قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } . قال أكثر المفسرين هم اليهود والنصارى . وقال بعضهم : المبتدعة من هذه الأمة ، وقال أبو أمامة رضي الله عنه : هم الحرورية بالشام . قال عبد الله بن شداد : وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال : هم كلاب النار ، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ، ثم قرأ ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله تعالى ( أكفرتم بعد إيمانكم ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عبد الله بن عمير عن عبد الله بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة ، فإن الشيطان مع الفذ ، وهو من الاثنين أبعد " .
ثم نهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم ، فقال : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } ومن العجائب أن اختلافهم { من بعد ما جاءهم البينات } الموجبة لعدم التفرق والاختلاف ، فهم أولى من غيرهم بالاعتصام بالدين ، فعكسوا القضية مع علمهم بمخالفتهم أمر الله ، فاستحقوا العقاب البليغ ، ولهذا قال تعالى : { وأولئك لهم عذاب عظيم }
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف ؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا ، فنزع الله الراية منهم ، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية . . فوق ما ينتظرهم من العذاب ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه :
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) .
ثم قال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ]{[5461]} } ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم ، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صَفْوان ، حدثني أزْهَر بن عبد الله الْهَوْزَنِي{[5462]} عن أبي عامر عبد الله بن لُحَيٍّ{[5463]} قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى [ صلاة ]{[5464]} الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يعني الأهواء - كُلُّهَا فِي النَّار إلا وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء ، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ ، لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ . واللهِ - يَا مَعْشَر العَربِ - لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جاء بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُكم{[5465]} مِن النَّاسِ أحْرَى ألا يَقُومَ بِهِ " .
وهكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى ، كلاهما عن أبي المغيرة - واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي - به ، وقد رُوي هذا الحديث من طرق{[5466]} .
ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم ، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم ، فقال ابن عباس : هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق ، وقال الحسن : هي إشارة إلى اليهود والنصارى ، وقال الزجاج : يحتمل أن تكون الإشارة أيضاً إلى فرق اليهود وفرق النصارى ، ومجيء { البينات } هو ببعث الرسل ، وإنزال الكتب ، وأسند الفعل دون علامة إلى { البينات } ، من حيث نزلت منزلة البيان ، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها ، وباقي الآية وعيد ، وقوله : { عذاب عظيم } يعني أنه أعظم من سواه ، ويتفاضل هذان العوضان بأن أحدهما يتخلله فتور ، وأما الجزء الفرد من هذا وذلك فسواء ، هذا تحرير مذهب أصحابنا الأصوليين رحمهم الله .
على هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } كما سيأتي .
إنّ الدعوة إلى الخير تتفاوت : فمنها ما هو بيّن يقوم به كلّ مسلم ، ومنها ما يحْتاج إلى علم فيقوم به أهله ، وهذا هو المسمّى بفرض الكفاية ، يعني إذا قام به بعض النَّاس كفَى عن قيام الباقين ، وتتعيَّن الطائفة الَّتي تقوم بها بتوفّر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها . كالقوة على السلاح في الحرب ، وكالسباحة في إنقاذ الغريق ، والعلم بأمور الدّين في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، وكذلك تَعيّن العدد الَّذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصفَ عدد جيش العدوّ ، ولمَّا كان الأمر يستلزم متعلِّقاً فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الّذين فيهم الشروط ، ومجموعُ أهل البلد ، أو القبيلة ، لتنفيذ ذلك ، فإذا قام به العدد الكافي ممّن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة ، لسكوت جميعهم ، ولتقاعس الصَّالحين للقيام بذلك ، مع سكوتهم أيضا ثمّ إذا قام به البعض فإنَّما يُثاب البعض خاصّة .
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام ، وبثّ دعوة النّبيء صلى الله عليه وسلم فإنّ الخير اسم يجمع خصال الإسلام : ففي حديث حذيفة بن اليَمان « قلت : يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشَرّ فجاءَنا الله بهذا الخيْرِ فهل بعد هذا الخير من شرّ » الحديث ، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره ، وهو أصل العطف . وقيل : أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات ، ومنها الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، فيكون العطف من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام به .
وحذفت مفاعيل يَدعون ويأمرون وَيَنهَوْن لقصد التَّعميم أي يَدعون كلّ أحد كما في قوله تعالى : { واللَّهُ يدعو إلى دار السَّلام } [ يونس : 25 ] .
والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به ، لأنّ الشيء إذا كان معروفاً كان مألوفاً مقبولاً مرضيّاً به ، وأريد به هنا ما يُقبل عند أهل العقول ، وفي الشَّرائع ، وهو الحقّ والصلاح ، لأنّ ذلك مقبول عند انتفاء العوارض .
والمنكر مجاز في المكروه ، والكُرْه لازم للإنكار لأنّ النكر في أصل اللِّسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة ، وأريد به هنا الباطل والفساد ، لأنَّهما من المكروه في الجبلّة عند انتفاء العوارض .
والتَّعريف في ( الخير والمعروف والمنكر ) تعريف الاستغراق ، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيُشبه الاستغراق العرفي .
ومن المفسّرين من عيّن جعل ( مِن ) في قوله تعالى : { ولتكن منكم أمة } للبيان ، وتأوّل الكلام بتقدير تقديممِ البيان على المبيَّن فيَصِير المعنى : ولتكن أمَّة هي أنتم أي ولتكونوا أمَّة يدعون محاولة للتسويَّة بين مضمون هذه الآية ، ومضمون قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] الآية . ومساواة معنيي الآيتين غير متعيّنة لِجواز أن يكون المراد من خير أمَّة هاته الأمَّة ، الَّتي قامت بالأمر بالمعروف ، على ما سنبيِّنه هنالك .
والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، ولا شكّ أن الأمر والنَّهي من أقسام القول والكلام ، فالمكلّف به هو بيان المعروف ، والأمر به ، وبيان المنكر ، والنَّهي عنه ، وأمَّا امتثال المأمورين والمنهيين لذلك ، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الَّذين يحملونهم على فعل ما أمروا به ، وأمَّا ما وقع في الحديث : « من رأى منكم منكراً فَلْيُغَيِّرْه بيدِه ، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فبِلِسانه فإن لم يستطع فبقلبه » فذلك مرتبةُ التغيير ، والتَّغييرُ يكون باليد ، ويكون بالقلب ، أي تمنّى التَّغيير ، وأمَّا الأمر والنَّهي فلا يكونان بهما .
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكلّ مسلم أن يأمر وينهى فيهما ، وإن كانا نظريَّيْن ، فإنَّما يقوم بالأمر والنَّهي فيهما أهل العلم .
وللأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية ، إلاّ أنِّي أنبِّه إلى شرط ساء فهم بعض النَّاس فيه وهو قول بعض الفقهاء : يشترط أن لا يجرّ النَّهي إلى منكر أعظم . وهذا شرط قد خرم مزيّة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، واتّخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب . ولقد ساء فهمهم فيه إذا مراد مشترطِه أن يتحقَّق الآمر أنّ أمره يجرّ إلى منكر أعظم لاَ أن يخاف أو يتوهّم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلاّ ظنّ أقوى .
ولمّا كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض ، في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، لتوقّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر ، ومراتب القدرة على التَّغيير ، وإفهام النَّاس ذلك ، رأَى أيمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها ، وسمّوا تلك الولاية بالحسبة ، وقد أولى عمر بن الخطَّاب في هاته الولاية أم الشَفاء ، وأشهر من وليها في الدولة العبَّاسيَّة ابن عائشة ، وكان رجلاً صلباً في الحق ، وتسمّى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد وليها في قرطبة الإمام محمَّد بن خالد بن مَرْتَنِيل القرطبي المعروف بالأشجّ من أصحاب ابن القاسم توفِّي سنة 220 . وكانت في الدولة الحفصيَّة ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربَّما ضمّت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصيَّة .
وجملة { وأولئك هم المفلحون } معطوفة على صفات أمَّة وهي الَّتي تضمّنتها جُمَلُ { يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } والتقدير : وهم مفلحون : لأن الفلاح لمّا كان مسبّباً على تلك الصفّات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم ، ويجوز جعل جملة { وأولئك هم المفلحون } حالاً من أمَّة ، والواو للحال .
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك . وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عمّا قبلها بدون عطف ، مثل فصل جملة { أولئك على هدى من ربِّهم } [ البقرة : 5 ] لكن هذه عُطفت أو جاءت حالاً لأن مضمونها جزاء عن الجمل الَّتي قبلها ، فهي أجدر بأن تُلحق بها .
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم ، فهو إمّا قصر إضافي بالنّسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه وإمّا قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم ، وهو معنى قصد الدّلالة على معنى الكمال .
وقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } معطوف على قوله : { ولتكن منكم أمة } وهو يرجع إلى قوله قبلُ : { ولا تفرقوا } [ آل عمران : 103 ] لما فيه من تمثيل حال التفرّق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود . وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يفضي إلى التفرّق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأمَّة بذلك انشقاقاً شديداً .
والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله : { ولتكن منكم أمة } مع أنّه لا شكّ في أن حكم هذه الآية يعمّ سائر المسلمين : إمَّا بطريق اللَّفظ ، وإمَّا بطريق لَحْن الخطاب ، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال الَّذين تفرّقوا واختلفوا .
وأريد بالّذين تفرّقوا واختلفوا الَّذين اختلفوا في أصول الدّين ، من اليهود والنَّصارى ، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق . وقدّم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علّة التفرّق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها ، وفي عكسه قوله تعالى : { واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه } [ البقرة : 282 ] .
وفيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم والَّذي يؤدّي إلى الافتراق ، وهو الاختلاف في أصول الدّيانة الَّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمَّة بعضاً ، أو تفسيقه ، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمَّة في الأقطار والأعصار ، وهو المعبّر عنه بالاجتهاد . ونحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميَّة لا نجد افتراقاً نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول ، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشَّريعة .
والبيِّنات : الدلائل الَّتي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام .
وقوله : { وأولئك لهم عذاب عظيم } مقابل قوله في الفريق الآخر : { وأولئك هم المفلحون } فالقول فيه كالقول في نظيره ، وهذا جزاء لهم على التفرّق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنّب أسبابه .