المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

87- يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا على أنفسكم ما أحلَّ الله لكم من الطيبات ، ولا تتجاوزوا الحدود التي شرعها الله لكم من التوسط في أموركم ، إن الله لا يحب المتجاوزين للحدود .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، الآية . قال أهل التفسير : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوماً ، ووصف القيامة ، فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر رضي الله عنه ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل ابن مقرن رضي الله عنهم . وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ، ويلبسوا المسوح ، ويجبوا مذاكيرهم ، ويصوموا الدهر ، ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ، واسمها الخولاء ، وكانت عطارة : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير ، فقال صلى الله عليه وسلم : إني لم أؤمر بذلك ، ثم قال : إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام ، والطيب ، والنوم ، وشهوات النساء ؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم ، والنساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وحجوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن رشد بن سعد ، حدثني أبو نعيم ، عن سعد بن مسعود ، أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذن لنا في الاختصاء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من خصى ولا من اختصى ، خصاء أمتي الصيام ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لنا في السياحة . فقال : ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لنا في الترهب ، فقال : ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد ، وانتظار الصلاة ) .

وروي عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهم : أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إني أصبت من اللحم فانتشرت ، وأخذتني شهوة ، فحرمت اللحم ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، يعني : اللذات التي تشتهيها النفوس ، مما أحل الله لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة .

قوله تعالى : { ولا تعتدوا } أي : ولا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : هو جب المذاكير .

قوله تعالى : { إن الله لا يحب المعتدين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } من المطاعم والمشارب ، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم ، فاحمدوه إذ أحلها لكم ، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها ، أو اعتقاد تحريمها ، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب ، وكفر النعمة ، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا ، فإن هذا من الاعتداء .

والله قد نهى عن الاعتداء فقال : { وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

هذا القطاع بجملته يتناول قضية واحدة على تعدد الموضوعات التي يتعرض لها - ويدور كله حول محور واحد . . إنه يتناول قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية . . الله هو الذي يحرم ويحلل . . والله هو الذي يحظر ويبيح . . والله هو الذي ينهى ويأمر . . ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة . كبيرها وصغيرها . فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها .

والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله ، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله . . وليس هذا الحق لأحد إلا لله . . وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته . . والله لا يحب المعتدين . . والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم ، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول . . ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين .

وتبدأ كل فقرة من فقرات هذا القطاع بنداء واحد مكرر : { يا أيها الذين آمنوا } . . { يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . } . . { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه . . } . . { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب . . } . . { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم . . } . .

ولهذا النداء على هذا النحو مكانه ودلالته في سياق هذا القطاع الذي يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان ، وقضية الدين . . إنه النداء بصفة الإيمان الذي معناه ومقتضاه الاعتراف بألوهية الله وحده ، والاعتراف له سبحانه بالحاكمية . . فهو نداء التذكير والتقرير لأصل الإيمان وقاعدته ؛ بهذه المناسبة الحاضرة في السياق . ومعه الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول ؛ والتحذير من التولي والإعراض ؛ والتهديد بعقاب الله الشديد ، والإطماع في مغفرته ورحمته لمن أناب .

ثم . . بعد ذلك . . المفاصلة بين الذين آمنوا ومن يضل عن طريقهم ، ولا يتبع منهجهم هذا في ترك قضية التشريع لله في الصغيرة والكبيرة ؛ والتخلي عن الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته :

{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعاً ، فينبئكم بما كنتم تعملون } . .

فهم أمة واحدة لها دينها ، ولها نهجها ، ولها شرعها ، ولها مصدر هذا الشرع الذي لا تستمد من غيره . ولا على هذه الأمة - حين تبين للناس منهجها هذا ثم تفاصلهم عليه - من ضلال الناس ، ومضيهم في جاهليتهم .

ومرجعهم بعد ذلك إلى الله .

هذا هو المحور العام الذي يقوم عليه القطاع بجملته . أما الموضوعات الداخلة في إطاره فقد أشرنا إليها في التقديم لهذا الجزء إشارة مجملة . والآن نواجهها تفصيلا في حدود هذا الإطار العام :

( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون . . لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان . فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، واحفظوا أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .

يا أيها الذين آمنوا . . إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم - وأنتم بشر عبيد لله - خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله . فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات ؛ وليس لكم أن تمتنعوا - على وجه التحريم - عن الأكل مما رزقكم الله حلالا طيبا . . فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال الطيب . والذي يملك أن يقول : هذا حرام وهذا حلال :

( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ؛ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )

إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية . والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر ، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم . فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء . . وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم . فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه . والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه ! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون . ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق !

هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد . . والله لا يحب المعتدين . . وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاما يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد ؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية . . وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما - الخاصة بحكم الأيمان - قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب . وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحا ودقة :

روى ابن جرير . . أنه [ ص ] جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف . فقال ناس من أصحابه : ما حقنا إن لم نحدث عملا ، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم ! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك ، وأن يأكل بالنهار ؛ وحرم بعضهم النساء . . فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني " ؛ فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . . الخ .

وفي الصحيحين من رواية أنس - رضي الله عنه - شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير :

قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله [ ص ] يسألون عن عبادته . فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها . قالوا : أين نحن من رسول الله [ ص ] وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا . وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر :

وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله [ ص ] إليهم ، فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له . ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .

وأخرج الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلًا أتى النبي [ ص ] فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي ، فحرمت علي اللحم فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . . . الآية . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رَهْط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نقطع مَذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك : فقالوا : نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسُنَّتِي فهو مِنِّي ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " . رواه ابن أبي حاتم .

وروى ابن مردويه من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس نحو ذلك .

وفي الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن ناسا من أصحاب رسول الله{[10225]} صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا آكل اللحم . وقال بعضهم : لا أتزوج النساء . وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس مني " . {[10226]}

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد ، عن عثمان - يعني أبن سعد - أخبرني عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني إذا أكلت اللحم{[10227]} انتشرتُ للنساء ، وإني حَرَّمْتُ عليّ اللحم ، فنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ }

وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعًا ، عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن أبي عاصم النبيل ، به .

وقال : حسن غريب{[10228]} وقد روي من وجه آخر مرسلا وروي موقوفًا على ابن عباس ، فالله أعلم .

وقال سفيان الثوري ووَكِيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قَيْس بن أبي حازم ، عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] }{[10229]} .

أخرجاه من حديث إسماعيل{[10230]} . وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة ، والله أعلم .

وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، عن عمرو بن شُرحبيل قال : جاء مَعْقل بن مقرِّن إلى عبد الله بن مسعود فقال : إني حرمت فراشي . فتلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] }{[10231]} .

وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فجيء بضَرْع ، فتنحى رجل ، فقال [ له ]{[10232]} عبد الله : اُدْن . فقال : إني حرمت أن آكله . فقال عبد الله : ادن فاطعَم ، وكفر عن يمينك وتلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } الآية .

رواهن ابن أبي حاتم . وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه ، من طريق إسحاق بن راهويه ، عن جرير ، عن منصور ، به . ثم قال : على شرط الشيخين ولم يخرجاه . {[10233]}

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، أخبرني هشام بن سعد ، أن زيد بن أسلم حدثه : أن عبد الله بن رواحة ضافه{[10234]} ضيف من أهله ، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يُطْعموا ضَيْفَهم انتظارًا له ، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي ، هو عليَّ حرام . فقالت امرأته : هو عليَّ حرام . وقال الضيف : هو عليَّ حرام . فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم الله . ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ، ثم أنزل{[10235]} الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وهذا أثر منقطع . {[10236]}

وفي صحيح البخاري في قصة الصديق [ رضي الله عنه ]{[10237]} مع أضيافه شبيه{[10238]} بهذا{[10239]} وفيه ، وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلا أو ملبسًا أو شيئًا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ، ولا كفارة عليه أيضا ؛ ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } ؛ ولأن الذي حَرَّم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم - لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة . وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل{[10240]} إلى أن من حرم مأكلا أو مشربًا أو أو شيئًا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزامًا له بما التزمه ، كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] . ثُمَّ قَالَ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } الآية [ التحريم : 2 ] . وكذلك{[10241]} هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير ، والله أعلم .

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد قال : أراد رجال ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو ، أن يَتَبَتَّلوا ويخصُوا أنفسهم ويلبسوا المسُوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } قال ابن جريج ، عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحاب{[10242]} تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالإخصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين{[10243]} يريد : ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا عليه من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الإخصاء ، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن لأنفسكم حقًا ، وإن لأعينكم حقًا ، صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا " . فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت . {[10244]}

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ، ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين ، كما تقدم ذلك ، ولله الحمد والمنة .

وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم{[10245]} على التخويف ، فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون : ما خفنا إن لم نحدث عملا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم ، فنحن نحرم . فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودَك ، وأن يأكل بنَهَار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان{[10246]} لا يدنو من أهله ولا تدنو منه . فأتت امرأتُه عائشةَ ، رضي الله عنها ، وكان يقال لها : الحولاء ، فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون ، لا تمتشطين ، لا تتطيبين ؟ قالت : وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع عليَّ زوجي وما رفع عني ثوبًا ، منذ كذا وكذا . قال : فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن ، فقال : " ما يضحككن ؟ " قالت : يا رسول الله ، إن الحولاء سألتها عن أمرها ، فقالت : ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا . فأرسل إليه فدعاه ، فقال : " ما لك يا عثمان ؟ " قال : إني تركته لله ، لكي أتخلى للعبادة ، وقص عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك " . فقال : يا رسول الله ، إني صائم . فقال : " أفطر " . فأفطر ، وأتى أهله ، فرجعت الحولاء إلى عائشة [ زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[10247]} وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت ، فضحكت عائشة وقالت : ما لك يا حولاء ؟ فقالت : إنه آتاها أمس ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بال أقوام حَرَّموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء ، فمن رَغِب عني فليس مني " . فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا } يقول لعثمان " لا تجُبَّ نفسك ، فإن هذا هو الاعتداء " . وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم ، فقال : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } رواه{[10248]} ابن جرير .

وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا } يحتمل أن يكون المراد منه : ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم{[10249]} المباحات عليكم ، كما قاله من قاله{[10250]} من السلف . ويحتمل أن يكون المراد : كما لا تحرموا{[10251]} الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال ، بل خذوا منه بقَدْر كفايتكم وحاجتكم ، ولا تجاوزوا الحد فيه ، كما قال{[10252]} تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] [ آل عمران : 31 ] }

وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان : 67 ] فشرعُ الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه ، لا إفراط ولا تفريط ؛ ولهذا قال : { لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }{[10253]}


[10225]:في أ: "النبي".
[10226]:هذا لفظ حديث أنس بن مالك: رواه البخاري في صحيحه برقم (5063) ومسلم في صحيحه برقم (1401). أما حديث عائشة فلفظه: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ترخص فيه وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثني عليه ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية". رواه البخاري برقم (7301) ومسلم برقم (2356).
[10227]:في أ: "أكلت من هذا اللحم".
[10228]:سنن الترمذي برقم (3054).
[10229]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[10230]:صحيح البخاري برقم(4615) وصحيح مسلم برقم (1404).
[10231]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[10232]:زيادة من أ.
[10233]:المستدرك (2/313).
[10234]:في ر: "أضافه".
[10235]:في أ: "فأنزل".
[10236]:ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/143).
[10237]:زيادة من أ.
[10238]:صحيح البخاري برقم (6140).
[10239]:في أ: "شبه هذا".
[10240]:في أ: "وذهب الإمام أحمد بن حنبل وآخرون".
[10241]:في أ: "فكذلك".
[10242]:في أ: "أصحابه".
[10243]:في أ: "المرسلين".
[10244]:تفسير الطبري (10/519).
[10245]:في ر: "يزهدهم".
[10246]:في ر: "فكان".
[10247]:زيادة من أ.
[10248]:في ر: "ورواه".
[10249]:في د: "بتحريم".
[10250]:في أ: "قال".
[10251]:في ر: "يحرموا".
[10252]:في د: "كقوله".
[10253]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } أي ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات عقبه النهي عن الإفراط في ذلك والاعتداء عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراما فقال : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم ، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما .