فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (105)

( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين فقد تفرق منهما فرقا ، واختلف كل منهما باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات النافعة وتحريفها لما أخلدوا إليه من حطام الدنيا ، وقيل هم المبتدعة من هذه الأمة ، وقيل الحرورية ، والظاهر الأول .

وقيل وهذا عن التفرق والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية ، وأما المسائل الفرعية الاجتهادية فالاختلاف فيها جائز ، وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث . وفيه نظر ، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجودا ، وتخصيص بعض المسائل بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب ، فالمسائل الشرعية متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع .

أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية مرفوعا نحوه ، وزاد : كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة ، وأخرج الحاكم عن ابن عمر مرفوعا نحوه أيضا وزاد : كلهم في النار إلا ملة واحدة فقيل له ما الواحدة قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي {[364]} .

وأخرج ابن ماجة عن عوف بن مالك مرفوعا نحوه وفيه فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار قيل يا رسول الله فمن هم قال الجماعة ، وأخرجه أحمد من حديث أنس ، وفيه قيل يا رسول الله من تلك الفرقة قال الجماعة .

وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الأمر بالكون في الجماعة والنهي عن الفرقة .

( من بعد ما جاءهم البينات ) يعني الحجج الواضحات المبينات للحق الموجبات لعدم الاختلاف والفرقة فعلموها ثم خالفوها ، ولم يقل ( جاءتهم ) لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل في التقديم تشبيها بعلامة التثنية والجمع ( وأولئك لهم ) أي لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا ( عذاب عظيم ) في الآخرة ، فيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والاختلاف .

عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من " عنقه " أخرجه أبو داود{[365]} ، وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره ان يسكن بحبوحة الجنة فعليه الجماعة ، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الإثنين أبعد " ، رواه البغوي بسنده .


[364]:المستدرك كتاب الإيمان 1/6.
[365]:صحيح الجامع الصغير 6286. المشكاة/185.