مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (105)

ثم قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في النظم وجهان الأول : أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمدا صلى الله عليه وسلم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة ، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله ، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب ، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال : { ولا تكونوا } أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات { كالذين تفرقوا واختلفوا } من أهل الكتاب { من بعد ما جاءهم } في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة ، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة والثاني : وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين ، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين ، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط .

المسألة الثانية : قوله { تفرقوا واختلفوا } فيه وجوه الأول : تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد ، كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم الثاني : تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض ، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة الثالث : صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة ، مثل المشبهة والقدرية والحشوية .

المسألة الثالثة : قال بعضهم { تفرقوا واختلفوا } معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل : بل معناهما مختلف ، ثم اختلفوا فقيل : تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين ، وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص ، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث : تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد ، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل ، وأقول : إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة .

المسألة الرابعة : إنما قال : { من بعد ما جاءهم البينات } ولم يقل { جاءتهم } لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدما .

ثم قال تعالى : { وأولئك لهم عذاب عظيم } يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم ، فكان ذلك زجرا للمؤمنين عن التفرق .