله إليهما ملكاً يقبض أرواحهما فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب ، فقال اذهبوا به إلى النار " . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته . قوله عز وجل : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال ، أنبأنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب ، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا أبو قلابة ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { إلا اللمم } ( النجم-32 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جما* وأي عبد لك لا ألما " .
{ 53 - 59 } { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه ، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال : { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه ، مخبرا للعباد عن ربهم : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ، والسعي في مساخط علام الغيوب .
{ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي : لا تيأسوا منها ، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا ، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها ، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان ، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده ، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك ، والقتل ، والزنا ، والربا ، والظلم ، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار . { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : وصفه المغفرة والرحمة ، وصفان لازمان ذاتيان ، لا تنفك ذاته عنهما ، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود ، مالئة للموجود ، . تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار ، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار ، والعطاء أحب إليه من المنع ، والرحمة سبقت الغضب وغلبته ، . ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد ، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة ، أعظمها وأجلها ، بل لا سبب لها غيره ، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح ، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد ، . فهلم إلى هذا السبب الأجل ، والطريق الأعظم .
ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وبدا لهم سيئات
ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة . ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية . ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين . ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا ، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان . .
( قل : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم ) . .
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث ! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله - سبحانه - عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ؛ ويوسع له في الرحمة ؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم . .
وليس بينه - وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان :
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي ، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن . { لا تقنطوا من رحمة الله } لا تيأسوا من مغفرته أولا وتفضله ثانيا . { إن الله يغفر الذنوب جميعا } عفوا ولو بعد بعد ، تقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ، والتعليل بقوله : { إنه هو الغفور الرحيم } على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة ، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في { عبادي } من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم ، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة ، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا ، ووضع { اسم } موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها ، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات " . وما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت . وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب .
هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن ، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه ، وتوبة العاصي تمحو ذنبه . واختلف هل يكون في المشيئة أو هو مغفور له ولا بد ؟ فقالت فرقة من أهل السنة : هو مغفور له ولا بد ، وهذا مقتضى ظواهر القرآن ، وقالت فرقة : التائب في المشيئة ، لكن يغلب الرجاء في ناحيته ، والعاصي في المشيئة ، لكن يغلب الخوف في ناحيته .
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية ، فقال عطاء بن يسار : نزلت في وحشي قاتل حمزة . وقال قتادة والسدي وابن أبي إسحاق : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا ، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم فنزلت الآية فيهم ، منهم الوليد{[9911]} بن الوليد ، وهشام بن العاصي ، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث{[9912]} . وقالت فرقة : نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية ، قالوا : وما ينفعنا الإسلام ونحن قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة فنزلت الآية فيهم . وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن . وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : «ما أحب أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية » ، { يا عبادي }{[9913]}
و : { أسرفوا } معناه : أفرطوا وتعدوا الطور . والقنط . أعظم اليأس .
وقرأ نافع وجمهور الناس : «تقَنطوا » بفتح النون . قال أبو حاتم : يلزمهم أن يقرؤوا : { من بعد ما قنطوا }{[9914]} [ الشورى : 28 ] بالكسر ، ولم يقرأ به أحد . وقرأ الأشهب العقيلي بضم النون . وقرأ أبوعمرو وابن وثاب بكسرها ، وهي لغات .
وقوله : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } عموم بمعنى الخصوص ، لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعاً ، وهي أيضاً في المعاصي مقيدة بالمشيئة . و { جميعاً } نصب هلى الحال . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : «إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي »{[9915]} . وقرأ ابن مسعود : «إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء » .