قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن حفص ، حدثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد - حدثنا الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة ، وهو يتوكأ على عسيب معه ، فمر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه ، فقال بعضهم لنسألنه ، فقام رجل منهم ، فقال : يا أبا القاسم ما الروح ؟ فسكت ، فقلت : إنه يوحى إليه ، فقمت ، فلما انجلى عنه الوحي ، قال : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) وفي رواية ( وما أتو من العلم إلا قليلا ) قال الأعمش : هكذا في قراءتنا . وروي عن ابن عباس أنه قال : إن قريشاً قد اجتمعوا وقالوا : إن محمداً نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب ، وقد ادعى ما ادعى ، فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم ، فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء ، فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها ، فليس بنبي ، وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي ، فسلوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنه كان لهم حديث عجيب ، وعن رجل بلغ شرق الأرض و غربها ما خبره ، وعن الروح ؟ فسألوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أخبركم بما سألتم غداً ولم يقل إن شاء الله ، فلبث الوحي - قال مجاهد : اثني عشرة ليلة ، وقيل : خمسة عشر يوماً وقال عكرمة : أربعين يوماً - وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء ، حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ، ثم نزل جبريل بقوله ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله ) ، ونزلت قصة الفتية ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ) ، ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب ( ويسألونك عن ذي القرنين ) ، ونزل في الروح ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) . واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه ، فروي عن ابن عباس : أنه جبريل ، وهو قول الحسن و قتادة . وروي عن علي أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف لسان ، يسبح الله تعالى بكلها . وقال مجاهد : خلق على صور بني آدم ، لهم أيد وأرجل ورؤوس ، وليسوا بملائكة ، ولا ناس ، يأكلون الطعام . وقال سعيد بن جبير : لم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش ، لو شاء أن يبتلع السماوات السبع والأرضيين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ، صورة خلقه على صورة خلق الملائكة وصورة وجهه على صورة الآدميين ، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله عز وجل اليوم عند الحجب السبعين ، وأقرب إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ، ولولا أن بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السماوات من نوره . وقيل : الروح هو القرآن . وقيل : المراد منه عيسى عليه السلام ، فإنه روح الله وكلمته ، ومعناه : أنه ليس كما يقول اليهود ولا كما يقوله النصارى . وقال قوم : هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان ، وهو الأصح . وتكلم فيه قوم فقال بعضهم : هو الدم ، ألا ترى أن الحيوان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم ؟ . وقال قوم : هو نفس الحيوان ، بدليل أنه يموت باحتباس النفس . وقال قوم : هو عرض . وقال قوم : هو جسم لطيف . وقال بعضهم : الروح معنىً اجتمع فيه النور والطيب والعلو والبقاء ، ألا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات ، فإذا خرج ذهب الكل ؟ . وأولى الأقاويل : أن يوكل علمه إلى الله عز وجل ، وهو قول أهل السنة . قال عبد الله بن بريدة إن الله لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً . وقوله عز وجل : ( قل الروح من أمر ربي ) قيل : من علم ربي { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } أي : في جنب علم الله . قيل : هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : خطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ، ولكن لم يخبر به أحداً لأن ترك إخباره به كان علماً لنبوته . والأول أصح ، لأن الله عز وجل استأثر بعلمه .
{ 85 } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا }
وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل ، التي لا يقصد بها إلا التعنت والتعجيز ، ويدع السؤال عن المهم ، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية ، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد ، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد .
ولهذا أمر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : من جملة مخلوقاته ، التي أمرها أن تكون فكانت ، فليس في السؤال عنها كبير فائدة ، مع عدم علمكم بغيرها .
وفي هذه الآية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر ، الأولى بالسائل غيره أن يعرض عن جوابه ، ويدله على ما يحتاج إليه ، ويرشده إلى ما ينفعه .
وراح بعضهم يسأل الرسول [ ص ] عن الروح ما هو ? والمنهج الذي سار عليه القرآن - وهو المنهج الأقوم - أن يجيب الناس عما هم في حاجة إليه ، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته ؛ فلا يبدد الطاقة العقلية التي وهبها الله فيما لا ينتج ولا يثمر ، وفي غير مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به . فلما سألوه عن الروح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله ، اختص بعلمه دون سواه :
( ويسألونك عن الروح . قل : الروح من أمر ربي . وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . .
وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل . ولكن فيه توجيها لهذا العقل أن يعمل في حدوده وفي مجاله الذي يدركه . فلا جدوى من الخبط في التيه ، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه لأنه لا يملك وسائل إدراكه . والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه ، وسر من أسراره القدسية أودعه هذا المخلوق البشري وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها . وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق ، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود . والإنسان لا يدبر هذا الكون فطاقاته ليست شاملة ، إنما وهب منها بقدر محيطه وبقدر حاجته ليقوم بالخلافة في الأرض ، ويحقق فيها ما شاء الله أن يحققه ، في حدود علمه القليل .
ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع ؛ ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف - الروح - لا يدري ما هو ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يذهب ، ولا أين كان ولا أين يكون ، إلا ما يخبر به العليم الخبير في التنزيل .
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عَسِيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح . فقال بعضهم : لا تسألوه . قال : فسألوه عن الروح فقالوا{[17811]} يا محمد ، ما الروح ؟ فما زال متوكئًا على العسيب ، قال : فظننت أنه يوحى إليه ، فقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه .
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ، به{[17812]} . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن عبد الله بن مسعود قال : بينا أنا مع النبي{[17813]} صلى الله عليه وسلم في حَرْث ، وهو متوكئ{[17814]} على عسيب ، إذ مر اليهود{[17815]} فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقال : ما رابكم{[17816]} إليه . وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه . فقالوا سلوه فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئًا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : { وَيَسْأَلُونَكَ{[17817]} عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } الآية{[17818]} .
وهذا السياق يقتضي{[17819]} فيما يظهر بادي الرأي : أن هذه الآية مدنية ، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود ، عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا : بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد :
حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فسألوه ، فنزلت : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } قالوا : أوتينا علمًا كثيرًا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا . قال : وأنزل الله : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ]{[17820]} .
وقد روى ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، عن عكرمة قال : سأل أهلُ الكتاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فقالوا يزعم{[17821]} أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } ؟ [ البقرة : 269 ] قال : فنزلت : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ لقمان : 27 ] . قال : ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل{[17822]} .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود . وقالوا يا محمد ، ألم
يبلغنا عنك أنك تقول : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أفَعَنَيْتَنَا أم عنيت قومك ؟ فقال : " كلا قد عنيت " . قالوا : إنك تتلو أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم " ، وأنزل الله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ لقمان : 27 ] .
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال :
أحدها : أن المراد [ بالروح ]{[17823]} : أرواح بني آدم .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن{[17824]} الروح ؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يُحِرْ إليهم شيئًا . فأتاه جبريل فقال له : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقالوا : من جاءك بهذا ؟ فقال : " جاءني به جبريل من عند الله ؟ " فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدو لنا . فأنزل الله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ]{[17825]} } الآية [ البقرة : 97 ] .
وقيل : المراد بالروح هاهنا : جبريل . قاله قتادة ، قال : وكان ابن عباس يكتمه .
وقيل : المراد به هاهنا : ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها . قال{[17826]} علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } يقول : الروح : ملك .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عُرْس{[17827]} المصري ، حدثنا وهب بن رزق أبو هريرة{[17828]} حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لله ملكًا ، لو قيل له : التقم السماوات السبع والأرضين{[17829]} بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث كنت " {[17830]} .
وقال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو نِمْران يزيد بن سَمُرَة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال في قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } قال : هو مَلَك من الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها [ سبعون ]{[17831]} ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة{[17832]} .
وهذا أثر غريب عجيب ، والله أعلم .
وقال السهيلي : روي عن عليّ أنه قال : هو ملك ، له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة .
قال السهيلي : وقيل المراد بذلك : طائفة من الملائكة على صور بني آدم .
وقيل : طائفة يرون الملائكة ولا تراهم{[17833]} فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم .
وقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : من شأنه ، ومما استأثر بعلمه دونكم ؛ ولهذا قال : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أي : وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى .
والمعنى : أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى . وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر : أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، أي : شرب منه بمنقاره ، فقال : يا موسى ، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر . أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا }
وقال السهيلي : قال بعض الناس : لم يجبهم عما سألوا ؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت . وقيل : أجابهم ، وعول السهيلي على أن المراد بقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : من شرعه ، أي : فادخلوا فيه ، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع . وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم .
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس ، أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر . وقررّ أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن ، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء . قال : كما أن الماء هو حياة الشجر ، ثم يكسب{[17834]} بسبب اختلاطه معها اسمًا خاصًا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مُصْطَارًا أو خمرًا ، ولا يقال له : " ماء " حينئذ إلا على سبيل المجاز ، وهكذا لا يقال للنفس : " روح " إلا على هذا النحو ، وكذلك لا يقال للروح : نفس{[17835]} إلا باعتبار ما تئول إليه . فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه{[17836]} وهذا معنى حسن ، والله أعلم .
قلت : وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبًا . ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده ، في كتاب سمعناه في : الروح{[17837]} .
الضمير في { يسألونك } قيل هو لليهود وإن الآية مدنية ، وروى عبد الله بن مسعود ، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمر على حرث بالمدينة ، ويروى على خرب ، وإذا فيه جماعة من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فإن أجاب فيه عرفتم أنه ليس بنبي ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ، ولا يطلع عليه أحداً من عباده ، قال ابن مسعود : وقال بعضهم : لا تسألوه لئلا يأتي في بشيء تكرهونه يعني والله أعلم من أنه لا يفسره فتقوى الحجة عليهم في نبوته ، قال فسألوه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عسيب فظننت أنه يوحى إليه ، ثم تلا عليهم الآية{[7687]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقيل الآية مكية والضمير لقريش ، وذلك أنهم قالوا : نسأل عن محمد أهل الكتاب من اليهود ، فأرسلوا إليهم إلى المدينة النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، فقال اليهود لهما : جرباه بثلاث مسائل ، سلوه عن أهل الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح ، فإن فسر الثلاثة فهو كذاب ، وإن سكت عن الروح فهو نبي ، فسألته قريش عن الروح ، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم «غداً أخبركم به » ، ولم يقل إن شاء الله ، فاستمسك الوحي عليه خمسة عشر يوماً ، معاتبة على وعده لهم دون استثناء ، ثم نزلت هذه الآية{[7688]} .
واختلف الناس في { الروح } المسؤول عن أي روح هو ؟ فقالت فرقة هي الجمهور : وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي ؟ ف { الروح } اسم جنس على هذا ، وهذا هو الصواب ، وهو المشكل الذي لا تفسير له ، وقال قتادة { الروح } المسؤول عنه جبريل ، قال وكان ابن عباس يكتمه ، وقالت فرقة عيسى ابن مريم ، وقال علي بن أبي طالب : «ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله سبحانه بكل تلك اللغات يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة » ، ذكره الطبري ، وما أظن هذا القول يصح عن علي ، وقالت فرقة { الروح } القرآن ، وهذه كلها أقوال مفسرة ، والأول أظهرها وأصوبها ، وقوله { من أمر ربي } يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون «الأمر » اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها ، فهي إضافة خلق إلى خالق ، والثاني أن يكون مصدراً من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمراً بالكون فكان . وقرأ ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا » ، ورواها ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ الجمهور «وما أوتيتم » ، واختلف فيمن خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السائلون فقط ، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود ، وقال قوم : المراد اليهود بجملتهم ، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود ، وقالت فرقة : العالم كله ، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له { قل الروح } إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل ، ويحتمل أيضاً أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عز وجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جداً ، كما قال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام ، «ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر » ، وأراد الخضر علم الله تعالى بهذه الموجودات التي عند البشر من علمها طرف يسير نسبة إلى ما يخفى عليهم نسبة النقطة إلى البحر ، وأما علم الله على الإطلاق فغير متناه ، ويحتمل أن يكون التجوز في قول الخضر كما نقص هذا العصفور ، أي إما لا ينقص علمنا شيئاً من علم الله تعالى على الإطلاق ثم مثل بنقرة العصفور في عدم النقص ، إذ نقصه غير محسوس ، فكأنه معدوم ، فهذا احتمال ، ولكن فيه نظر ، وقد قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف لم نؤت من العلم إلا قليلاً ؟ وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله ، فغلبوا ، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الأحاديث «كلاًّ » يعني أن المراد ب { أوتيتم } جميع العالم ، وذلك أن يهود قالت له : نحن عنيت أو قومك ؟ فقال «كلاًّ »{[7689]} ، وفي هذا المعنى نزلت
{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام }{[7690]} ، حكى ذلك الطبري رحمه الله .