افتتحت بنهي المؤمنين عن الحكم بشيء قبل أن يأمر به الله ورسوله ، وعن رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأثنت على الذين يخفضون أصواتهم في حضرته ، ونددت بمن يتركون الأدب فينادونه صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ، ثم أمرت المؤمنين بالتثبت من أخبار الفاسقين وضعاف الإيمان ، وأمرت الولاة بما يفعلونه عند تقاتل فريقين من المؤمنين ، ونهت المؤمنين عن استهزاء بعضهم ببعض ، وتعييب بعضهم بعضا . وعن ظن السوء بأهل الخير ، وعن تتبع بعضهم ، ونهت الأعراب عن ادعاء الإيمان قبل أن يستقر في قلوبهم ، ثم أبانت من هم المؤمنون الصادقون ، وختمت الحديث بالنهي عن المن على رسول الله بالإسلام ، وبينت أن المنة لله عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ، وإن كانوا صادقين في دعواهم .
1- يا أيها الذين آمنوا : لا تقدِّموا أي أمر في الدين والدنيا دون أن يأمر به الله ورسوله ، واجعلوا لأنفسكم وقاية من عذاب الله بامتثال شريعته . إن الله عظيم السمع لكل ما تقولون ، محيط علمه بكل شيء .
قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } قرأ يعقوب : ( لا تقدموا ) بفتح التاء والدال من التقدم أي : لا تتقدموا ، وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال ، من التقديم ، وهو لازم بمعنى التقدم مثل بين وتبين ، قيل : هو متعد على ظاهره ، والمفعول محذوف ، أي : لا تقدموا القول والفعل بين يدي الله ورسوله . قال أبو عبيدة : تقول العرب : لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب ، أي : لا تعجل بالأمر والنهي دونه ، والمعنى : بين اليدين الأمام . والقدام ، أي : لا تقدموا بين يدي أمرهما ونهيهما . واختلفوا في معناه : روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى ، وهو قول الحسن ، أي لا تذبحوا قبل أن يذبح محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن ناساً ذبحوا قبل صلاة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن رحب ، حدثنا شعبة ، عن زيد ، عن الشعبي ، عن البراء قال خطبنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، قال : " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء " .
وروى مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك ، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة ، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم ، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة ، قال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، قال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } حتى انقضت . ورواه نافع عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } إلى قوله : { أجر عظيم } ، وزاد : قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر عن أبيه ، يعني أبا بكر . وقال قتادة : نزلت الآية في ناس كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، أو صنع في كذا وكذا ، فكره الله ذلك . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه . وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله . { واتقوا الله } ، في تضييع حقه ومخالفة أمره ، { إن الله سميع } لأقوالكم ، { عليم } بأفعالكم .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا متضمن للأدب ، مع الله تعالى ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتعظيم له ، واحترامه ، وإكرامه ، فأمر [ الله ] عباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان ، بالله وبرسوله ، من امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وأن يكونوا ماشين ، خلف أوامر الله ، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في جميع أمورهم ، و [ أن ] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا يقولوا ، حتى يقول ، ولا يأمروا ، حتى يأمر ، فإن هذا ، حقيقة الأدب الواجب ، مع الله ورسوله ، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه ، وبفواته ، تفوته السعادة الأبدية ، والنعيم السرمدي ، وفي هذا ، النهي [ الشديد ] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، على قوله ، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب اتباعها ، وتقديمها على غيرها ، كائنا ما كان{[792]}
ثم أمر الله بتقواه عمومًا ، وهي كما قال طلق بن حبيب : أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، تخشى عقاب الله .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي : لجميع الأصوات في جميع الأوقات ، في خفي المواضع والجهات ، { عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن ، والسوابق واللواحق ، والواجبات والمستحيلات والممكنات{[793]} .
وفي ذكر الاسمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ، والأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة ، والآداب المستحسنة ، وترهيب عن عدم الامتثال{[794]} .
هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية ، سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية . حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة ؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ، ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات !
وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير .
وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة ، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة ، لعالم رفيع كريم نظيف سليم ؛ متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ؛ والتي تكفل قيامه أولاً ، وصيانته أخيراً . . عالم يصدر عن الله ، ويتجه إلى الله ، ويليق أن ينتسب إلى الله . . علم نقي القلب ، نظيف المشاعر ، عف اللسان ، وقبل ذلك عف السريرة . . عالم له أدب مع الله ، وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره . أدب في هواجس ضميره ، وفي حركات جوارحه . وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ، وله نظمه التي تكفل صيانته . وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب ، وتنبثق منه ، وتتسق معه ؛ فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره ، وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعه وزواجره ؛ وتتناسق أحاسيسه وخطاه ، وهو يتجه ويتحرك إلى الله . . ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ؛ ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم . بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق . كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده ، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها . بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالأفراد ؛ وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق .
هو عالم له أدب مع الله ، ومع رسول الله . يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب ، والرسول الذي يبلغ عن الرب : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ، إن الله سميع عليم ) . . فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي ، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم ؛ ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه ؛ ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه . . تقوى منه وخشية ، وحياء منه وأدبا . . وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتوقيره : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي . ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرة وأجر عظيم . إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .
وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال ، والاستيثاق من مصدرها ، قبل الحكم عليها . يستند هذا المنهج إلى تقوى الله ، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله ، في غير ما تقدم بين يديه ، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ؛ واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم . ولكن الله حبب إليكم الإيمان ، وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .
وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات ، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج . وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين ، ومن حقيقة العدل والإصلاح ، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ، إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .
وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض ؛ وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ؛ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ؛ ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم : الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) . .
وهو عالم نظيف المشاعر ، مكفول الحرمات ، مصون الغيبة والحضرة ، لا يؤخذ فيه أحد بظنة ، ولا تتبع فيه العورات ، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ! واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) .
وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب ؛ وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع . إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) . .
والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، تحدد معالم الإيمان ، الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم . وباسمه هتف لهم ليلبوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل ، الحافز إلى التلبية والتسليم : يا أيها الذين آمنوا . . ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من الله أن لا يجيب ؛ والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة ، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب : ( قالت الأعراب : آمنا . قل : لم تؤمنوا ، ولكن قولوا : أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون . قل : أتعلمون الله بدينكم ، والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله بكل شيء عليم ) . .
وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر . هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء ، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق : يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا علي إسلامكم . بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون . .
فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة ، ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها ، فهو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد ، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة ، التي تمثل ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، الذي وجدت حقيقته يوما على هذه الأرض ؛ فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية ، ولا حلما طائرا ، يعيش في الخيال !
هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة ؛ ولم تخلق بين يوم وليلة . كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة . بل نمت نموا طبيعيا بطيئا كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور . وأخذت الزمن اللازم لنموها ، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو . واحتاجت إلى العناية الساهرة ، والصبر الطويل ، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب ، والتوجيه والدفع ، والتقوية والتثبيت . واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية ؛ مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات . . وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة - على علم - لحمل هذه الأمانة الكبرى ؛ وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض . وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل ؛ وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء . . وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية ؛ ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنها حلم مرفرف في قلب ، أو رؤيا مجنحة في خيال !
( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرة وأجر عظيم . إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون . ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .
تبدأ السورة بأول نداء حبيب ، وأول استجاشة للقلوب . ( يا أيها الذين آمنوا ) . . نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب . واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به ، وتشعرهم بأنهم له ، وأنهم يحملون شارته ، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده ، وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده ، وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارا لهم ومنة عليهم ، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا ، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره ، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم ، ويسلم ويستسلم :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله إن الله سميع عليم ) . .
يا أيها الذين آمنوا ، لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحا ، لا في خاصة أنفسكم ، ولا في أمور الحياة من حولكم . ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله ، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله .
قال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا وكذا . لو صح كذا . فكره الله تعالى ذلك . وقال العوفي : نهوا أن يتكلموا بين يديه . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه . وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم . وقال علي بن طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .
فهو أدب نفسي مع الله ورسوله . وهو منهج في التلقي والتنفيذ . وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته . . وهو منبثق من تقوى الله ، وراجع إليها . هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم . . وكل ذلك في آية واحدة قصيرة ، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصلية الكبيرة .
وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم ؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله ؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يدلي به ؛ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم ، إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول . .
روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - باسناده - عن معاذ - رضي الله عنه - حيث قال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ? " قال : بكتاب الله تعالى . قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فإن لم تجد ? " قال : بسنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فإن لم تجد ? " قال - رضي الله عنه - : أجتهد رأيي . فضرب في صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما يرضي رسول الله " .
وحتى لكأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يسألهم عن اليوم الذي هم فيه ، والمكان الذي هم فيه ، وهم يعلمونه حق العلم ، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم : الله ورسوله أعلم . خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله !
جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي - رضي الله عنه - أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] سأل في حجة الوداع :
" أي شهر هذا ? " . . قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : " أليس ذا الحجة ? " قلنا بلى ! قال : " أي بلد هذا ? " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : " أليس البلدة الحرام ? " قلنا : بلى ! قال : " فأي يوم هذا ? " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : أليس يوم النحر ? قلنا بلى ! . . الخ .
فهذه صورة من الأدب ، ومن التحرج ، ومن التقوى ، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء ، وذلك التوجيه ، وتلك الإشارة إلى التقوى ، تقوى الله السميع العليم .
وهي مدنية{[1]} .
هذه آداب {[27018]} ، أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ] } {[27019]} ، أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه ، أي : قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ، [ إذ ] {[27020]} قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : بسنة رسول الله . قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله ، لما يرضي رسول الله " .
وقد رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .
وقال العَوْفي عنه : نهى{[27021]} أن يتكلموا بين يدي كلامه .
وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ، حتى يقضي الله على لسانه .
وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم .
وقال سفيان الثوري : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } بقول ولا فعل .
وقال الحسن البصري : { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال : لا تدعوا قبل الإمام .
وقال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا كذا ، وكذا لو صنع كذا ، فكره الله ذلك ، وتقدم فيه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : فيما أمركم به ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي : لأقوالكم { عَلِيمٌ } بنياتكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا : يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، وبنبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهَ وَرَسُولِهِ يقول : لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله ، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا تُقَدّموا بينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ يقول : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ ورَسُولِهِ . . . الاَية قال : نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا أيّها الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ ذُكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا ، قال : فكره الله عزّ وجلّ ذلك ، وقدم فيه .
وقال : الحسن : أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، فأمرهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : إن أُناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، لو أنزل في كذا ، وقال الحسن : هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الذبح .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ يعني بذلك في القتال ، وكان من أمورهم لا يصلح أن يُقْضَى إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله جلّ ثناؤه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقضوا أمرا دون رسول الله ، وبضم التاء من قوله : لا تُقَدّمُوا قرأ قرّاء الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا ، وتقدّمت في كذا ، فعلى هذه اللغة لو كان قيل : «لا تَقَدّمُوا » بفتح التاء كان جائزا .
وقوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول : وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم ، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله ، وفي غير ذلك من أموركم ، وراقبوه ، إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم ، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم ، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم .
بسم الله الرحمن الرحيم { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا } أي لا تقدموا أمرا ، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن ، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأسا أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم ، ويؤيده قراءة يعقوب " لا تقدموا " . وقرئ " لا تقدموا " من القدوم . { بين يدي الله ورسوله } مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجينا لما نهوا عنه ، والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به . وقيل المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله . { واتقوا الله } في التقديم أو مخالفة الحكم . { إن الله سميع } لأقوالكم . { عليم } بأفعالكم .
سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير ( سورة الحجرات ) وليس لها اسم غيره ، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الحجرات . ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ، فعرفت بهذه الإضافة .
وهي مدنية باتفاق أهل التأويل ، أي مما نزل بعد الهجرة ، وحكى السيوطي في الإتقان قولا شاذا أنها مكية ولا يعرف قائل هذا القول .
وفي أسباب النزول للواحدي أن قوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية نزلت بمكة في يوم فتح مكة كما سيأتي ، ولم يثبت أن تلك الآية نزلت بمكة كما سيأتي . ولم يعدها في الإتقان في عداد السور المستثنى بعض آياتها .
وهي السورة الثامنة بعد المائة في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة المجادلة وقبل سورة التحريم وكان نزول هذه السورة سنة تسع ، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله تعالى { يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } وقوله { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } .
وعد جميع العادين آيها ثمان عشرة آية .
تتعلق أغراضها بحوادث جدت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب .
وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته وخطابه ونداءه ، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من بيوته كما سيأتي عند قوله تعالى { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } .
ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به ، والتثبت في نقل الخبر مطلقا وأن ذلك من خلق المؤمنين ، ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين ، وتطرق إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين ، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة ، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية ، وتخلص من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب تقويما لأود نفوسهم .
وقال فخر الدين عند تفسير قوله تعالى { يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } : هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس ، وهم على صنفين : إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهو الفسوق ، والداخل في طائفتهم : إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام ، قال : فذكر الله في هذه السورة خمس مرات { يا أيها الذين آمنوا } وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة ، وسنأتي على بقية كلامه عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة .
وهذه السورة هي أول سور المفصل بتشديد الصاد ويسمى المحكم على أحد أقوال في المذهب ، وهو الذي ارتضاه المتأخرون من الفقهاء وفي مبدأ المفصل عندنا أقوال عشرة أشهرها قولان قيل : إن مبدأه سورة ق وقيل سورة الحجرات ، وفي مبدأ وسط المفصل قولان أصحهما أنه سورة عبس ، وفي قصاره قولان أصحهما أنها من سورة والضحى .
واختلف الحنفية في مبدأ المفصل على أقوال اثني عشر ، والمصحح أن أوله من الحجرات ، وأول وسط المفصل سورة الطارق ، وأول القصار سورة إذا زلزلت الأرض .
وعند الشافعية قيل : أول المفصل سورة الحجرات ، وقيل سورة ق ، ورجحه ابن كثير في التفسير كما سيأتي .
وعند الحنابلة أول المفصل سورة ق .
والمفصل هو السور التي تستحب القراءة ببعضها في بعض الصلوات الخمس على ما هو مبين في كتب الفقه .
الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق . ووَصْفُهم ب { الذين آمنوا } جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذِن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال .
وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى الله عليه وسلم أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب ، فهذه خمسة أقسام ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات { يا أيها الذين آمنوا } فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها .
والتقدم حقيقته : المشي قبل الغير ، وفعله المجرد : قَدُم من باب نصر قال تعالى : { يَقْدُم قومه يوم القيامة } [ هود : 98 ] . وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعدياً إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدّى إلى المفعول الثاني بحرف على .
ويقال : قدَّم بمعنى تَقدم كأنه قدّم نفسه ، فهو مضاعف صار غير متعد . فمعنى { لا تقدموا } لا تتقدموا .
ففعل { لا تقدموا } مضارع قَدَّم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول ، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة . ومنه سميت مقدمةَ الكتاب الطائفةُ منه المتقدمة على الكتاب . ومادة فَعَّل تجيء بمعنى تفعّل مثل وجّه بمعنى توجّه وبَيَّن بمعنى تبيّن ، ومن أمثالهم بَيّن الصبح لذي عينين .
والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلاً دون إذن مِن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مُماشِيَه في مَشيه ويتركه خلفه . ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق . والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتياتا على الشرع .
ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومىء إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه .
وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء : إن المكلف لا يقدِم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه . وعدّ الغزالي العلمَ بحكم ما يُقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على الأعيان الذين تعرض لهم . والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حصل من قوله : { لا تقدموا } الخ معنى اتبعوا الله ورسوله .
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في « صحيحه » في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال « قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أمَّرْ عليهم القعقاع بن معبد بن زُرارة . وقال عُمر : بل أمِّر الأقرعَ بن حابس . قال أبو بكر : ما أردت إلاّ خلافي أو إلَى خلافي قال عمر : ما أردت خِلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } [ الحجرات : 1 ، 2 ] .
فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهرِ له بالقول وندائه من وراء الحجرات . وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بَعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية فقتلتْ بنُو عامر رجالَ السرية إلا ثلاثة نَفرٍ نَجَوا فلقُوا رجلين من بين سُليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنّاً منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعزُّ من بني سليم ، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال : " بئسما صنعتم كانَا من بني سليم ، والسلَب ما كَسَوْتُهما " أي عرف ذلك لما رأى السلب فعَرَفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا } الآية ، أي لا تعملوا شيئاً من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول . وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها . وأيَّا مَّا كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد .
وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدَّمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمرَ وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيداً لقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ، لأن من خصه الله بهذه الحظوة ، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه .
وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب .
وقرأه الجمهور { تقدموا } بضم الفوقية وكسر الدال مشددة . وقرأه يعقوب بفتحهما على أن أصله : لا تتقدموا . وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنَبإ فتبيّنوا } [ الحجرات : 6 ] في هذه السورة : إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي : إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم : إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة ، وإمّا أن يكونوا خارجين عنها بالفسق ؛ والداخل في طريقتهم : إما حاضر عندهم ، أو غائب عنهم ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات { يا أيها الذين آمنوا } وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة .
فقال أولاً : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بي يدي اللَّه ورسوله } وهي تشمل طاعة الله تعالى ، وذُكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله . وقال ثانياً : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } [ الحجرات : 2 ] لبيان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لذاته في باب حسن المعاملة . وقال ثالثاً : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم ، وأعقبه بآية { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] . وقال رابعاً { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } [ الحجرات : 11 ] إلى قوله : { فأولئك هم الظالمون } [ البقرة : 229 ] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلّما يقام لها وزن . وقال خامساً : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } إلى قوله : { تواب رحيم } [ الحجرات : 12 ] اهـ .
ويريد : أن الله ذكر مثالاً من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالاً على بقية نوعه ومرشداً إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة . وقد سلك القرآن لإقامة أهم حُسن المعاملة طريقَ النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة .
وعَطْف { واتقوا اللَّه } تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده ، أي ضده ليس من التقوى .
وجملة { إن اللَّه سميع عليم } في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله .
والسميع : العليم بالمسموعات ، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم بالأدب معه في نفسه وفي أمته، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون دليلا على الباطن فيسمى إيمانا، كما أن الإيمان بالله يشترط فيه فعل الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون بينة على الباطن وحجة شاهدة له {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} فحاصل مقصودها مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنها أول المفصل الذي هو ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله... واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما دلت عليه آيته.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال المهايميّ: سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام. وهو من أعظم مقاصد القرآن...
وقد انفردت هذه السورة بآداب جليلة، أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وسلم، من التوقير والتبجيل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود والإنسانية. حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات!
وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير.
وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة، لعالم رفيع كريم نظيف سليم؛ متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم؛ والتي تكفل قيامه أولاً، وصيانته أخيراً.. عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله.. علم نقي القلب، نظيف المشاعر، عف اللسان، وقبل ذلك عف السريرة.. عالم له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره. أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه. وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته. وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه؛ فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائعه ومشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره؛ وتتناسق أحاسيسه وخطاه، وهو يتجه ويتحرك إلى الله.. ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور؛ ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم. بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق. كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها. بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالأفراد؛ وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق.
هو عالم له أدب مع الله، ومع رسول الله. يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب، والرسول الذي يبلغ عن الرب: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله، إن الله سميع عليم).. فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم؛ ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه؛ ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه.. تقوى منه وخشية، وحياء منه وأدبا.. وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتوقيره: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي. ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم. إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم، والله غفور رحيم)..
وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها، قبل الحكم عليها. يستند هذا المنهج إلى تقوى الله، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله، في غير ما تقدم بين يديه، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين؛ واعلموا أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم. ولكن الله حبب إليكم الإيمان، وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم)..
وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج. وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين، ومن حقيقة العدل والإصلاح، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون)..
وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض؛ وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم؛ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن؛ ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب. بئس الاسم: الفسوق بعد الإيمان. ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)..
وهو عالم نظيف المشاعر، مكفول الحرمات، مصون الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بظنة، ولا تتبع فيه العورات، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضا. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ فكرهتموه! واتقوا الله، إن الله تواب رحيم).
وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب؛ وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع. إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)..
والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم، تحدد معالم الإيمان، الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم. وباسمه هتف لهم ليلبوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل، الحافز إلى التلبية والتسليم: يا أيها الذين آمنوا.. ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من الله أن لا يجيب؛ والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب: (قالت الأعراب: آمنا. قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا، إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. قل: أتعلمون الله بدينكم، والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم)..
وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر. هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق: يمنون عليك أن أسلموا. قل: لا تمنوا علي إسلامكم. بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون..
فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة، ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها، فهو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة، التي تمثل ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم، الذي وجدت حقيقته يوما على هذه الأرض؛ فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية، ولا حلما طائرا، يعيش في الخيال!
هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة؛ ولم تخلق بين يوم وليلة. كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة. بل نمت نموا طبيعيا بطيئا كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور. وأخذت الزمن اللازم لنموها، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو. واحتاجت إلى العناية الساهرة، والصبر الطويل، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب، والتوجيه والدفع، والتقوية والتثبيت. واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية؛ مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات.. وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة -على علم- لحمل هذه الأمانة الكبرى؛ وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض. وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل؛ وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء.. وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية؛ ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنها حلم مرفرف في قلب، أو رؤيا مجنحة في خيال!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير (سورة الحجرات) وليس لها اسم غيره، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الحجرات. ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته، فعرفت بهذه الإضافة.
وهي مدنية باتفاق أهل التأويل، أي مما نزل بعد الهجرة...
كان نزول هذه السورة سنة تسع، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وقوله {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}...
تتعلق أغراضها بحوادث جدت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب.
وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته وخطابه ونداءه، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من بيوته كما سيأتي عند قوله تعالى {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}.
ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به، والتثبت في نقل الخبر مطلقا وأن ذلك من خلق المؤمنين، ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين، وتطرق إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية، وتخلص من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب تقويما لأود نفوسهم.
وقال فخر الدين عند تفسير قوله تعالى {يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا}: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهو الفسوق، والداخل في طائفتهم: إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام، قال: فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يا أيها الذين آمنوا} وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة، وسنأتي على بقية كلامه عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة.
وهذه السورة هي أول سور المفصل بتشديد الصاد ويسمى المحكم على أحد أقوال في المذهب، وهو الذي ارتضاه المتأخرون من الفقهاء...
والمفصل هو السور التي تستحب القراءة ببعضها في بعض الصلوات الخمس على ما هو مبين في كتب الفقه.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية. والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة، أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا": يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله، وبنبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ "يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه... عن ابن عباس، قوله: "لا تُقَدّموا بينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة...
عن مجاهد، في قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" قال: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه...
وقال: الحسن: أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر...
عن قتادة، في قوله "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" قال: إن أُناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا...
قال ابن زيد، في قوله جلّ ثناؤه: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" قال: لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله...
وقوله: "وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" يقول: وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله، وفي غير ذلك من أموركم، وراقبوه، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا تُقدّموا بين يدي الله ورسوله} قال بعضهم: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في شيء، بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعت أصواتهما، فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله} إلى آخر ما ذكر من قوله: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ}.
قال أبو بكر: يُحتجُّ بهذه الآية في امتناع جواز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم الفروض على أوقاتها وتأخيرها عنها وفي تركها، وقد يَحْتَجُّ بها من يوجب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في تَرْكِ ما فَعَلَهُ تقدماً بين يديه، كما أن في ترك أمره تقدماً بين يديه. وليس ذلك كما ظنوا؛ لأن التقدم بين يديه إنما هو فيما أراد منا فعله ففعلنا غيره، فأما ما لم يثبت أنه مراد منه فليس في تركه تقديم بين يديه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}: شهادةٌ للمنادَى بالشَّرف...
{لاَ تُقَدِّمُواْ} أَمْرٌ بتحمُّل الكُلَف. قدَّمَ الإكرام بالشرف على الإلزام بالكُلَف أي لا تقدموا بحكمكم {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: أي لا تقضوا أمراً من دون الله ورسوله أي لا تعملوا من ذات أنفسِكم شيئاً. ويقال: قفوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، وكونوا أصحابَ الاقتداءِ والاتّباع.. لا أربابَ الابتداءِ والابتداع...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه...
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل ورد وصدر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أن لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل، وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم...
{واتقوا} فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمراً إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه...
{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لما تقولون {عَلِيمٌ} بما تعملون، وحق مثله أن يتقى ويراقب...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ...
قوله تعالى: {لا تقدموا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من التقديم الذي هو متعد، وعلى هذا ففيه وجهان:
أحدهما: ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى: {يحيي ويميت} وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعا وإعطاء كذلك هاهنا، كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلا. والثاني أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول {لا تقدموا} يعني فعلا {بين يدي الله ورسوله} أو لا تقدموا أمرا.
الثاني: أن يكون المراد {لا تقدموا} بمعنى لا تتقدموا، وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبي صلى الله عليه وسلم، يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه، والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدما في الدخول في الأمور العظام، وفي الذكر عند ذكر الكرام، وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فالمعنى واحد لأن قوله {لا تقدموا} إذا جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما ورأيا عنده، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمرا وفعلا، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال.
وقوله تعالى: {بين يدي الله ورسوله} أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله {بين يدي الله ورسوله} فوائد: أحدها أن قول القائل فلان بين يدي فلان، إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضرا عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان، لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك، ولأن اليدين تنبئ عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعا بين يديه، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم، وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم. وثانيها ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره، وذلك لأن احترام الرسول صلى الله عليه وسلم قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال: {بين يدي الله} أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله. وثالثها هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله {واتقوا} لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديرا بأن يتقيه.
وقوله تعالى: {واتقوا الله} يحتمل أن يكون ذلك عطفا يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان، بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك، وهي التي في قول القائل احترم زيدا واخدمه، أي ائت بأتم الاحترام، فكذلك هاهنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا الله واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام. وقوله تعالى: {إن الله سميع عليم} يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا، لأن الخطاب يفهم بقوله {يأيها الذين آمنوا} فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم، بل ينبغي أن يتم ما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر، وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {لا تقدموا} وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم- كل مذهب، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلاً، بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل،...
{بين يدي الله} أي الملك الذي لا يطاق انتقامه...
{ورسوله} أي الذي عظمته ظاهرة جداً، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره، فهو تمهيد لما يأتي من تعظيمه، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه، وإجلالاً له...
فالمعنى: لا تكونوا متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى، فعلى الغير الاقتداء والاتباع، لا الابتداء والابتداع، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً أو حاضراً بموت أو غيره. فإن آثاره كعينه...
{واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين غضب- الملك الأعظم وقاية، فإن التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه...
{إن الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال. ولما كان- ما يتقدم فيه إما قولاً أو فعلاً قال: {سميع} أي لأقوالكم أن تقولوها {عليم} أي بأعمالكم قبل أن تعملوها...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{يا أَيُّهَا الذين آمَنُوا} تصديرُ الخطابِ بالنداءِ لتنبيهِ المخاطبينَ عَلى أنَّ مَا في حيزهِ أمرٌ خطيرٌ يستدعِي مزيدَ اعتنائِهم بشأنِه وفرطَ اهتمامِهم بتلقّيهِ ومراعاتِه، ووصفهُمْ بالإيمانِ لتنشيطِهمْ والإيذانِ بأنَّه داعٍ إلى المحافظةِ عليهِ ووازعٌ عن الإخلالِ بهِ {لاَ تُقَدّمُوا} أيْ لا تفعلُوا التقديمَ عَلى أنَّ تركَ المفعولِ للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ منْ غيرِ اعتبارِ تعلقِه بأمرٍ منَ الأمورِ عَلى طريقةِ قولِهم فلانٌ يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ، أو لا تقدّمُوا أمراً منَ الأمورِ عَلى أنَّ حذفَ المفعولِ للقصدِ إلى تعميمهِ، والأولُ أَوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه النهيَ عنِ التلبسِ بنفسِ الفعلِ الموجبِ لانتفائِه بالكليةِ المستلزِمِ لانتفاءِ تعلقهِ بمفعولِه بالطريقِ البرهانيِّ وقدْ جُوِّز أنْ يكونَ التقديمُ بمعَنى التقدمِ ومنْهُ مقدمةُ الجيشِ للجماعةِ المتقدمةِ ويعضُده قراءةُ منْ قَرأ لا تَقدّمُوا بحذفِ إحْدَى التاءينِ منْ تتقدمُوا منَ القدومِ وقوله تعالى: {بَيْنَ يَدَي الله وَرَسُولِهِ} مستعارٌ ممَّا بينَ الجهتينِ المسامتتينِ ليدي الإنسانِ تهجيناً لِما نُهوا عنْهُ
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تبدأ السورة بأول نداء حبيب، وأول استجاشة للقلوب. (يا أيها الذين آمنوا).. نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب. واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم بأنهم له، وأنهم يحملون شارته، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده، وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارا لهم ومنة عليهم، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم، ويسلم ويستسلم:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم)..
يا أيها الذين آمنوا، لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحا، لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم. ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله...
فهو أدب نفسي مع الله ورسوله. وهو منهج في التلقي والتنفيذ. وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته.. وهو منبثق من تقوى الله، وراجع إليها. هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم.. وكل ذلك في آية واحدة قصيرة، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصلية الكبيرة.
وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يدلي به؛ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم، إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول..
روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه -باسناده- عن معاذ -رضي الله عنه- حيث قال له النبي [صلى الله عليه وسلم] حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى. قال [صلى الله عليه وسلم]: " فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال [صلى الله عليه وسلم]: " فإن لم تجد؟ " قال -رضي الله عنه -: أجتهد رأيي. فضرب في صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما يرضي رسول الله".
وحتى لكأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يسألهم عن اليوم الذي هم فيه، والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله!
جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي- رضي الله عنه -أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سأل في حجة الوداع:
" أي شهر هذا؟".. قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: " أليس ذا الحجة؟ " قلنا بلى! قال: " أي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: " أليس البلدة الحرام؟ " قلنا: بلى! قال: " فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا بلى!.. الخ.
فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى، تقوى الله السميع العليم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق. ووَصْفُهم ب {الذين آمنوا} جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذِن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال...
فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها.
والتقدم حقيقته: المشي قبل الغير، وفعله المجرد: قَدُم من باب نصر قال تعالى: {يَقْدُم قومه يوم القيامة} [هود: 98]. وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعدياً إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدّى إلى المفعول الثاني بحرف على.
ويقال: قدَّم بمعنى تَقدم كأنه قدّم نفسه، فهو مضاعف صار غير متعد. فمعنى {لا تقدموا} لا تتقدموا.
ففعل {لا تقدموا} مضارع قَدَّم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة. ومنه سميت مقدمةَ الكتاب الطائفةُ منه المتقدمة على الكتاب. ومادة فَعَّل تجيء بمعنى تفعّل مثل وجّه بمعنى توجّه وبَيَّن بمعنى تبيّن، ومن أمثالهم بَيّن الصبح لذي عينين.
والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلاً دون إذن مِن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مُماشِيَه في مَشيه ويتركه خلفه. ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق. والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتياتا على الشرع.
ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومئ إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه.
وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء: إن المكلف لا يقدِم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه. وعدّ الغزالي العلمَ بحكم ما يُقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على الأعيان الذين تعرض لهم.
والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حصل من قوله: {لا تقدموا} الخ معنى اتبعوا الله ورسوله.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في « صحيحه» في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال « قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمَّرْ عليهم القعقاع بن معبد بن زُرارة. وقال عُمر: بل أمِّر الأقرعَ بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلاّ خلافي أو إلَى خلافي قال عمر: ما أردت خِلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 1، 2].
فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهرِ له بالقول وندائه من وراء الحجرات. وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بَعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية فقتلتْ بنُو عامر رجالَ السرية إلا ثلاثة نَفرٍ نَجَوا فلقُوا رجلين من بين سُليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنّاً منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعزُّ من بني سليم، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: "بئسما صنعتم كانَا من بني سليم، والسلَب ما كَسَوْتُهما " أي عرف ذلك لما رأى السلب فعَرَفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا} الآية، أي لا تعملوا شيئاً من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول. وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها. وأيَّا مَّا كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد.
وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدَّمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمرَ وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيداً لقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية، لأن من خصه الله بهذه الحظوة، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه.
وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب...
وعَطْف {واتقوا اللَّه} تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده، أي ضده ليس من التقوى.
وجملة {إن اللَّه سميع عليم} في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله.
والسميع: العليم بالمسموعات، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر.