( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم105 ) .
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود والنصارى في افتراقهم مذاهب ، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى ، وطاعة النفس ، والحسد ، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض ، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه ، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة المبينة للحق ، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة ، وهي كلمة الحق . فالنهي متوجه إلى المتصدرين للدعوة أصالة ، والى أعقابهم تبعا . وفي قوله / تعالى ( أولئك لهم عذاب عظيم ) من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين ، والتشديد في تهديد المشبهين بهم ، ما لا يخفى .
ذكر الفخر الرازي من وجوه قوله تعالى : ( اختلفوا ) . أي صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق ، وأن صاحبه على الباطل . ثم قال : وأقول انك إذا أنصفت علمت أم أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة ، فنسأل الله العفو والرحمة – انتهى كلامه- وقوله ( هذا الزمان ) إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف ، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل ، وما أداه إليه اجتهادهم ، ولم يضلل بعضهم بعضا ، ولم يدع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ ، أن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب ، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم ، فانا لله وانا إليه راجعون . وقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد ، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهم على وحدتهم وتناصرهم .
قال القاشاني : يعني ب " الآيات " الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة ، واتفاق الكلمة ، فان للناس طبائع وغرائز مختلفة ، وأهواء متفرقة ، وعادات وسيرا متفاوتة ، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم ، ويترتب على ذلك فهوم متباينة ، وأخلاق متعادية ، فان لم يكن لهم مقتدى وإمام ، تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته ، كانوا مهملين متفرقين ، فرائس للشيطان ، كشريدة الغنم ، تكون للذئب . ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : " لا بد للناس من إمام ، بر أو فاجر " . ولم يرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين فصاعدا لشأن ، إلا وأمر أحدهما على الآخر ، وأمر الآخر بطاعته / ومتابعته ، ليتحد الأمر ، وينتظم ، وإلا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدين والدنيا ، واختل نظام المعاش والمعاد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة " . وقال : " الله مع الجماعة " . ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برئاسة القلب ، وطاعة العقل ، كيف اختل نظامها ، وآلت إلى الفساد والتفرق ، الموجب لخسار الدنيا والآخرة . ولما نزل قوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا فقال : " هذا سبيل الرشد ، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال : هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه " .
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ، قدس سره ، في أول كتابه ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) : وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما يعتقد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته ، دقيق ولا جليل ، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب إتباع الرسول ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن إذا وجد لواحد منهم قول ، قد جاء حديث صحيح بخلافه ، فلابد له من عذر في تركه ، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدهما- عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ،
الثاني- اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول ،
الثالث- اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة – ثم أوسع المقال في ذلك- .
وذكر قدس سره ، في بعض فتاويه ، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون : الأدلة بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر . وعلى الإنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى . فإذا رأى دليلا أقوى من غيره . ولم ير ما يعارضه ، عمل به ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئا معذورا ، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه ، وخطؤه مغفور له ، وذلك الباطن هو الحكم ، لكن بشرط القدرة على معرفته ، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه ، فإذا أريد بالخطأ الإثم ، فليس المجتهد بمخطئ ، بل كل مجتهد مصيب ، مطيع لله ، فاعل ما أمره الله به ، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر ، فالمصيب واحد ، وله أجران . كما في المجتهدين في جهة الكعبة ، إذا صلوا إلى أربع جهات ، فالذي أصاب الكعبة واحد ، وله أجران لاجتهاده وعمله ، / كان أكمل من غيره ، والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، ومن زاده الله علما وعملا زاده الله أجرا بما زاده من العلم والعمل ، قال تعالى : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ، نرفع درجات من نشاء ، إن ربك حكيم عليم ) . قال مالك عن زيد بن أسلم : بالعلم ، وكذلك قال في قصة يوسف : ( ( وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ) . وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم ، واتبعوا العلم ، وأن الفقه من أجل العلوم ، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن ، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر ، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر ، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر ، كما قال تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) . وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال ، في الأصول والفروع .
/ ثم قال : وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى ، كما في مسائل الأحكام . ولم يستوعب الحق إلا من اتبع المهاجرين والأنصار وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه ، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون –انتهى .
فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية ، فان المراد منها الاختلاف عن الحق ، بعد وضوحه ، برفضه ، وشتان ما بين الاختلافين . ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات ، فما وجده أقوى دليلا أخذ به ، وإلا تركه . وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيهم : ( فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) . وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه ، فليدع بما رواه مسلم في ( صحيحه ) عن عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول –إذا قام يصلي من الليل- رب جبرائيل وميكائيل واسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، انك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . فان الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت ، فاستهدوني أهدكم " –انتهى .
ذكر بعض المفسرين ، هنا ، ما روي من حديث " اختلاف أمتي رحمة " ، ولا يعرف له سند صحيح ، ورواه الطبراني والبيهقي في ( المدخل ) بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا . قال بعض المحققين : هو مخالف لنصوص الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربي ) ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " وغيره من الأحاديث الكثيرة . والذي يقطع به أن الاتفاق خير من الخلاف –انتهى-
/ وقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسندهما عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال : " حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وان هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة –يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة . وأنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه . لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ، والله ! يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به " .
قال ابن كثير : وقد روي هذا الحديث من طرق –انتهى-
نبذة في مبدأ الاختلاف في هذه الأمة من أهل الأهواء :
ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب ( الفرقان بين الحق والباطل ) أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر ، وصدرا من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولا يته متفقين لا تنازع بينهم ، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمورا أوجبت نوعا من التفرق ، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان . ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين . وحدث في أيامه الشيعة أيضا ، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعلي وشيعته ، بل كانوا ثلاث طوائف :
/ طائفة : تقول انه الله ، وهؤلاء ، لما ظهر عليهم ، أحرقهم بالنار ،
والثانية : السابة وكان قد بلغه عن أبي السودا أنه كان يسب أبا بكر وعمر ، فطلبه . قيل انه طلبه ليقتله فهرب منه ،
والثالثة : المفضلة الذين يفضلونه على الشيخين ، وقد تواتر عنه أنه قال : " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر " . وروى البخاري في ( صحيحه ) .
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية ، ثم حدثت المرجئة . ثم قال : وان الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام : منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم فيبدأ بالخوارج . ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية ، كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه ، كعبد الله ابنه ، ونحوه ، كالخلال ، وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ، وكأبي الفرج المقدسي . وكلا الطائفتين تختم بالجهمية ، لأنهم أغلظوا البدع . وكالبخاري في ( صحيحه ) ، فانه بدأ بكتاب الإيمان و الرد على المرجئة ، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية .
ثم قال قدس سره : إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان ، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف ، صار أهل التفرق والاختلاف شيعا ، وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان ، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم ، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك . ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به ، وما خالفها تأولوه ، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى ، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك ، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن . ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول ، بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها . ثم قال قدس سره : فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول ، ولا يتقدم بين يديه ، بل / ينظر ما قال ، فيكون قوله تبعا لقوله ، وعلمه تبعا لأمره ، كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم باحسان ، وأئمة المسلمين . فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس دينا غير ما جاء به الرسول . وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه ، نظر فيما قاله الله والرسول ، فمنه يتعلم وبه يتكلم ، وفيه ينظر ويتفكر ، وبه يستدل ، فهذا أصل أهل السنة .
وقال قدس سره في رسالته إلى جماعة الشيخ عدي بن مسافر ما نصه : وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها ، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ، كما قال تعالى : ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم ما الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء ، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا ، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا ، فان الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) . إلى قوله : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) . فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة ، ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى . ثم قال : ويجب على أولي الأمر ، وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر ، فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله ، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم .