ثم فسر رؤياهما فقال : { يا صاحبي السجن أما أحدكما } ، وهو صاحب الشراب ، { فيسقي ربه } ، يعني الملك { خمرا } ، والعناقيد الثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد الثلاثة أيام ، ويرده إلى منزلته التي كان عليها ، { وأما الآخر } ، يعني : صاحب الطعام فيدعوه الملك بعد ثلاثة أيام ، والسلال الثلاث الثلاثة أيام يبقى في السجن ، ثم يخرجه ، { فيصلب فتأكل الطير من رأسه } . قال ابن مسعود : لما سمعا قول يوسف قالا : ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب ، قال يوسف : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } ، أي : فرغ من الأمر الذي عنه تسألان ، ووجب حكم الله عليكما الذي أخبرتكما به ، رأيتما أو لم تريا .
{ 41 } { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ، فإنه يخرج من السجن { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } أي : يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا ، وذلك مستلزم لخروجه من السجن ، { وَأَمَّا الْآخَرُ } وهو : الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه .
{ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } فإنه عبر [ عن ] الخبز الذي تأكله الطير ، بلحم رأسه وشحمه ، وما فيه من المخ ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور ، بل يصلب ويجعل في محل ، تتمكن الطيور من أكله ، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما ، أنه لا بد من وقوعه فقال : { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أي : تسألان عن تعبيره وتفسيره .
وإلى هنا يبلغ يوسف أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه ، مرتبطا في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن . ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس ، ليزيدهما ثقة في قوله كله وتعلقا به :
( يا صاحبي السجن ، أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه )
ولم يعين من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيء تلطفا وتحرجا من المواجهة بالشر والسوء . ولكنه أكد لهما الأمر واثقا من العلم الذي وهبه الله له :
يقول لهما : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ، ولكنه لم يعينِّه لئلا يحزن ذاك ، ولهذا أبهمه في قوله : { وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ } وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا .
ثم أعلمهما أن هذا قد فُرغ منه ، وهو واقع لا محالة ؛ لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر ، فإذا عُبِّرَت وَقَعت .
وقال الثوري ، عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : لما قالا ما قالا وأخبرهما ، قالا ما رأينا شيئا . فقال : { قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }
ورواه محمد بن فضيل{[15182]} عن عمارة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود به ، وكذا فسره مجاهد ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم . وحاصله أن من تحلَّم بباطل وفَسّره ، فإنه يُلزَم بتأويله ، والله أعلم ، وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن معاوية بن حَيْدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر{[15183]} فإذا عُبِّرت وقعت " {[15184]} وفي مسند أبي يَعْلَى ، من طريق يزيد الرَّقاشي ، عن أنس مرفوعا : " الرؤيا لأول عابر " {[15185]}
{ يا صاحبي السجن أما أحدكما } يعني الشرابي . { فيسقي ربه خمرا } كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه . { وأما الآخر } يريد به الخباز . { فيُصلب فتأكل الطير من رأسه } فقالا كذبنا فقال { قُضي الأمر الذي تستفتيان } أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه ، وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده ، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما .
ثم نادى { يا صاحبي السجن } ثانية لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب ، فروي أنه قال لنبو : أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك ، وقال لمجلث : أما أنت فتصلب ، وذلك كله بعد ثلاث ، فروي أنهما قالا له ما رأينا شيئاً وإنما تحالمنا لنجربك ؛ وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب ؛ وقيل : كانا رأيا ثم أنكرا .
وقرأت فرقة : «يَسقي ربه » من سقى ، وقرأت فرقة من أسقى ، وهما لمعنى واحد{[6688]} لغتان وقرأ عكرمة والجحدري : «فيُسقَى ربه خمراً » بضم الياء وفتح القاف أي ما يرويه{[6689]} .
وأخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله تعالى : إن الأمر قد قضي ووافق القدر .
افتتح خطابهما بالنداء اهتماماً بما يلقيه إليهما من التعبير ، وخاطبهما بوصف { صاحبي السجن } أيضاً .
ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف عليه السّلام في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جَمع التأويلَ في عبارة واحدة مجملة ، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبَها قصداً لتلقيه ما يسوء بعدَ تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام ، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمراً هو رَائي عَصر الخمر ، وأن الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبزٍ على رأسه .
وإذا كان نظم الآية على غير ما صَدر من يوسف عليه السّلام كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف عليه السّلام ، وكان كلاماً معيّناً فيه كل من الفتيين بأن قال : أما أنتَ فكيْت وكيْت ، وأما أنت فكَيْت وكيْت ، فحُكي في الآية بالمعنى .
وجملة { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } تحقيق لما دلت عليه الرؤيا ، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما ، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما .
والاستفتاء : مصدر استفتَى إذا طلب الإفتاء . وهو : الإخبار بإزالة مشكل ، أو إرشاد إلى إزالة حيرة . وفعله أفتى مُلازم للهمز ولم يسمع له فعل مُجرد ، فدلا ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنًى ، قالوا : أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب ، فكأنّ الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فَتِيّا أي قوياً . واسم الخبر الصادر من المفتي : فتوى بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصوراً ، وبضم الفاء مع الياء مقصوراً .