الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسۡقِي رَبَّهُۥ خَمۡرٗاۖ وَأَمَّا ٱلۡأٓخَرُ فَيُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِن رَّأۡسِهِۦۚ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسۡتَفۡتِيَانِ} (41)

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " أما أحدكما فيسقي ربه خمرا " أي قال للساقي : إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك بعد ثلاثة أيام ، وقال للآخر : وأما أنت فتدعى إلى ثلاثة أيام فتصلب فتأكل الطير من رأسك ، قال : والله ما رأيت شيئا ، قال : رأيت أو لم تر " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " . وحكى أهل اللغة أن سقى وأسقى لغتان بمعنى واحد ، كما قال الشاعر{[9118]} :

سَقَى قَوْمِي بني مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْراً والقَبَائِلَ من هِلاَلِ

قال النحاس : الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب ، أو صب الماء في حلقه ومعنى أسقاه جعل له سقيا ، قال الله تعالى : " وأسقيناكم ماء فراتا{[9119]} " [ المرسلات : 27 ]

الثانية : قال علماؤنا : إن قيل من كذب في رؤياه ففسرها العابر له أيلزمه حكمها ؟ قلنا : لا يلزمه ، وإنما كان ذلك في يوسف لأنه نبي ، وتعبير النبي حكم ، وقد قال : إنه يكون كذا وكذا فأوجد الله تعالى ما أخبر كما قال تحقيقا لنبوته ، فإن قيل : فقد روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : إني رأيت كأني أعْشَبْتُ ثم أجْدَبْتُ ثم أعْشَبْتُ ثم أجْدَبْتُ ، فقال له عمر : أنت رجل تؤمن ثم تكفر ، ثم تؤمن ثم تكفر ، ثم تموت كافرا ، فقال الرجل : ما رأيت شيئا ، فقال له عمر : قد قضى لك ما قضى لصاحب يوسف ، قلنا : ليست لأحد بعد عمر ؛ لأن عمر كان محدثا{[9120]} ، وكان إذا ظن{[9121]} ظنا كان وإذا تكلم به وقع ، على ما ورد في أخباره ، وهي كثيرة ، منها : أنه دخل عليه رجل فقال له : أظنك كاهنا فكان كما ظن ، خرجه البخاري . ومنها : أنه سأل رجلا عن اسمه فقال له فيه أسماء النار كلها ، فقال له : أدرك أهلك فقد احترقوا ، فكان كما قال : خرجه الموطأ . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الحجر{[9122]} " إن شاء الله تعالى .


[9118]:هو لبيد، ومجد: ابنة تيم بن غالب بن فهر، وهي أم كلاب وكليب بني ربيعة، وفاعل سقى هو المطر.
[9119]:راجع ج 19 ص 158.
[9120]:محدث: ملهم، أو يلقى في روعه الشيء، أو يجري الصواب على لسانه من غير قصد. (القسطلاني). والمحدث: الذي يحدثه الملك أيضا. أي يلقي في نفسه.
[9121]:من ع و ك و و ي.
[9122]:راجع ج 10 ص 42.